التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يرجم المجنون والمجنونة

          ░22▒ بَابٌ لَا يُرْجَمُ الْمَجْنُونُ وَلَا الْمَجْنُونَةُ.
          وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ ☻: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ يُرفَعُ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ).
          6815- 6816- ثمَّ ساق حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺ في قِصَّةِ ماعِزٍ، وموضع الحاجةِ: فَقَالَ: (أَبِكَ جُنُونٌ؟).
          وأثرُ عليٍّ أخرجه النَّسائيُّ مرفوعًا مِن حديثِ جريرِ بن حازمٍ عن سُلَيْمَانَ بن مِهْرَانَ عن أبي ظَبْيَانَ عن ابنِ عَبَّاسٍ ☻ قال: مرَّ عليُّ بنُ أبي طالبٍ ☺ بمجنونةِ بني فلانٍ قد زنتْ، فأَمَرَ عُمَرُ ☺ برجْمِها، فردَّها عليٌّ وقال لعُمَر: أَمَا تذكُرُ أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ: المجنونِ المغلوبِ على عقلِه، وعن النَّائمِ حتَّى يَستيقظَ، وعنِ الصَّبِيِّ حتَّى يَحْتَلِم)) قال: صَدَقتَ، فخلَّى عنها، ثمَّ رَوَى عن عَطَاءَ بنِ السَّائِبِ عن أبي ظَبْيَانَ: أنَّ عُمَرَ ☺ أُتِيَ بامرأةٍ قد زَنَتْ معها ولَدٌ فأمرَ برَجْمِها فمرَّ بها عليٌّ ☺ فأرسلَها، الحديث. ومِن حديثِ أبي حَصينٍ عن أبي ظَبْيَانَ عن عليٍّ ☺ قال: ((رُفِعَ القلمُ عن ثلاثٍ)) الحديث.
          قال النَّسائيُّ: وهذا أَولى بالصَّوابِ وأبو حَصينٍ أثبتُ مِن عَطَاءٍ، وما حدَّث جريرُ بن حازمٍ بمصرَ فليس بذاك، وحديثُه عن يَحيى بن أيُّوبَ أيضًا ليس بذاك، ثمَّ قال النَّسائيُّ: ما فيه شيءٌ صحيحٌ والموقوفُ أصحُّ وأَوْلى بالصَّواب.
          وحديثُ جريرٍ أخرجه أبو داودَ أيضًا، وقد تُوبع على روايته، تابعهُ أبو الأحوصِ وحمَّادُ بن سَلَمَةَ وعبدُ العزيز بنُ عبدِ الصَّمد وغيرُهم، وأخرجه أبو داودَ مِن طريقِ جريرٍ عن الأَعْمَشِ عن أبي ظَبْيَانَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، وصحَّحه الحاكمُ على شرط الشَّيخينِ، وقد بسطْتُه في «تخريجي لأحاديث الرَّافِعيِّ الكبير» فليُراجعْ منه.
          فَصْلٌ: قام الإجماعُ على أنَّ المجنونَ إذا أصاب الحدَّ في جنونِه أنَّه لا حدَّ عليه، وإنْ أفاق مِن جنونِه بعدَ ذلك؛ لِرَفْعِ القلم عنه إذْ ذاكَ والخِطَابُ غيرُ متوجِّهٍ إليه حينئذٍ. أَلَا ترى قولَه ╕ لِلَّذي شهِدَ أربعَ شهاداتٍ: (أَبِكَ جُنُونٌ؟) فدلَّ قولُه هذا أنَّه لو اعترف بالجنونِ لدرأَ الحدَّ عنه، وإلَّا فلا فائدةَ لِسؤالِه هل بك جنونٌ أم لا؟
          وقام الإجماع أيضًا أنَّه إذا أصابَ رجلٌ حدًّا وهو صحيحٌ ثمَّ جُنَّ بعْدُ أنَّه لا يُؤخذُ منه الحدُّ حتَّى يُفِيقَ، وعلى أنَّ مَن وجب عليه حدٌّ غير الرَّجْم وهو مريضٌ يُرجى برؤه أنَّه ينتظرونَه حتَّى يَبرأَ فيُقام عليه، فأمَّا الرَّجْمُ فلا يُنتظرُ فيه لأنَّه إنَّما يُرادُ به التَّلفُ فلا وجهَ للاستثناء.
