التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القيد في المنام

          ░26▒ بَابُ الْقَيْدِ فِي الْمَنَامِ
          7017- ذَكَرَ فيه حديثَ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيْرِينَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ) قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَنَا أَقُولُ: هَذِهِ الأُمَّةُ.
          قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ، وَبِشْرَى مِنَ اللهِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلَا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ.
          قَالَ: وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِي النَّوْمِ، وَكَانَ يُعْجِبُهُمْ الْقَيْدُ، وَيُقَالُ: الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ. وَرَوَاهُ قَتَادَةَ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَأَبُو هِلَالٍ _وهو مُحَمَّدُ بن سُلَيمٍ الرَّاسبيُّ_ عَنِ ابْنِ سِيْرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنْ رَسُولِ الله صلعم. وَأَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ كُلَّهُ فِي الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ عَوْفٍ أَبْيَنُ. وَقَالَ يُونُسُ: لَا أَحْسِبُهُ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي الْقَيْدِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: لَا تَكُونُ الْأَغْلَالُ إِلَّا فِي الْأَعْنَاقِ.
          الشَّرحُ: كأنَّ المرادَ بقولِه: (وَأَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ كُلَّهُ فِي الحَدِيثِ) أي نَسَبَهُ إلى رسولِ الله صلعم: أيُّوبُ بنُ أبي تَمِيمةَ؛ فإنَّ مُسلمًا أخرجه عن مُحَمَّدِ بنِ أبي عُمَرَ: حدَّثنا عبدُ الوهَّابِ الثَّقَفيُّ عنه عنِ ابنِ سِيْرِينَ كلَّه، قال: ((ولا يُحدِّثْ بها النَّاس)). قال: ((وأُحِبُّ القَيْدَ وأكرَهُ الغُلَّ، والقيد ثباتٌ في الدِّينِ)) فلا أدري أهو في الحديثِ أمَ قاله مُحَمَّدُ بن سِيْرِينَ؟ ثمَّ قال: وحدَّثنا مُحَمَّد بن رافعٍ حدَّثنا عبدُ الرَّزَّاق أخبرنا مَعْمَرٌ عن أيُّوبَ بهذا الإسنادِ وقال في الحديثِ: قال أبو هُرَيْرَةَ: فَيُعجِبُنِي القَيْدُ وأكرهُ الغُلَّ، والقَيْد ثباتٌ في الدِّين. وحدَّثني أبو الرَّبيعِ حدَّثنا حمَّادٌ حدثنا أيُّوبُ وهِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: إذا اقترب الزَّمان. وساق الحديث ولم يذكر فيه رسولَ الله صلعم. وحدَّثنا إِسْحَاقُ بن إبراهيمَ حدَّثنا معاذُ بن هِشَامٍ حدَّثني أبي عن قَتَادَةَ عن مُحَمَّد بن سِيْرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ عن رسولِ الله صلعم، وأدرَجَ في الحديثِ قولَه: ((وَأَكْرَهُ الغُلَّ...)) إلى آخِرِه، ولم يَذكُرِ: ((الرُّؤيا جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأربعين جُزْءًا)).
          وأخرج التِّرْمِذِيُّ _وقال: حديثٌ صحيحٌ_ مِن حديثِ سَعِيدٍ عن قَتَادَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ رَفَعَهُ: ((الرُّؤيا ثلاثٌ: رُؤيا حقٍّ، ورُؤيا يحدِّثُ الرَّجُلُ بها نفْسَه، ورُؤيا تحزينٍ مِن الشيطان، فمَن رأى ما يَكرَهُ فَلْيَقُمْ فلْيُصَلِّ)) وكان أبو هُرَيْرَةَ يقول: يعجبُنِي القَيْدُ وأكرَهُ الغُلَّ، القَيْدُ ثباتٌ في الدِّين، وكان يقولُ: لا تَقُصَّ الرؤيا إلَّا على عالِمٍ أو ناصِحٍ. وقال المُهَلَّب: ورُوِيَ عن رسولِ الله صلعم: ((القَيْدُ ثباتٌ في الدِّين)) مِن روايةِ قَتَادَةَ ويُونُسَ وغيرِهم، وتفسيرُ ذلك أنَّه يَمنَعُ الخَطَايا ويصدُّ عنها. وروى ابنُ ماجه مِن حديثِ وَكِيْعٍ عن أبي بكْرٍ الهُذَليِّ عنِ ابنِ سِيْرِينَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ القَيْدِ مرفوعَةً.
