التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الرجم في البلاط

          ░24▒ بَابُ الرَّجْمِ بِالْبَلَاطِ.
          6819- ذَكَرَ فيه حديثَ ابْنِ عُمَرَ ☻ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلعم بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ: (مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ؟) قَالُوا: إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيهَ، فَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ سَلَامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ بِالتَّوْرَاةِ، فَأُتِيَ بِهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ الله صلعم فَرُجِمَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ ☻: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلَاطِ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودِيَّ جَنَى عَلَيْهَا.
          هذا الحديثُ سلفَ شرحُه في المناقبِ في بابِ قولِ الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146] [خ¦3635] وذكرَه هناك مِن طريقِ مالكٍ عن نافِعٍ عن ابن عُمَرَ ☻، وذكره هنا مِن طريق سُلَيْمَان _وهو ابنُ بلالٍ_ عن عبدِ الله بن دِينارٍ عن ابن عُمَر، ويَرُدُّ ذلك على أبي نُعَيمٍ حيث جمَعَ أحاديثَ عبدِ الله بن دِينارٍ وأغفَلَ هذا. وفي البُخَاريِّ وغيرِه عنه عِدَّةُ أحاديث.
          والتَّجْبِيهُ _بمثنَّاةٍ فوق ثمَّ جيمٍ ثمَّ موحَّدةٍ ثمَّ مثنَّاةٍ تحت ثمَّ هاءٍ_ أنَّ تُحمَّم وجوهُ الزَّانِيَينِ ويُحمَلَا على بعيرٍ أو حمارٍ ويُخالَفَ بين وجوهِهما، وأصلُها أن يُحمَلَ اثنانِ على دَابَّةٍ ويُجعَلَ قَفَا أحدِهما إلى قفا الآخَرِ. قال ابنُ التِّين: وَرُوِّيناه بفتْحِ الباءِ وليسَ ببيِّنٍ، وإنَّما هو مصدرُ جبَّبَ تَجْبِيبًا مِثْلُ كلَّم تكليمًا، والباءُ ساكنةٌ والهاءُ مِن أصلِ الفعل.
          وذكرتُ عن «شَرْحِيَ للعمدة» أنَّ في يجني سبْعُ رواياتٍ كلُّها راجعةٌ إلى الوِقايةِ، منها الحاءُ المهمَلةُ، يُقال: أَحْنَى يُحْنِي إِحْنَاءً، أي يميلُ عليها لِيَقِيَها الحجارةَ، وفيه لغةٌ أُخرى: جَنَى يَجْنِي، وأصلُ الجَنَأِ ميلٌ في الظَّهْر، وقيل في العُنُق. وفي المهمَلَةِ يُقال: حَنَا عليه يَحْنُو حُنُوًّا، وأَحْنَى يَحْنِي أي يَعْطِفُ ويُشفِقُ ويُكِبُّ عليها.
          ومعنى (أَحَدَثَا) زَنَيَا. و(تَحْمِيمَ الْوَجْهِ) تَسْخِيمُهُ بالفحم، وفي روايةٍ للبُخَارِيِّ: نُسَخِّم وجوهَهُما [خ¦7543] وفي أكثرِ نُسَخِ مُسلمٍ: نُحَمِّلُهُمَا. بالحاءِ واللَّام.
          ورُوي بالجيمِ، قال أبو عُبَيْدٍ: يرويه أهلُ الحديث: يَجْنِي، وإنَّما هو يَجْنَأُ مَهْمُوزٌ. قال الجَوْهَرِيُّ: جَنَى الرَّجلُ على الشَّيءِ يَجْنُو جُنُوءًا إذا انكبَّ، فإنْ كان ذلك مِن خَلْفِه قيل حَنَى، ومنه قيل للتُّرْسِ إذا صُنِعَ معيبًا حنا. قال ابنُ التِّين: وَرُوِّيناه هنا <أَجْنَأ> مهموزٌ بالجيمِ رُباعيٌّ، وهو في «الصِّحَاح» ثلاثيٌّ، وعند الهَرَويِّ مثل ما رُوِّيناه. قال: يُقال أَجْنَى عليه يجنُو جنأً إذا انكبَّ عليه يقيهِ شيئًا.