          وفي «الإشراف» عن أحمدَ: لا يُؤخَّرُ، رَجَا بُرْؤَه أو لم يَرْجُ.
          فَصْلٌ: قولُه في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ) هو ظاهِرٌ في ترْكِه إذْ ذاك، وهو مذهبُنا _كما ستعلمُه_ ومذهبُ أحمدَ، وخالف الكوفيُّونَ فقالوا: إنْ هربَ وطلَبَهُ الشُّرَطُ واتَّبعوه في فَوْرِه ذلك أُقيم عليه بقيَّةُ الحدِّ، وإنْ أخذوه بعد أيَّامٍ لم يُقَمْ عليه بقيَّتُهُ، دليلُنا قولُه ╕: ((هلَّا تركتموه)) أخرجه أبو داودَ مِن حديثِ يَزِيْد بن نُعَيم بن هَزَّالٍ عن أبيه في القصَّة المذكورة، وأخرجه الحاكمُ في «مستدرَكِه» وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ وقال: حسنٌ، والحاكمُ وقال: صحيحٌ على شرْط مُسلمٍ.
          وقال ابنُ المنذر: يُقام عليه الحدُّ بعدَ يومٍ وبعدَ أيَّامٍ وسنين؛ لأنَّ ما وجب عليه لا يجوز إسقاطُه بمرورِ الأيَّامِ واللَّيالي، ولا حُجَّةَ مع مَن أسقط ما أوجبهُ اللهُ مِن الحُدُود، وقد بيَّن جابرُ بن عبد الله معنى قولِه: ((فَهَلَّا تَرَكْتُمُوْهُ)) أنَّه لم يُرِدْ بذلك إسقاطَ الحدِّ عنه فيما أخرجه ابنُ إسحاقَ عن عاصمِ بن عُمَرَ بن قَتَادَةَ، قال: حدَّثني حسن بن مُحَمَّدٍ بن عليٍّ قال: سألتُ جابرًا عن قصَّةِ مَاعِزٍ، فقال: أنا أعرفُ النَّاسِ بهذا الحديث، كنتُ فيمن رَجَمَه، إنَّا لَمَّا رجمناهُ فوجدَ مِن الحجارةِ صرخ بنا: يا قومِ رُدُّوني إلى رسولِ الله صلعم، إنَّ قومِي قَتلوني وغرُّوني عن نفْسِي، أخبَروني أنَّه ╕ غيرُ قاتِلِي، فلم نَنْزِع عنه حتَّى قتلناه، فلمَّا رجعْنا إلى رسولِ الله صلعم أخبرتُه قال: ((فهلَّا تركْتُم الرَّجُلَ وجئتموني)) ليتثبَّت رسولُ الله صلعم فيه، فأمَّا لِتَرْكِ حدٍّ فلا.
          فَصْلٌ: واختلفوا إذا أقرَّ بالزِّنا ثمَّ رجع عن إقرارِه، فقالت طائفةٌ: يُترك ولا يُحدُّ، هذا قولُ عَطَاءٍ والزُّهْرِيِّ والثَّورِيِّ والكوفيِّين / والشَّافِعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ، واختُلف عن مالكٍ في ذلك فحكى عنه القَعْنَبِيُّ أنَّه إذا اعترفَ ثمَّ رجع وقال: إنَّما كان منِّي على وجْهِ كذا وكذا، لشيءٍ يذكُرُه أنَّ ذلك يُقبل منه، ولا يُقام عليه الحدُّ.
