التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من كذب في حلمه

          ░45▒ بَابُ مَنْ كَذَبَ فِي حُلُمِهِ
          7042- ذَكَرَ فيه حديثَ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ مَرفُوعًا: (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ _أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ_ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ). قَالَ سُفْيَان: وَصَلَهُ لَنَا أَيُّوبُ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَوْلَهُ: (مَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَاهُ). وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرُّمَّانِيِّ، سَمِعْتُ عِكْرِمَة، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً وَمَنْ تَحَلَّمَ وَمَنِ اسْتَمَعَ). حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: مَنِ اسْتَمَعَ، وَمَنْ تَحَلَّمَ وَمَنْ صَوَّرَ. نَحْوَهُ. تَابَعَهُ هِشَامٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ☻ قَوْلَهُ.
          7043- ثمَّ ساقَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ أنَّه ◙ قَالَ: (مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ).
          الشَّرح: قولُه: (قَالَ سُفْيَانُ: وَصَلَه لَنَا أيُّوبُ) سُفْيَانُ هو ابنُ عُيَيْنَةَ، وقد وَصَلَهُ أيُّوبُ أيضًا لِعَبْدِ الوهَّابِ الثَّقَفِيِّ عندَ التِّرْمِذِيِّ وصحَّحهُ، ولِعبدِ الوارثِ عند ابنِ ماجه. و(إِسْحَاقُ) هو ابنُ شاهينَ، قاله البَرْقَانيُّ فيما وجَدَهُ في «كتابِ الإسْمَاعيليِّ» وأخرَجَ النَّسائيُّ التَّصويرَ مِن حديثِ عَمْرِو بنِ عليٍّ عن عفَّانَ عن همَّامٍ عن قَتَادَةَ عن عِكْرِمَةَ به مرفوعًا.
          وتعليقُ أبي هاشمٍ أخرجه الإسْمَاعيليُّ مِن حديثِ وُهَيبٍ عن خالدٍ في «صحيحِه» مِن حديثِ شُعْبَةَ عن أبي هاشمٍ عن عِكْرِمَةَ. وحديثُ خالِدٍ الموقوفُ أخرجه الإسْمَاعيليُّ مِن حديث وُهَيْبٍ عن خالدٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((مَن صَوَّر صُورةً)) الحديث، ومِن حديثِ عبدِ الوهَّاب حدَّثنا خالدٌ عن عِكْرِمَة، فَذَكَرَهُ مرفوعًا. وأبو هاشمٍ اسمُه يَحيى بنُ دِيْنَارٍ وهو واسطِيٌّ أيضًا، كان ينزِلُ قَصْرَ الرُّمَّانِ فنُسِبَ إليه، مات سنةَ اثنتينِ وعشرين ومئةٍ.
          فَصْلٌ: (الْآنُكُ) بِضَمِّ النُّونِ الرَّصاصُ الأبيضُ والأسودُ أو الخالصُ منه، ولم يجِئْ على أَفْعُلَ واحِدٌ غيرُ هذا، فأمَّا آشُدُ فمُختلَفٌ فيه هل هو واحدٌ أو جمعٌ؟ وقيل: يحتمل أن يكون الآنُكُ فاعلًا وهو أيضًا شاذٌّ، / وجزَمَ ابنُ بطَّالٍ بأنَّه الرَّصَاصُ المُذَابُ، زاد بعضُ شيوخِنا أنَّه بالمدِّ، وعبارةُ «الصِّحاح»: الآنُكُ الأُسْرُبُّ، وأَفْعُلُ مِن أبنيةِ الجمْع، ولم يجِئْ عليه واحدٌ إلَّا آنُك وآشُد.
          وقال ابنُ عُزَيرٍ: آشُد جمْعُ شَدٍّ مثل فَلْسٍ وأَفْلُسٍ، قال: ويُقال: هو اسمُ واحدٍ لا جَمْعَ له مثل آنُك وهو الرَّصاص والأُسْرُبُّ. وحكى ابنُ فارسٍ عن مَعنٍ أنَّه سمِعَ أعرابيًّا يقول: هذا رصاصٌ آنُك، أي خالصٌ، قال: ولم نَجِدْ في كلامِ العَرَبِ أَفْعُل غيرَ هذا الحرْفِ. وحكى الخليل أنَّه لم يَجِدْ أَفْعُل إلَّا جمعًا غير آشُد. وقال الدَّاوُدِيُّ: الآنُكُ القِزْديرُ.
          فَصْلٌ: وقولُه: (مِنْ أَفْرَى الفِرَى) هو بكسْرِ الفاءِ مقصورٌ، وهو الكَذِبُ يعني أكذبَ الكَذِبِ، والفِرْيَةُ الكِذْبةُ العظيمةُ الَّتي يُتَعَجَّبُ منها، وجمعُها فِرَى مقصورٌ مِثْلُ لِحْيَةٍ ولِحى.