          فَصْلٌ: تبويبُه بما ذَكَرَ لأجل ما ذُكِرَ في الحديث، وهو بفتْحِ الباءِ وكسْرِها. قال أبو عبد الله الحَمويُّ ياقوتُ: هو موضعٌ مبلَّطٌ بالحجارةِ بين مسجِدِ رسولِ الله صلعم والسُّوق. وقولُ الشَّاعرِ فيما أنشدهُ أبو عُبَيْدٍ البَكْرِيُّ:
لَوْلَا رَجَاؤُكَ مَا زُرْنَا البَلَاطَ وَمَا                     كَانَ البَلاطُ لَنَا أَهْلًا وَلَا وَطَنًا
          هو غيرُ البَلَاطِ وهو قَريةٌ بالغوطة، وبلاطُ عَوْسَجَةَ حِصْنٌ مِن أعمال شَنْتبَرِيَّةَ بالأندلسِ، وبَلاط كانت قَصَبَةً مِن نواحي حَلَبَ، وبَلاط موضعٌ بالقُسْطَنْطينيَّةِ كان مجلسًا للأَسرى أيَّامَ سيفِ الدَّولةِ بن حَمْدانَ.
          وأمَّا ابنُ بطَّالٍ قال: تبويبُه بذلك لا يقتضي معنًى، والبَلَاطُ وغيرُه مِن الأمكنةِ سواءٌ، وإنَّما ترجم به لأنَّه مذكورٌ في الحديث.
          قال الأَصْمَعِيُّ: البَلَاطُ الأرضُ الملساءُ. وقال ابنُ فارِسٍ: كلُّ شيءٍ فرشْتَ به الدَّارَ مِن حَجَرٍ وغيرِه. زاد ابنُ التِّين: لعلَّ فائدةَ التبَّويبِ أنَّها أرضٌ لا يُحفر فيها، وأغفلا ما قدَّمناه أوَّلًا.
          فَصْلٌ: ذَكَرَ ابنُ إسحاقَ عن الزُّهْرِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ هذا الحديثَ كان حين قَدِمَ رسولُ الله صلعم إلى المدينةَ.
          فَصْلٌ: جاء في أبي داودَ أنَّه ╕ راحَ إلى بيتِ المِدْرَاسِ، وسَأَلَ اليَهُودَ عن حُكمِ الزَّانِيَيْنِ، ويحتمِلُ أحدَ مَعْنَيَين:
          إمَّا أنْ يكونَ لِمَا أراد اللهُ مِن تكذيبِهم وإظهارِ ما بدَّلوه مِن حُكمِه تعالى، وكذلك ألقى اللهُ تعالى في قلوبِهمُ التَّحاكمَ إليه، وأعلمه أنَّ في التَّوراةِ حُكم الله في ذلك لقولِه تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:43].
          ثانيهما: أن يكون حكمُ الرَّجْمِ لم ينزِلْ بعدُ، وقد روى مَعْمَرٌ عن ابن شِهَابٍ قال: فبَلَغَنَا أنَّ هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة:44] فكان رسولُ الله صلعم منهم.
          فَصْلٌ: وفي الحديث حجَّةٌ لمالكٍ جوازُ تحاكمِ أهلِ الكِتاب إذا تحاكمُوا إلينا أنَّه جائزٌ أن يُترجِمَ عنهم مترجِمٌ واحدٌ كما ترجمَ عبدُ الله بنُ سَلَامٍ عن التَّوراةِ وَحْدَهُ، وسيأتي في كتابِ الأحكامِ ما للعلماء في ذلك.