          وقال أشهبُ: يُقبل رجوعُه إنْ جاء بعُذْرٍ وإلَّا لم يُقبل، وروى ابنُ عبدِ الحَكَمِ عن مالكٍ أنَّه إذا اعترفَ بغيرِ مِحْنَةٍ ثمَّ نَزعَ لم يُقبل منه رجوعُه، وقاله أشهبُ وأهلُ الظَّاهر.
          وممَّن رُوِي عنه عدمُ القَبول ابنُ أبي ليلى والحَسَنُ البَصْرِيُّ، واحتجَّ الشَّافِعيُّ بالحديثِ السَّالف: ((هلَّا تركتموه)) فكلُّ حدٍّ لله فهو كذا، وبقولِه له: ((لعلَّكَ قبَّلتَ أو غمزتَ)) فالشَّارعُ كان يُلَقِّنُه ويَعْرِضُ عليه بعدَ اعترافٍ قد سبق منه، فلو أنَّه قال: نعم قبَّلتُ أو غَمَزْتُ لسقطَ عنه حدُّ الرَّجْمِ، وإلَّا لم يكنْ لتعريضِه لذلك معنًى، فعُلم أنَّه إنَّما لقَّنه لفائدةٍ وهي الرُّجوع.
          وحُجَّة الآخَرين أنَّ الحدَّ لازمٌ بالبَيِّنة أو بالإقرار، وقد تقرَّر أنَّه لو لَزِمَ الحدُّ بالبَيِّنةِ لم يُقبَلْ رجوعُه، فكذا الإقرارُ. قالوا: وقولُه: ((هَلَّا تَرَكْتُمُوْهُ)) لا يُوجِبُ إسقاطَ الحدِّ، ويحتمل أن يكون لِمَا ذكره جابِرٌ أولًا مِن النَّظر في أمرِه والتَّثبُّتِ في المعنى الَّذي هربَ مِن أَجْلِه، فلو وجب أن يكونَ الحدُّ ساقطًا بهربِه لوجبَ أن يكون مقتولًا خطأً، وفي ترْكِه ╕ إيجابَ الدِّيَةِ على عَوَاقِل القاتلينَ له بَعْدَ هربِه دليلٌ على أنَّهم قاتلون مَن عليه القتلُ؛ إذْ لو كان دمُه محقونًا بهربِه لأوجبَ عليهم دِيَتَهُ، وليس في شيءٍ مِن إخبارِه دِلالةٌ على الرُّجوع عمَّا أقرَّ به، وأكثرُ ما فيه أنَّه سأل عند ما نزل به مِن الألمِ أن يُردَّ إلى رسولِ الله صلعم، ولم يقل: ما زَنَيْتُ.
          قال ابنُ المنذر: وهذا القولُ أشبَهُ بالصَّواب.
          فَصْلٌ: رَوَى الشَّافِعيُّ عن رجلٍ عن عَنْبَسَةَ عن عليِّ بن عبدِ الأعلى عن أبيه عن أبي جُحَيفةَ أنَّ عليًّا ☺ أُتِيَ بصَبيٍّ قد سرقَ بيضةً فشكَّ في احتلامِه، فَأَمَرَ بِه فقُطِعَتْ بُطونُ أناملِه، قال الشَّافِعيُّ: لا أعلمُ أحدًا يقول بهذا، إنَّما يقولون: ليس على الصَّبِيّ قطعٌ حتَّى يَحْتَلِمَ أو يبلغَ خَمْسَ عشْرَةَ سنةً. قال البَيْهَقِيُّ: أوردَهُ أبو عبدِ الله فيما ألزم العراقيِّين في خلافِ عليٍّ، وفي إسنادِه نظرٌ.
          فَصْلٌ: لا يخفى أنَّ هذا الرَّجلَ هو مِاعِزُ بن مالكٍ الأَسْلَميُّ، كان يتيمًا عند هَزَّالٍ فأمَرهُ هَزَّالٌ أن يأتيَ رسولَ الله صلعم فيُخبِرَهُ فوقعَ ما وقعَ.
