التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اذا طار الشيء في المنام

          ░38▒ بَابٌ إِذَا طَارَ الشَّيْءُ فِي الْمَنَامِ
          7033- 7034- ذَكَرَ فيه حديثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ إسْوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَفُظِعْتُهُمَا) الحديثُ بِطُولِه.
          وقد سَلَفَ مطوَّلًا في قصَّةِ العَنْسِيِّ الكذَّابِ في أواخِرِ المغازي [خ¦4378] وفي علاماتِ النُّبوَّةِ [خ¦3620].
          و(ابْنِ نَشِيطٍ) في إسنادِه هو عبدُ اللهِ بنُ عُبَيدَةِ بنِ نَشِيطٍ أخو مُوسى بن عُبَيدة، يُقال: بينهما في الولادةِ ثمانون سنةً، وعبدُ الله هو الأكبرُ قَتَلَهُ الحَرُوريَّةُ بِقُدَيدٍ سنةَ ثلاثين ومئةٍ. ويُقال فيهما: الرَّبذيُّ القُرَشيُّ العامِرِيُّ مولاهم، ويُنْسَبُون إلى اليمنِ أيضًا.
          وقوله فيه: (فَفُظِعْتُهُمُا) هو بكسْرِ الظَّاء. قال ابنُ التِّين: وكذا رُوِّيناه، يُقال: فَظُعَ الأمْرُ فَظَاعَةً وأَفْظَعَ اشتدَّ، وفُظِعْتُ بالأمْرِ أَفْظَعَني اشتدَّ عَلَيَّ. قال الدَّاوُدِيُّ: وفيه دليلٌ أنَّ كلَّ ما يراهُ الإنسانُ مِن حِلْيَة النِّساءِ شُغْلٌ، وزوالُه زوالُ ذلك الشُّغْلِ.
          وقولُه: (إسْوَارَانِ) كذا وقع هنا بالألِفِ وفيما سَلَفَ، ويأتي بدونها [خ¦7037] وهو الأكثرُ عند أهلِ اللُّغة، كما قاله ابنُ بطَّالٍ. وقال ابنُ التِّين في بابِ النَّفخِ: قولُه: ((فوُضِعَ في يَدَيَّ سِواران)) [خ¦7037] كذا عند الشَّيخِ أبي الحَسَنِ، وعندَ غيرِه: ((إسواران)) وهو الصَّواب، وقد وَقَعَ في الشِّعْرِ:
وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ                     لَسُبَّ بذلك الجَرْوِ الكِلَابا
          والكلاب منصوبٌ بـِ:ولدتْ جرْوَ كلبٍ نَصْبَ تأكيدٍ، والتَّقديرُ: ولو وَلَدَتْ قُفَيْرةُ الكلابَ يا جروَ كلبٍ... إلى آخره. وقيل: لَسُبَّ السَّبُّ.
          قلت: والَّذي في الأصول ((سِواران)) بحذْفِ الألِفِ هناك [خ¦7037] كما ستعلمُه، وإنْ كان ابنُ بطَّالٍ ذكرَه بإثباتِها. قال أبو عُبَيدةَ: سِوارُ المرأةِ وسُوارُها، يعني بالضَّمِّ والكسْرِ. قال أبو عليٍّ الفارسِيُّ: وحَكَى قُطْربُ إسوار، وذَكَرَ أنَّ أَسَاوِرَ جمعُ إِسْوَارٍ على حَذْفِ الياء؛ لأنَّ جمع إِسْوَارٍ أَسَاوِيرُ.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: وهذِه الرُّؤيا ليست على وجهِهَا وإنَّما هي على ضَرْب المَثَلِ، وإنَّما أوَّلَها بالكذَّابَيْنِ لأنَّ الكَذِبَ إنَّما هو الإخبارُ عن الشَّيءِ بخلافِ ما هو به ووضْعُهُ في غيرِ موضعِهِ، فلمَّا رآهما في ذِرَاعيْهِ وليسا موضِعًا للسِّواريْنِ لأنَّهما ليسا مِن حِلْيَةِ الرِّجالِ عَلِمَ أنَّه سيقبضُ على يَدَيْ رسولِ الله صلعم _يعني على أوامرِه ونواهيه_ مَن يدَّعِي ما ليس له كما وُصِفتا حيثُ ليس لهما.
          وكونُهما مِن ذهبٍ والذَّهَب منهيٌّ عنه في الدِّين دليلٌ على الكَذِبِ مِن وجوهٍ: وضْعُ الشَّيءِ في غيرِ موضعِه كما سَلَفَ، وكونُ الذَّهبِ مستعمَلًا في الرِّجالِ وهو منهيٌّ عنه، ومنه يُشتقُّ الذَّهابُ فَعَلِم أنَّه شيءٌ يذهبُ عنه ولا يبقى، ثمَّ وُكِّدَ له الأمْرُ فأُذِنَ له في نَفْخِهما فَطَارا عِبَارة أنَّهما لا يَثبُتُ لهما أَمْرٌ، وأنَّ كلامَه ◙ بالوحيِ الَّذي جاء به يُزِيلُهما عن موضعِهما الَّذي قاما فيه، والنَّفخ دليلٌ على الكلامِ وعلى إزالة الشَّيءِ المنفوخِ فيه، وإذهابِه بغير كُلْفةٍ شديدةٍ لسهولةِ النَّفْخِ على النَّافخ، وكذلك كان؛ أَذْهَبَ الله ذَينِكَ الكذَّابيْنِ بِكلامِه.
          وقال الكَرْمانيُّ: مَن رأى أنَّه يطيرُ بين السَّماءِ والأرضِ أو مِن مكانٍ إلى مكانٍ فإنْ كانت رؤياه أضغاثًا فإنَّه كثيرُ التَّمنِّي والفِكْرِ والاغترارِ بالأماني، وإن كانت صحيحةً وكان يطيرُ في عَرْضِ السَّماءِ فإنَّه يسافرُ سفرًا بعيدًا ويَنالُ رِفعةً بِقَدْرِ ما استعلى مِن الأرضِ في طيرانِه، فإنْ طار إلى / السَّماء مستويًا لا يَتَعَوَّجُ ناله ضررٌ، فإن وصل إلى السَّماء بلَغَ الغاية، فإنْ غابَ فيها ولم يَرجِعْ مات، وإن رجعَ إلى الأرض أفاقَ. وقال ابنُ أبي طالبٍ العابِرُ: وإنْ كان ذلك بجَناحٍ فقد يكونُ جَناحُهُ مالًا ينهضُ به أو سُلطانًا يسافِرُ تحتَ كَنَفِهِ، وإن كان بغيرِ جَناحٍ دلَّ على التَّعزيزِ فيما يَدخُلُ فيه.