          فَصْلٌ: وفي قولِه: (فَرَأَيْتُ الْيَهُودِيَّ أَحْنَى عَلَيْهَا) دليلٌ أنَّه لا يُحفرُ للمرجومِ ولا للمرجُومةِ؛ لأنَّه لو كان حَفِيرًا ما استطاع أن يَحْنِي عليها، وبه استدلَّ مالكٌ، وقد سلفتِ المسألةُ في الباب قبلَه، ووقع في كلامِ ابنِ التِّينِ أنَّه ثبتَ أنَّه لم يَحْفِرْ لماعِزٍ وحَفَرَ للغامديَّةِ وكانت معترِفةً، ثمَّ ذَكَرَ روايةَ مُسلمٍ في الحفر لماعزٍ، وفي قصَّةِ الجُهَنيَّة أنَّه شدَّ عليها ثيابَها ثمَّ أمر برجمِها مِن غيرِ ذِكْرِ حفرٍ. وفيه حجَّةٌ للثَّوريِّ أنَّ المحدودَ لا يُقْعَدُ ويُضرَبُ قائمًا، والمرأةُ قاعدةً، والحديث يدلُّ له فإنَّه كان يَجْنَأُ عليها.
          وقال مالكٌ: المرأةُ والرَّجلُ في الحُدُودِ كلِّها سواءٌ لا يُقام واحدٌ منهما ويُضربان قاعِدَينِ، ويجرَّدُ الرَّجُلُ ويُترَكُ على المرأةِ ما يَسترُها ولا يَقِيها الضَّربَ. وقال الشَّافِعيُّ واللَّيْثُ وأبو حَنيفَةَ: الضَّربُ في الحُدُودِ كلِّها قائمًا مجرَّدًا غيرَ ممدودٍ إلَّا حدَّ القذفِ فإنَّه يُضرَبُ وعليه مِن ثيابِه ما لا يَقِيهِ الضَّرْبَ.
          فَصْلٌ: وقولُه: (فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ) قيل: في ذلك نزلَ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] / وفي أبي داودَ مِن حديثِ البراءِ بنِ عازِبٍ لَمَّا أَمَرَ به فَرُجِمَ فأنزلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى قولِه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وفي أثناء هذه الآيات: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}.
          فَصْلٌ: واحتجَّ به أصحابُ أبي حَنيفَةَ على جوازِ شهادةِ الكفَّارِ بعضِهم على بعضٍ لأنَّه رجمهما بقولِهم، وأجاب المخالفون بالمنعِ وأنَّ الشَّافِعيَّ رَوَى فيه أنَّه ╕ سألهما فأقرَّا فكان الرَّجْمُ بالإقرار. قال ابنُ الطَّلَّاع: أو يجوز أن يكونَ بوحيٍ أو بشهادةِ مُسلِمَينِ.
          فَصْلٌ: قد رُوِّينا ما نزلَ عَقِبَ رجْمِه مِن طريقِ أبي داودَ عن البراء وعن الزُّهْرِيِّ قال: سمعتُ رجلًا مِن مُزَينةَ ممَّن سمِعَ العلمَ _ونحنُ عندَ ابنِ المسيِّب_ يُحدِّث عن أبي هُرَيْرَةَ قال: زَنَى رجلٌ مِن اليَهُودِ وامرأةٌ حين قَدِم ╕ المدينةَ فخُيِّر في ذلك بقولِه: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة:42] الحديث، وفي آخرِه قولُ ابن شِهَابٍ السَّالفُ قبيل هذه الفصول: فَبَلَغَنَا أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ فيهم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} الآية [المائدة:44].
          ولابنِ إسحاقَ أنَّهم قالوا: إنْ حكَمَ فيهم بالتَّجْبِيهِ فاتَّبِعوه فإنَّه ملِكٌ وصدِّقوه، وإنْ حَكَمَ بالرَّجْمِ فإنَّه نبيٌّ فاحذروه قال: ما في أيديكم أن تَسألوه. وفيه: فجاء رسولُ الله صلعم بابنِ صُوْرِيَّا وكان غلامًا شابًّا، فلمَّا ناشَدَهُ قال: اللَّهُمَّ نعم، أَمَا واللهِ يا أبا القاسم إنَّهم ليعرفونَ أنَّك نبيٌّ مُرْسَلٌ ولكنَّهم يَحْسِدُونك.
