التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القميص في المنام

          ░17▒ بَابُ القَمِيصِ في المَنَامِ
          7008- ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) قَالُوا: مَا أَوَّلْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الدِّينُ).
          ثُمَّ ترجم عليه:
          ░18▒ بَابُ جَرِّ الْقَمِيصِ فِي الْمَنَامِ
          7009- وأَصْلُ عِبارتِه للقميصِ بالعِلم في قولِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] يريدُ صَلَاحَ العمَلِ وتطهيرَ الأحوالِ الَّتي كانت أهلُ الجاهليَّة تَستبيحُها، هذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ، والعربُ تقولُ: فلانٌ نقيُّ الثَّوبِ إذا كان صالحًا في دِينِه.
          وفيه دليلٌ أنَّ الرُّؤيا لا تَخرُجُ كلُّها على نصِّ ما رُئِيت عليه، وإنَّما تخرجُ على ضَرْبِ الأمثالِ، فَضَرَبَ المَثَلَ على الدِّينِ بالقميصِ وعلى الإيمانِ والعِلْمِ باللَّبنِ مِن أجْلِ اشتراكِ ذلك في المعاني، وذلك أنَّ القميصَ يَستُرُ العوراتِ كما يَستُرُ الدِّين سيِّئَ الأعمالِ الَّتي كان النَّاسُ في حالِ الكُفْرِ يأتونَها، وفي حالِ الجهل يَقْتَرِفونَها، وقد سَلَفَ أنَّ اللَّبن حياةُ الأجسامِ كما أنَّ العِلمَ حياةُ القلوبِ، هذا وجهُ اشتباهِ المعاني في هذه الأمثالِ الَّتي لها ضُرِبَتْ لأنَّ المَثَلَ يَقتضي المماثلةَ، فإذا كان مَثَلٌ لا مماثلةَ / فيه لم يصحَّ التَّعبيرُ.
          فإنْ قلتَ: إذا كان التَّعبيرُ يقتضي المَمَاثلةَ فما وجهُ كونِ جرِّ القميصِ في النَّوم حَسَنًا وجرُّه في اليقظةِ منهِيٌّ عنه وهو مِن الخُيَلاءِ؟ فالجوابُ: أنَّ القميصَ في الدُّنيا سترٌ وزينةٌ كما سمَّاه الله، وهو في الآخرةِ لِباسُ التَّقوى، فلمَّا كان في الدُّنيا زينةً حُرِّمَ منها ما كان مُخرِجًا إلى الخُيَلاءِ والكبرياء الَّتي لا يَجمُلُ لمخلوقٍ مربوبٍ ضعيفٍ لاضطرارِه إلى مدبِّرٍ يدبِّرُهُ ورازقٍ يرزقُهُ ودافعٍ يدفَعُ عنه ما لا امتناع له منه ويَحميه مِن الآفاتِ، فَوَجَبَ أن تكون تلك الزِّينةُ في الدُّنيا معروفةً بدليلِ الذِّلة وعلامةِ العبوديَّة. هذا معنى وجوبِ تَقْصيرِها في الدُّنيا، ولَمَّا خَلُصَتْ في الآخرةِ مِن أن يَقترِنَ بها كِبْرٌ أو يَخطُرَ منه خاطِرٌ على قلْبِ بَشَرٍ حَصَلَتْ لباس التَّقوى كما سمَّاها الله فَحَسُنَ فيها الكمالُ والجرُّ لِفضولها على الأرض، ودلَّ ذلك الفضلُ المجرورُ على بقايا مِن العِلْمِ والدِّين الَّذي يخلُدُ بَعْدَهُ، فيكونُ أَثَرًا باقيًا خَلْفَه، ولم يكن سبيلٌ إلى أن يكون فيه مِن معنى الكِبْرِ شيءٌ في ذلك الموطنِ.
          وليس هذا ممَّا يُحْمَل على أحوالِ الرَّائينَ وإنَّما هو أبدًا محمولٌ على جَوْهَرِ الشَّيء المرئيِّ، فجوهَرُ القميصِ في الدُّنيا بقرينةِ الجَرِّ له كِبْرٌ وتعاظُمٌ، وجوهرُه في الآخرةِ بالعِلمِ والدِّين، وليس في الآخرةِ فيه تحليلٌ ولا تحريمٌ، وإنَّما يُحمَل الشَّيءُ على حالِ الرَّائي له إذا تنوَّع جوهرُ الشَّيءِ المرئيِّ به أو فيه أو عليه في التَّفسير، وأكثرُ ما يكون ذلك في الدُّنيا لاختلافِ أحوالِ أهلِها، وقد يكونُ في الآخرةِ شيءٌ مِن ذلك وليس هذا منه، ولا يجوز أن يُنقَلَ جَوْهرُ شيءٍ مِن الثِّيابِ ونحوِها عمَّا وُضِعَتْ له في أصْلِ العِلم إلَّا بدليلٍ ناقلٍ لِجوهرِ ذلك الشيء، كمن رَأَى أحَدًا مِن الأمواتِ في نومِه وعليه ثيابٌ يجرُّها مِن نارٍ أو مُتَّقدةً بنارٍ، فيعبِّرُها أنَّه كافِرٌ كان يلبسُ في الدُّنيا ثيابَ الكِبْر والتَّبَخْتُر يجرُّها خُيلاءً فعُوقبَ في النَّارِ بصُنعِه ذلك في الدُّنيا أو يُرَى عليه ثِيابٌ مِن قَطِرَانٍ كما قال تعالى فيها، فحينئذٍ تكون الثِّيابُ في الآخرةِ دليلًا على العذابِ بِما كان عليه في الدُّنيا، ولا تكونُ حينئذٍ لِباسَ زينةٍ ولا لِباسَ تقوى، هذا ممَّا يُحمل في الآخرةِ على أحوالِ صاحبِ الرُّؤيا.
          فَصْلٌ: وقولُه: (فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ) ظاهرُه إطلاقُ الثَّدْيِ على الرَّجُلِ وقد سَلَفَ ما فيه، قال ابنُ فارسٍ: الثَّدْيُ للمرأةِ والجمعُ الثُّدِيُّ يذكَّر ويؤنَّث، وثُنْدُؤة الرَّجُلِ كَثَدْيِ المرأة وهو مهموزٌ إذا ضُمَّ أوَّلًه، فإنْ فُتِحَ لم يُهمَزْ. ويُقال: هو طرَفُ الثَّدْيِ. وفي «الصِّحاح»: الثَّدْيُ للرَّجُلِ والمرأةِ، والجمعُ: ثُدِيٌّ، أصلُه فُعُولٌ فلمَّا اجتمعا حرفا علَّةٍ وسُبِقَ الأوَّل بالسِّكونِ قُلبت ياءً وأُدغمَتْ في الياء الَّتي بعدَها وكُسِرَتِ الدَّالُ لأجْلِ الياء الَّتي بعدَها، ويُجمَعُ أيضًا ثِدِيٌّ بكسْرِ الثَّاءِ لِمَا بعدَها مِن الكسرةِ.