          فَصْلٌ: إنْ قلتَ: ما وجه خصوصيَّةِ الكاذبِ في رؤياه بما خصَّه به مِن تكليفِ العَقْد بين طَرَفَيْ شَعِيرتينِ يومَ القيامةِ؟ وهل الكاذبُ في الرُّؤيا إلَّا كالكاذبِ في اليقظة؟ وقد يكون الكَذِبُ في اليقظةِ أعظمَ في الجُرْمِ إذا كان شهادةً تُوجِبُ على المشهود عليه بها حدًّا أو قتلًا أو مالًا يُؤخَذُ منه وليس ذلك في كَذِبِهِ في منامِه؛ لأنَّ ضَرَرَ ذلك عليه في منامِه وحدَه دون غيرِه. قيل له: اختلفتْ حالاهما في كَذِبِهما؛ فكان الكاذبُ على عينيْهِ في منامِه أحقَّ بأعظمِ النَّكَالين؛ وذلك لِتَظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ الله صلعم أنَّ: ((الرُّؤيا الصَّادقةُ جُزْءٌ مِن ستَّةٍ وأربعينَ جُزْءًا مِنَ النُّبوَّةِ)) على ما سلف، والنُبُوَّةُ لا تكونُ إلَّا وحيًا مِن الله تعالى، فكان معلومًا بذلك أنَّ الكاذبَ في نومِه كاذبٌ على اللهِ أنَّه أراه ما لم يرَ، والكاذبُ على الله أعظمُ فِرْيةً وأَوْلَى بعظيمِ العقوبةِ مِن الكاذبِ على نفْسِهِ بما أتلفَ به حقًّا لِغيرِه أو أوجبَهُ عليه، وبذلك نطقَ مُحكَمُ التَّنزيلِ فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} الآية [الأنعام:21] فأبانَ ذلك أنَّ الكَذِبَ في الرُّؤيا ليس كاليقظةِ لأنَّ أحدَهما كَذِبٌ على اللهِ والآخرَ كَذِبٌ على المخلوقين.
          فإنْ قلتَ: فما الحكمةُ في ذِكْرِ الشَّعِيرِ دون غيرِه من أنواعِ الحُبُوبِ؟ قلتُ: سِرُّه لَمَّا كان المنامُ مِن الشُّعُور وكَذَبَ فيه فناسَبَ فيه ذِكْرَ الشَّعِيرِ دون غيرِه إعلامًا له مِن لَفْظِهِ.
          فَصْلٌ: وفيه _كما قال المُهَلَّبُ_ حُجَّةٌ للأَشْعَريَّةِ في تجويزِهم تكليفَ ما لا يُطاق، وفي التَّنزيلِ ما يَزِيدُه بيانًا وهو قولُه تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] وللهِ أن يفعلَ في عبادِه ما يشاء لا يُسأل عنه، ومَنَعَ مِن ذلك الفقهاءُ والمعتزلةُ احتجاجًا بقولِه تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] قالوا: والآيةُ والحديثُ وما أشبهه مِن أحكامِ الآخرةِ وليست دارَ تكليفٍ وإنَّما هي دارُ مجازاةٍ فلا حجَّةَ لهم فيه لأنَّ الله تعالى قد أخبرَ في كتابِه أنَّه لا يُكلِّفُ نفْسًا مِن العِباداتِ في الدُّنيا إلَّا وُسْعَها، فلو كلَّفهم ما لا يقدِرُون عليه في الدُّنيا لَكانَ في ذلك كون خبرِ الصَّادق على خلافِ ما أخبَرَ به، ولا يجوز النَّسخُ في الأخبار ولا وقوعُها على خلافِ إخبار الله فلا تضادَّ إذن.
          فَصْلٌ: وأمَّا الاستماعُ إلى حديث مَن لا يريدُ استماعَهُ فهو حرامٌ عَمَلًا بالحديثِ، وإن كان لا ضَرَرَ عليهم في استماعِه إليهم وله فيه نفعٌ عظيمٌ دِينًا أو دُنيا فلا، وإن كَرِه ذلك المتحدِّثُون، لكنَّ المستمِعَ لا يَعلمُ هل فيه نفعٌ إلَّا بعد استماعِه إليه وبعدَ دخولِه فيما كَرِه له الشَّارعُ فغير جائزٍ له ذلك لِنَهْيِه ◙ نهيًا عامًّا. أمَّا مَن لا يعلمُ هل يَكرهون ذلك؟ فالصَّوابُ _كما قال ابنُ جَرِيرٍ_ المنْعُ إلَّا بإذنِهم له في ذلك للخبرِ الَّذي رُوِيَ عن رسولِ الله صلعم أنَّه ((نَهَى عن الدُّخُولِ بين المتناجِيَيْنِ)) في كراهيَّةِ ذلك إلَّا بإذنِهم.
          فَصْلٌ: والتَّصويرُ سَلَفَ في الزِّينة أنَّه حرامٌ فيما له صُورةٌ، وأرخَصَ ابنُ عبَّاسٍ في تصويرِ الشَّجَرِ ونحوِها، ومنهم من جعلَ خبرَ النُّمْرَقةِ السَّالِفَ ناسخًا لحديثِ النَّهيِ لأجْلِ أنَّهم كانوا حديثِي عَهْدٍ بعبادةِ الصُّوَرِ، ثمَّ أُبيح الرَّقْمُ للحاجةِ إلى اتِّخَاذِ الثِّياب، ولا يؤمَنُ على الجاهلِ تعظيمُ ما يُوطَأ ويُمتهَن. وقال ابن الجلَّابِ: لا بأسَ بذلك في الثِّيابِ والبُسُطِ، وفي «المعونة»: لا يجوز اتِّخَاذُ التَّماثيلِ في بناءٍ أو لباسٍ أو فراشٍ إلَّا أن يكونَ رَقْمًا في مدَاسٍ.