          وأخرجه أبو داودَ مِن حديثِ جابرٍ والشَّعْبِيِّ عن رسولِ الله صلعم. وأصلُ حديثِ جابرٍ في مُسلمٍ، وروى القصَّةَ أيضًا عبدُ الله بنُ الحارثِ بنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ أخرجه ابنُ وَهْبٍ، وجابرُ بنُ سَمُرَةَ أخرجه التِّرْمِذِيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ. وابنُ عَبَّاسٍ أخرجه أبو قُرَّةَ.
          فَصْلٌ: قال أبو مُحَمَّد بن حَزْمٍ: جاء عن عليٍّ ☺ أنَّه قال: لا حدَّ على أهلِ الذِّمَّةِ في الزِّنا. وعن ابنِ عَبَّاسٍ: لا حدَّ عليهم في السَّرِقَةِ. وقال أبو حَنيفَةَ: لا حدَّ على أهلِ الذِّمَّة في الزِّنا ولا في شُرْبِ الخمرِ، وعليهم الحدُّ في القذفِ والسَّرِقَةِ إلَّا لمعاهَدٍ، لكن يَضمنها، وقال مُحَمَّدُ بن الحَسَن: لا أمنعُ الذِّمِّي مِن الزِّنا ولا مِن شُرْبِ الخمرِ وأمنعُهُ مِن الغِناء.
          وقال مالكٌ: لا حدَّ على أهل الذِّمَّة في الزِّنا ولا في شُرْبِ الخمر، وعليهم الحدُّ في القَذْفِ والسَّرِقَةِ. وقال الشَّافِعيُّ وأبو سُلَيْمَان وأصحابُهما: عليهم الحدُّ في كلِّ ذلك، قال اللهُ تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة:49] وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
          فإنْ ذكروا ما رُوِّينا عن الثَّورِيِّ عن سِمَاكِ بن حَرْبٍ عن قَابُوس بن المُخَارِق عن أبيه قال: كتب مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ إلى عليِّ بن أبي طالبٍ في مُسلمٍ زَنَى بِنَصْرَانيَّةٍ، فكتب إليه: أَقِمْ على المسلمِ الحدَّ، وادْفَعِ النَّصرانيَّةَ إلى أهلِ دينِها. ومِن حديثِ عبدِ الرَّزَّاقِ عن ابنِ جُرَيْجٍ وعن سُفْيَان بن سَعِيدٍ، كِلاهُما عن عَمْرو بن دِينارٍ عن مُجَاهِدٍ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ كان لا يرى على أهلِ الذِّمَّةِ حدًّا. وعن رَبِيْعَةَ أنَّه قال في اليَهُوديِّ والنَّصْرانيِّ: لا أرى عليهما في الزِّنا حدًّا، وقد كان لهم مِن الوفاءِ بالذِّمَّة أن يُخلَّى بينهم وبين دينِهم.
          قال ابنُ حَزْمٍ: ما نعلم لمن قالَ بهذا حُجَّةً غيرَ ما ذكرناه، ولا حجَّةَ للحنفيِّينَ والمالكيِّينَ فيه؛ لأنَّ الآية الكريمةَ عامَّةٌ لا خاصَّةٌ، وهم قد خُصُّوا، والرِّوايةُ عن عليٍّ لا تصحُّ لأنَّ سِمَاكًا ضعيفٌ وقَابُوس مَجْهولٌ.
          قلت: قد ذكرتَه أنتَ _أعني قَابُوسًا_ في الصَّحابة الَّذين رَوَوْا عن النَّبِيِّ صلعم ستَّةَ أحاديثَ، وذَكَرَ ابنُ يُونُسَ في «تاريخ الغرباء» قابُوسَ بن المُخَارِق _ويُقال: ابن أبي المُخَارِق_ سُلَيم الشَّيبانيُّ الكوفيُّ، قَدِم مِصر مع مُحَمَّد بنَ أبي بَكْرٍ في خلافةِ عليٍّ ☺، قد ذُكر وحُكي عنه، وقال النَّسائيُّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابنُ حبان في «ثقاته» وَلَمَّا ذكرَ ابنُ عبدِ البَرِّ هذا الأثر سمَّاهُ قَابُوس بنَ أبي ظَبْيَان عن أبيه. وهو عجيبٌ فَقَابُوسُ حديثُه في «صحيح البُخَاريِّ» وأثنى عليه غيرُ واحدٍ.