          فَصْلٌ: فيه الرَّجْمُ مِن غيرِ جَلْدٍ، وخالف فيه مَسْرُوقٌ وأهلُ الظَّاهر في الجَمْعِ.
          فَصْلٌ: معنى (أَذْلَقَتْهُ) أَحْرَقته، كما جاء في روايةٍ: ((وأوجعته)) قالهُ الدَّاودِيُّ، وقال ابن فارِسٍ: الإِذْلَاقُ سُرعةُ الرَّمْيِ. وعبارةُ غيرِه: بَلَغَتْ منه الجَهْدَ حتَّى ذَلِق. وهو بالذَّالِ المعجمة والقاف، وفي حديثِ عائِشَةَ ♦ أنَّها كان تَصُوم في السَّفَر حتَّى أَذْلَقَتْها السَّمُومُ، أي أذابتها، ويُقال جَهَدتها. قال ابنُ الأعرابيِّ: أَذْلَقَه الصَّومُ أَضْعَفَه. ويُروى أنَّ أيُّوبَ ╕ قال في مُناجاتِه: أَذْلقَنِيَ البلاءُ فتكلَّمتُ، أي جَهَدني، وكلُّ ما آذاك فقد أَذْلَقَك.
          وفي «الصِّحَاح»: الذَّلَقُ _بالتَّحريكِ_ القَلَقُ، وقد ذَلِقَ بالكسْرِ وأَذْلَقْتُه، وأمَّا ذلْقُ _بالتَّسكينِ_ مِن كلِّ شيءٍ حدُّه. وقال بعضُهم: هو بدالٍ مهمَلةٍ ومعناه خروجُ الشيء مِن موضعِهِ بسرعةٍ، يُقال: دَلَقَ السَّيفَ مِن غِمْدِه إذا خَرَجَ بسرعةٍ ولم يَسُلَّهُ، ويُقال: دَلَقَ السَّيلُ على القوم إذا خرجَ عليهم ولم يَشعرُوا به، فكأنَّ الحجارةَ آتيةٌ مِن كلِّ مكانٍ كالسَّيلِ إذا ظهرَ على الوادي فلا يُدرى مِن أين جاءَ.
          فَصْلٌ: في نُبَذٍ مِن فوائدِ حديثِ البابِ:
          البُخَاريُّ أخرجه مِن طريقِ ابنِ شِهَابٍ عن أبي سَلَمَةَ وسَعِيدِ بن المسيَّب عن أبي هُرَيْرَةَ، وفي آخرِه: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا، قَالَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ) الحديث. الظَّاهر أنَّ المحدِّث لابنِ شِهَابٍ أبو سَلَمَةَ كما أخرجه بعْدُ في بابِ الرَّجْم بالمصلَّى، حيثُ ساقه مِن حديث مَعْمَرٍ عن الزُّهْرِيِّ عن أبي سَلَمَةَ عن جَابِرٍ، وفي آخرِه: ((فقال له ╕ خيرًا وصلَّى عليه)) ولم يقل يُونُس وابنُ جُرَيْجٍ عن الزُّهْرِيِّ: ((فَصَلَّى عليه)) وفي بعضِ نُسَخِ البُخَاريِّ: <سُئِلَ أبو عبدِ الله: ((فَصَلَّى عليه)) يصحُّ؟، قال: رواه مَعْمَرٌ. قيل له: رواه غيرُ مَعْمَرٍ؟ قال: لا> [خ¦6820] ثمَّ ساقه في بابِ رجم المُحْصَنِ البُخَاريُّ مِن حديثِ يُونُسَ عن الزُّهْرِيِّ عن أبي سَلَمَةَ عن جَابِرٍ [خ¦6814].