          ورَوَى الخطيبُ في كتابِه «الفَصْلُ والوَصْل» مِن حديثِ عليِّ بن عاصمٍ عن خالدٍ وهِشَامٍ عن مُحَمَّدٍ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ مرفوعًا: ((إذا اقتربَ الزَّمانُ)) الحديثَ كلَّه مرفوعًا مِن حديث يَزِيدَ بن زُرَيعٍ عن سَعِيدٍ عن قَتَادَةَ عن مُحَمَّدٍ، وفيه: وكان يقولُ: ((أكرَهُ الغُلَّ، ويُعجِبني القَيْدُ، القَيْدُ ثباتٌ في الدِّين)) وكان يقول: ((إذا رأى أحدُكم شيئًا يكرهُهُ فَلَيقُم فلْيِصَلِّ)) قال الخطيب: كذا رَوَى يَزِيدُ، قَصَرَ عن سِياقَةِ خالدٍ وهِشَامٍ عن مُحَمَّدٍ الَّتي بدأْنا بها، وَرَوَى عبدُ الوهَّابِ عن أيُّوبَ عن مُحَمَّدٍ مِثْلَ روايةِ خالدٍ وهِشَامٍ.
          قال الخطيب: جاءَ في هذه الأحاديثِ الَّتي ذكرْنَاها جميعُ هذا المتنِ مِن قولِ رَسُولِ اللهِ صلعم وليس هو كذلك؛ لأنَّ ذِكْرَ القَيْدِ والغُلِّ قولُ أبي هُرَيْرَةَ أُدْرِجَ في الحديثِ، وبيَّنَهُ مَعْمَرٌ في روايتِه عن أيُّوبَ عن مُحَمَّدٍ، ورواه عوفُ بنُ أبي جَمِيلةَ عن مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ أنَّ أوَّلَ المتنِ إلى قولِه: (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبوَّة) مرفوعٌ وما بعدَه فمِن كلامِ ابنِ سِيْرِينَ. قلتُ: فهذا يُرِي مخالفةَ مُسلمٍ وغيرِه البُخَارِيَّ في الَّذي ذَكَرَهُ وكذا مُخالفةَ التِّرْمِذِيِّ لِمَا ذَكَرَهُ في القَيْدِ.
          فَصْلٌ: قد يَنْصَرِفُ القَيْدُ على وجوهٍ؛ فمَن رآه فيِ رِجْلِه وهو مسافِرٌ أقامَ بذلك الموضِعِ إلَّا أن يَرَى ذلك قد حُلَّ عنه، وكذلك مَن رأى قيدًا في رِجْلِهِ في مسجدٍ أو في موضِعٍ يُنسَبُ إلى الخيرِ فإنَّه دِينٌ ولزومٌ لِطاعةِ رَبِّهِ وعبادةٌ له، فإنْ رآه مريضٌ أو مسجونٌ أو مكروبٌ فهو طولُ بقائِه فيه، وكذلك إنْ رآهُ صاحبُ دُنيا فهو طُولُ بقائِه فيها.
          فَصْلٌ: وكُرِه الغُلُّ لأنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أنَّه مِن صِفاتِ أهْلِ النَّارِ، فقال: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} الآية [غافر:71] فقد يدلُّ على الكُفْرِ وقد يكون الغُلُّ امرأةَ سوءٍ تَشِين حَلِيلَها، وأمَّا غُلُّ اليدين لغيرِ العُنُقِ فهو كفُّها عن الشَّرِّ، فإنْ كان مع القَيدِ غُلٌّ غُلِّبَ المكروهُ لأنَّها صِفة المدِينين، ويدلُّ الغُلُّ على الوِلاياتِ إذا كانت معه قرائنُ كما رُوِيَ أنَّ / كُلَّ والٍ يُحشَرُ مغلولًا حتَّى يُطْلِقَه عَدْلُهُ.
          فَصْلٌ: معنى: (اقْتَرَبَ الزَّمَانُ) فيه أقوالٌ:
          إذا دنا قيامُ السَّاعةِ، قال ابنُ بطَّالٍ: معناهُ واللهُ أعلمُ إذا اقتربَتِ السَّاعةُ وقُبِضَ أكثرُ العِلْمِ ودَرَسَتْ معالِمُ الدِّيانةِ بالهَرْجِ والفِتْنَةِ، فكان النَّاسُ على فترةٍ مِن الرُّسُلِ يحتاجون إلى مُذَكِّر ومُجَدِّد لِمَا دَرَسَ مِن الدِّينِ، كما كانت الأممُ قبلَنا تُذكَّرُ بالنُّبوَّة، فلمَّا كان نبيُّنا صلعم خاتَمَ الرُّسُلِ وما بعدَه مِن الزَّمانِ ما يُشبِهُ الفترةَ عُوِّضوا ممَّا مُنِعَ مِن النُّبوَّةِ بعده بالرُّؤيا الصَّادقةِ الَّتي هي جُزْءٌ مِن النُّبُوَّةِ الآتيةِ بالتَّبشيرِ والإنذار.