          ثمَّ قال ابن حَزْمٍ: والرِّوايةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: لا حدَّ على ذِمِّيٍّ. هُم بأنفُسِهم خالفُوا ذلك فأوْجبُوا عليه الحدَّ في السَّرِقَةِ والقَذْفِ، وإنْ تعلَّقوا بقولِه تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة:42] فلا تَعلُّقَ لهم فيها لأنَّها منسوخةٌ، ولو صحَّ أنَّها مُحْكمةٌ لَمَا كان لهم فيها تعلُّقٌ لأنَّه إنَّما فيها التَّخييرُ بينهم لا في الحكم عليهم جملةً، وإقامةُ الحُدُود عليهم ليس حكمًا بينهم، وأمَّا عهودُ مَن عاهدهم على الحكمِ بأحكامِهم فليس ذلك عهدُ الله بل هو عهْدٌ باطلٌ، ولا يَعرِفُ المسلمون عهدًا إلَّا ما أمر اللهُ به ورسولُه صلعم، فإنْ قالوا: فقد قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] قلنا: نعم لا نُكرههُم على الإسلامِ ولا على فروضِ الإسلام.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: إذا ارتفع أهلُ الكتاب إلينا راضِين بِحُكمِنا فيهم وكانت شريعتُنا موافقةً في ذلك الحكم لشريعتهم جازَ لنا أن نَسْتظهر عليهم بكتابِهم حجَّةً عليهم كما في هذا الحديث، فإنْ لم تكنْ الشَّريعةُ في ذلك الحكمِ موافقةً لشريعتِهم حَكَمْنا بينهم بما أنزل اللهُ في كتابِنا، ويحتمل أن يكونَ ذلك خصوصًا للشَّارِعِ؛ للإجماعِ على أنَّ ذلك لم يَعمل به أحدٌ بعدَه ولِقولِ الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51].
          قال: وَاختلف العلماءُ في الحكم بينهم إذا تَرافعوا إلينا، أواجبٌ ذلك علينا أم نحن مخيَّرون به؟ فقال جماعةٌ مِن فقهاءِ الحجازِ والعراق: إنَّ الإمامَ أو الحاكم مخيَّرٌ إنْ شاءَ حَكَم بينهم إذا تَرَافعوا إليه بحكمِ الإسلام، وإنْ شاء أعرضَ عنهم. وقالوا: إنَّ قولَه: {فَإِنْ جَاءُوكَ} [المائدة:42] مُحْكَمةٌ لم يَنسخْها شيءٌ. وممَّن قال ذلك مالكُ بن أنسٍ والشَّافِعيُّ في أحدِ قوليه، وهو قولُ عَطَاءٍ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ، ورُوي ذلك عن ابنِ عَبَّاسٍ في قولِه: {فَإِنْ جَاءُوكَ} [المائدة 42] قال: نزلتْ في بني قُرَيْظَةَ وهي مُحْكَمَةٌ، وقال عامرٌ الشَّعْبِيُّ: إنْ شاء حَكمَ وإنْ شاء لم يَحْكُمْ.
          وعن ابنِ القاسم أنَّهما إذا رَضِيا فلا يَحكُمُ بينهما إلَّا بِرِضاءٍ مِن أَسَاقفتِهما، فإنْ كَرِهَ ذلك أَسَاقِفَتُهم فلا يَحكُم بينَهم، وكذلك إنْ رَضِيَ الأَسَاقِفَةُ ولم يرضَ الخصمانِ أو أحدُهما لم يَحكُم. وقال الزُّهْرِيُّ: مضت السُّنَّةُ أنْ يُردَّ أهلُ الذِّمَّة في حقوقِهم ومعاملاتِهم / ومواريثِهم إلى أهلِ دينِهِم إلَّا أن يأتونَا راغبِينَ في حُكمِنا فيُحكَمُ بينهم بكتابِ الله.