          ومتابعةُ ابنِ جُرَيْجٍ أخرجها مُسلمٌ حدَّثَنا إسحاقُ حدَّثَنا عبدُ الرَّزَّاقِ حدَّثَنا مَعْمَرٌ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن الزُّهْرِيِّ عن أبي سَلَمَةَ فَذَكَرَهُ.
          وقال البَيْهَقِيُّ: قولُه: ((فَصَلَّى عَلَيْهِ)) خطأٌ لإجماعِ أصحابِ عبدِ الرَّزَّاقِ على خلافِه، ثمَّ إجماعِ أصحابِ الزُّهْرِيِّ على خلافِه. وقال غيرُه: قد اضطربَ في ذلك، ففي حديثِ أبي سَعِيدٍ: ((فمَا استغفرَ له رسولُ الله صلعم ولا سَبَّه)) وفيه: فما حَفَرْنَا له. وقال أبو داودَ: ((ولم يُصَلِّ عليه)).
          وأخرج له مُسلمٌ مِن حديثِ بُريدةَ مطوَّلًا وفيه طلبُ الاستغفارِ له، وفي آخره: ((لقد تاب توبةً لو قُسِمَتْ بين أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُم)) وفيه: ((أنَّه حَفَر له حُفرةً)) وفي روايةٍ له في قِصَّةِ الغامديَّةِ: ((ثُمَّ أمر بها فحُفِرَ لها إلى صدْرِها ثمَّ أمرَ النَّاسَ فَرَجَموها)) وفي روايةٍ مِن حديثِ نُعَيمِ بنِ هَزَّالٍ أنَّ الْمَزْنِيَّ بها كانت جاريةً لهَزَّال يُقال لها فاطمةُ.
          وفي «السُّنن» لأبي قُرَّة: قال ابنُ جُرَيْجٍ: اختلفوا فقائلٌ يقول: رُبط ماعِزٌ إلى شجرةٍ، وفيها: ((أنَّه طوَّل في الأُوَّلَيَيْنِ مِن الظُّهرِ حتَّى كاد النَّاسُ يَعْجزون عنها مِن طولِ الصَّلاةِ)) وفيها: رماه ابن الخطَّابِ بِلَحْيِ بعيرٍ فأصابَ رأسَه فقتلَه. وفيه: فقيل يا رسولَ اللهِ أنُصَلِّي عليه؟ قال: ((لا)) وفي الغدِ طوَّل أيضًا وقال: ((صلُّوا على صاحبِكُم)) فَصْلَّى عليه رسولُ الله صلعم والنَّاسُ.
          وفي «سُنن الكَجِّيِّ» مِن حديث اللَّجْلَاج: ((لا تقولوا خبيثٌ، لَهُو عندَ الله / أطيبُ مِن رِيحِ المِسكِ)) وفي مسندِ عبدِ الله بنِ وهب مِن حديثِ يَزِيْدَ بن نُعَيم بن هَزَّال: فَلَقِيهُ عبدُ الله بنُ أُنَيسٍ وهو نازِلٌ مِن ناديتِه فأخَذَ له وَظِيفًا مِن بعيرٍ فَرَمَاهُ به فَقَتَلَهُ. وفيه مِن حديثِ أبي ذرٍّ ☺ أنَّه قال له: ((ألمْ تَرَ إلى صاحبِكُم قد غُفِرَ له وأُدخِلَ الجنَّةَ)).