          ثانيها قاله أبو داودَ: معناه تقارب زمانِ اللَّيلِ والنَّهَارِ وقْتَ استوائِهما أَيَّامَ الرَّبيع، وذلك عند اعتدالِ اللَّيلِ وإدراكِ الثِّمارِ ويَنْعِها، والمعبِّرون يزعُمُونَ أنَّ أصدقَ الأزمانِ لِوقوعِ التَّعبيرِ انفتاقُ الأنوارِ ووقتُ يَنْعِ الثِّمارِ وإدراكِها، وهما الوقتانِ اللَّذَانِ يَتقاربُ الزَّمانُ فيهما ويعتدِلُ اللَّيلُ والنَّهارُ. قال ابنُ بطَّالٍ: والأوَّلُ هو الصَّوابُ الَّذي أرادَهُ الشَّارعُ لأنَّه قد رُوِيَ مرفوعًا عنه مِن طريقِ مَعْمَرٍ عن أيُّوبَ عن ابنِ سِيْرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ رَفَعَهُ: ((في آخِرِ الزَّمان لا تَكْذِبُ رؤيا المؤمِنِ، وأصدقُهم رؤيا أصدقُهم حديثًا))
          ثالثُها: تَقَصُّرُ السَّاعاتِ والأيَّامِ واللَّيالي، ذكرهُ الدَّاوُدِيُّ في تفسيرِ قولِه ◙: ((يَتَقارب الزَّمان وينقصُ العِلْمُ)).
          فَصْلٌ: وأمَّا قولُ ابنِ سِيْرِينَ: (أَنَا أَقُوْلُ: هَذِهِ الأُمَّةُ) فتأويلُه واللهُ أعلمُ أنَّه لَمَّا كان عندَه معنى قولِه: (رُؤْيَا المُؤْمِنِ...) إلى آخرِه، ويُراد به رُؤيا الرَّجُلِ الصَّالحِ لِقولِه ◙: ((الرُّؤيا الحَسَنةُ يَراها الرَّجُلُ الصَّالح)) الحديث، وقال: (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا المُؤْمِنِ) خَشِيَ ابنُ سِيْرِينَ أنْ يُتَأوَّلَ معناه أنْ عند تقارُبِ الزَّمانِ لا تصدقُ إلَّا رُؤيا الصَّالحِ المستكمِلِ الإيمانِ خاصَّةً، فقال: (وَأَنَا أَقُوْلُ: هَذِهِ الأُمَّة) أنَّه تَصْدُقُ رُؤيا هذه الأُمَّةِ كلِّها صالِحِها وفاجِرِها، فيكون صِدْقُ رُؤياهم زاجرًا لهم وحُجَّةً عليهم لِدُروسِ أعلامِ الدِّين وطَمْسِ آثارِه بِمَوتِ العلماءِ وظهور المنكَر.
          وما ذَكَرْتُه مِن قولِهم: (الأُمَّةِ) بعدَ (هَذِهِ) كذا في «كتابِ ابنِ بطَّالٍ» أَصْلًا وشرْحًا، والَّذي في الأصولِ حذْفُ لَفْظِ: (الْأُمَّةِ) كما سُقتُهُ، وقد قال الخطيبُ: إنَّ الإدراجَ إنَّما هو مِن قولِ مُحَمَّدٍ لا مِن قولِ غيرِه خِلافَ ما سَلَفَ عن التِّرْمِذِيِّ، فكأنَّ مُحَمَّدًا قال لَمَّا انتهى الحديثُ المرفوعُ: وأنا أقولُ هذه المقالةَ. وهو أوضحُ ممَّا ذكرَهُ ابنُ بطَّالٍ.
          فَصْلٌ: وقولُ البُخَارِيِّ: (لاَ تَكُونُ الأَغْلاَلُ إِلَّا فِي الأَعْنَاقِ) كأنَّه أرادَ أصْلَه، فقد قال ابنُ سِيدَه في «مُجمَلِه» وغيرُه: الغُلُّ جامعةٌ تُوضَعُ في العُنُقِ أو اليدِ، والجمْعُ أَغْلَالٌ لا يُكَسَّرُ على غيرِ ذلك. وفي «الجامع»: واليدُ مغلولةٌ أي مجعولةٌ في الغُلِّ، قال تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64].