          وقال آخرون: واجبٌ على الحاكم أن يَحكمَ بينهم إذا تَحاكموا إليه بحكمِ الله تعالى، وزعمُوا أنَّ قولَه تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] ناسخٌ للحكمِ بينهم في الآيةِ الأُولى، رُوي ذلك عن ابنِ عَبَّاسٍ مِن حديث سُفْيَانَ بن حُسَينٍ والحَكَمِ عن مُجَاهِدٍ، ومنهم مَن يرويه عن سُفْيَانَ والحكم عن مُجَاهِدٍ قولَه، وهو صحيحٌ عن مُجَاهِدٍ وعِكْرِمَةَ، وبه قال الزُّهْرِيُّ وعُمَرُ بن عبد العزيز والسُّدِّيُّ، وإليه ذهب أبو حَنيفَةَ وأصحابُه، وهو أحدُ قولَيِ الشَّافِعيِّ إلَّا أنَّ أبا حَنيفَةَ قال: جاءت المرأةُ والزَّوجُ فعليه أن يَحكُمَ بينهما بالعدل، وإنْ جاءت المرأةُ وحْدَها ولم يتعرَّض الزَّوجُ لم يَحكُم، وقال صاحباهُ: يَحكُمُ، وكذا اختلفَ أصحابُ مالكٍ.
          وقال الشَّافِعيُّ: ليسَ الحاكمُ بالخِيَار في أحدٍ مِن المُتَعاهِدِينَ الَّذينَ تجري عليهم أحكامُ الإسلام إذا جاءُوهُ في حدٍّ لله، فعليه أن يُقِيمَه لقولِ الله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37] واختاره المزَنيُّ، وقال في كتابِ الحُدُود: لا يُحدُّونَ إذا جاؤوا إلينا في حدٍّ لله، ويردُّهم الحاكمُ إلى أمْرِ دينِهم.
          قال الشَّافِعيُّ: وما كانوا يَدينون به فلا يُحكمُ عليهم بإبطالِه إذا لم يرتفعُوا إلينا، ولكن يكشفوا عمَّا استحلُّوا ما لم يكن ضررًا على مُسلمٍ أو مُستأمَنٍ أو مُعَاهَدٍ. قال: وإنْ جاءتْهُ امرأةٌ تَستعدِيهِ بأنَّ زوجَها طلَّقَها وشبه ذلك حَكَمْنَا عليه حُكْمَ المسلمين.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: والنَّظرُ الصَّحيحُ عندي أَلَّا يُحكَمَ بِنَسْخِ شيءٍ مِن القرآنِ إلَّا ما قام عليه الدَّليلُ الَّذي لا دَفْعَ له ولا يحتمِلُ التَّأويل، وليس في قولِه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] دليلٌ على أنَّها ناسخةٌ لقولِه تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] لأنَّه يحتمل أن يكون معناها وأنِ احكمْ بينهم بما أنزل اللهُ إنْ حكمتَ ولا تتَّبع أهواءهم، فتكونُ الآيتانِ مُحْكَمَتين غيرَ مُتَدَافِعتينِ. نَقِفُ على هذا الأصلِ في نَسْخِ القرآنِ بعضَه ببعضٍ أنَّه لا يصحُّ إلَّا بإجماعٍ لا تَنازُعَ فيه، أو بسنَّةٍ لا مدفعَ لها، أو يكونُ التَّدافعُ في الآيتين غيرُ مُمكنٍ فيهما استعمالُهما، ولا استعمال إحداهما إلَّا بدفْعِ الأخرى، فعُلِمَ أنَّها ناسخةٌ لها.
          وكذا قال ابنُ القصَّار: لو صحَّ عندي النَّقلُ بذلك عن ابن عَبَّاسٍ لقلتُ بالنَّسخِ في الآية، ولكنْ لا أعلمُ فيه نقلًا يُعْتَمد، وإنَّما هو نسخٌ بالتَّأويل، كذا قال، وسندُها عند ابنِ عبد البَرِّ غيرُ صحيحٍ.