          وفي «عِلل التِّرْمِذِيِّ المُفْرَدة» مِن حديثِ أبي الفِيلِ أنَّه ╕ قال: ((لا تَشتُمْهُ)) يعني مِاعِزَ بن مالكٍ. ثمَّ قال: سألتُ البُخَاريُّ عنه فقال: لا أعلمُ أحدًا رواه عن سِمَاكٍ غيرَ الوليدِ بن أبي ذرٍّ، قلتُ له: أبو الفيلُ له صُحْبةٌ؟ قال: لا أدري ولا أعرفُ اسمَه ولا يُعرف له غيرُ هذا الحديثِ الواحد.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ورَوَى قصَّةَ ماعزٍ في قِصَّةِ اعترافِه بالزِّنا ورَجْمِه عن رسولِ الله صلعم ابنُ عَبَّاسٍ وجابرُ بنُ عبد الله وابنُ سَمُرَةَ وسَهْلُ بن سَعْدٍ ونُعَيمُ بنُ هَزَّالٍ وأبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وفي أكثرِها أنَّه اعترفَ أربعَ مرَّاتٍ، وفي بعضِها مرَّتين، وفي بعضِها ثلاثًا. قلتُ: ورواها أيضًا الصِّدِّيقُ، أخرجها التِّرْمِذِيُّ في «عِلله المُفْرَدة» وأبو بُرْدةَ أخرجها ابنُ أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» وعليٌّ وأبو ذرٍّ أخرجهُ ابنُ وَهْبٍ، واللَّجْلَاجُ وأبو الفيلِ كما سلفَ.
          فَصْلٌ: رَوَى أبو داودَ مِن حديثِ سَهْل بن سَعْدٍ ☺ عن رسولِ الله صلعم أنَّ رجلًا أتاهُ فأقرَّ عنده أنَّه زَنَى بامرأةٍ سمَّاها، فبعثَ النَّبِيُّ صلعم إلى المرأةِ فسألَها عن ذلك فأنكرتْ أن تكون زَنَتْ، فجَلَدَهُ الحدَّ وتركَها.
          فَصْلٌ: تكرارُه ╕ ماعزًا ليعرِّض له بالرُّجوعِ، وقال البَيْهَقِيُّ: لم يكن لاشتراطِ التِّكرار في الاعترافِ، ولكنَّه كان يَستنكرُ عقْلَهُ، فلمَّا عرَفَ صِحَّتَه استفسر منه الزِّنا، فلمَّا فسَّره أمرَ بِرَجمِه؛ ولهذا قال في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ في البُخَاريِّ كما سيأتي: ((أَنِكْتَها؟)) لا يُكْنِي [خ¦6824].
          ونقلَ ابنُ حَزْمٍ عن طائفةٍ الاكتفاءَ بِمَرَّةٍ في الحُدُودِ، وأنَّه قولُ الحَسَنِ بن حيٍّ وحمَّادِ بن أبي سُلَيْمَانَ وعُثْمَانَ البَتِّيِّ ومالكٍ والشَّافِعيِّ وأبي ثورٍ وأبي سُلَيْمَان وجميعِ أصحابِهم. وعن طائفةٍ أُخرى: لا يُقام على أَحَدٍ حدُّ الزِّنا بإقرارِه حتَّى يقرَّ أربعَ مرَّاتٍ، ولا يُقام عليه حدُّ القطعِ والسَّرِقَةِ حتَّى يُقرَّ مرَّتين، وحدُّ الخمر كذلك، وفي القَذْفِ واحدةٌ، وأنَّه مرويٌّ عن أبي يُوسُف.
          ولَمَّا ذَكَرَ ابنُ حَزْمٍ حديثَ الغَامديَّةِ قال: فيه البيانُ الجَلِيُّ مِن الشَّارع لأيِّ شيءٍ ردَّ ماعزًا، وأنَّه لا يحتاج إلى ترديدِها لظهورِ ما أقرَّت به، فدلَّ على أنَّ ترديدَه ما كان للإقرارِ وإنَّما كان لتُهْمَةِ عقلِه أو أنَّه لا يدرِيهِ. قال: وحديثُ مِضَاضٍ وابنِ مِضَابٍ فيه مجهولٌ لا يُدرى مَن هو، عن أبي هُرَيْرَةَ في ترداد ماعزٍ أربعًا. قلت: صوابُه عبدُ الرَّحمن بنُ الهَضْهَاضِ. قال أبو حاتمٍ: وهو أصحُّ مِنِ ابنِ هِضَاضٍ
          وذكر الخِلافَ البُخَاريُّ في «تاريخه» وقال عبدُ الرَّزَّاق: ابنُ الصَّامِتِ حديثُه في أهل الحجازِ ليس يُعرف إلَّا بهذا الوجه، وذكره مُسلمٌ في «طبقاتِه» في الطَّبقة الأولى مِن أهلِ المدينة وقال: عبدُ الرَّحمنِ بنُ صَامِتٍ ابنُ عمِّ أبي هُرَيْرَةَ، وقال حمَّاد بن سَلَمَةَ: ابن هياضٍ، وقال بعضُهم: هَضْهَاضٍ، وزاد في كتاب «الوحدان» هَضَّابًا، ثمَّ قال: الله أعلمُ أيُّهم الحافظُ للصَّواب.