          وقال النَّحَّاس: الرِّوايةُ عنه في هذا مستقيمةٌ، ولا فرْقَ عندي بين قولِه في الآيةِ الَّتي زعموا أنَّها منسوخةٌ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42] وبين قولِه في الآيةِ النَّاسخة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] والتَّخييرُ المتقدِّمُ قبل الآيةِ الأُولى نازِلٌ على هذه، وهذه الآيةُ الثَّانيةُ أيضًا على حُكْمِ التَّخييرِ الأوَّلِ، وهذا مبنيٌّ على أصلٍ، وذلكَ أنَّ مَن صالحَنا مِن أهل الذِّمَّة لا يخلو أن يشترطوا علينا عدمَ الحكمِ أو وجودَه بحكمِهم أو بحُكمِنا أو لا يقعَ شَرْطٌ، فما كان مِن شرطٍ وَجَب الوفاءُ به، وقد شرطَ كفَّارُ قُرَيشٍ على الشَّارعِ أمورًا عظيمةً فالتزمَها لهم ووفَّى لهم حتَّى غدروا، فأمَّا ما لم يكنْ بِشَرطٍ وترافعوا إلينا فالإمامُ مخيَّرٌ بينَ الحكمِ بما أَنزلَ اللهُ أو الصَّرفِ.
          فَصْلٌ: وقد أسلفنا اختلافَ العلماء أيضًا في أهلِ الذِّمَّة إذا زَنَوْا هل يُرجمون إذا رُفعوا إلينا؟ فقال مالكٌ: إذا زَنَوْا أو شربوا فلا يَعْرِضُ لهم الإمامُ إلَّا أن يُظهِرُوا ذلك في ديارِ المسلمين فَيُدخِلُونَ عليهم الضَّررَ، فيمنعُهم السُّلطانُ مِن الإضرارِ بالمسلمين. قال مالكٌ: وإنَّما رَجَم الشَّارعُ اليَهُوديَّينِ لأنَّه لم يكن لليَهُودِ يومئذٍ ذمَّةٌ وتحاكَمُوا إليه. ونقل ابنُ الطَّلَّاعِ في «أقضيتِه» أنَّهم أهلُ ذِمَّةٍ. وقال الزَّجَّاج في «معانيه»: كانا مِن أهلِ خَيْبَرَ.
          وقال أبو حَنيفَةَ وأصحابُه: يُحدُّونَ إذا زَنَوْا كحدِّ المسلم، وهو أحدُ قولَيِ الشَّافِعيِّ، وَلَمَّا ذَكَرَ الطَّحاويُّ قولَ مالكٍ: لم يكن لهم ذِمَّةٌ، قال: لو لم يكن واجبًا عليهم لِمَا أقامهُ ╕، قال: وإذا كان مَن لا ذِمَّةَ له قد حُدَّ في الزِّنا فمَن له ذمَّةٌ أَحْرى بذلك. قال: ولم يختلفوا أنَّ الذِّمِّيَّ يُقطَعُ في السَّرِقَةِ.
          قال ابنُ عبد البَرِّ: وقال بعض مَن رأى أنَّ آية التَّخييرِ في الحكمِ بين أهلِ الذِّمَّةِ منسوخةٌ بقولِه تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة:49]: على الإمامِ إذا عَلِمَ مِن أهل الذِّمَّةِ حدًّا مِن حدودِ اللهِ أنْ يُقِيمَه عليهم وإن لم يَتحاكموا إليه؛ لأنَّ الله يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] ولم يقل: إذا تحاكموا إليك، قالوا: والسُّنَّةُ تبيِّنُ ذلك، يعني قولَ البراءِ: مَرَّ رسولُ الله صلعم بيهودِيٍّ محمَّمٍ فَدَعاهم. الحديث. كما ساقه أبو داودَ. وفيه: أنَّه حَكَم بينهم ولم يتحاكموا إليه، لكنْ في حديثِ ابنِ عُمَرَ ☻ أنَّ اليَهُودَ أَتَوْهُ، وليس فيه أنَّهما رَضِيا بحكمِه وقد رجمهما، وسيكون لنا عودةٌ إلى ذلك في بابِه إن شاء الله تعالى حيثُ ذكرهُ البُخَاريُّ.