          وذكره ابنُ حِبَّان في «ثِقاته» وقال مسلمة بن القاسم في كتابِه: معروفٌ، قال: وقد جاء عن أبي هُرَيْرَةَ حسنٌ صحيحٌ ببيانِ بطلان ظنِّهم، ثمَّ ساقه مِن حديثِ عبد الرَّحمن بنِ الصَّامت عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّه سمعه يقول: جاء الأَسْلَمِيُّ إلى رسولِ الله صلعم فشَهِد على نفْسِه أربعَ مرَّاتٍ بالزِّنا، يقول: أتيتُ امرأةً حَرامًا كلُّ ذلك يُعرِضُ عنه رسولُ الله صلعم، فأقبَلَ في الخامسةِ فقال: ((أنَكَحْتَها؟)) قال: نعم، قال: ((فهل تدري ما الزِّنا؟)) قال: نعم، أتيتُ منها حَرَامًا ما يأتي الرَّجلُ مِن أهلِه حلالًا، قال: ((فما تريدُ بهذا القولِ؟)) قال: أريدُ أن تُطَهِّرني، قال: فأمرَ به فرُجم. فهذا خبرٌ صحيحٌ، وفيه أنَّ الشَّارعَ لم يكتَفِ بذلك حتَّى أقرَّ في الخامسةِ، ثمَّ لم يكتفِ بذلك حتَّى سأله السَّادسةَ: ((هل تعرِفُ ما الزِّنا؟)) فلمَّا عَرَفَ أنَّه يَعرِفُه لمْ يكتَفِ بذلك حتَّى سأله في السَّابعةِ: ((ما تريدُ بهذا؟)) ليختبرَ عَقْله، فلمَّا عرف عقلَه أقام عليه الحدَّ. قلتُ: فكأنَّه يرى غيرَ ابن الهَضْهَاضِ.
          فَصْلٌ: اختلف العلماء في الحفْرِ للمرجوم، قال أبو عُمَر: رُوِيَ عن عليٍّ أنَّه حفرَ لشُرَاحةَ إلى السُّرَّة، وأنَّ النَّاس أحدقُوا لِرَجْمِها فقال: ليس هكذا الرَّجْمُ إنِّي أخافُ أن يُصيبَ بعضُكم بعضًا، ولكن صفُّوا كما تَصُفُّون في الصَّلاة، ثمَّ قال: والرَّجْم رَجْمانِ، رجمُ سرٍّ ورجمُ علانيةٍ، فما كان منه بإقرارٍ فأوَّلُ مَن يرجُمُ الإمامُ ثمَّ النَّاسُ، وما كان منه بِبَيِّنةٍ فأوَّلُ مَن يرجُمُ البيِّنَةُ ثمَّ الإمامُ ثمَّ النَّاسُ.
          وقد أسلفْنَا الحَفْرَ له وللغامديَّةِ، وفي ابنِ أبي شَيْبَةَ مِن حديثِ أبي عِمْرَان: سمعتُ شيخنا يحدِّث عن ابنِ أبي بَكْرَةَ عن أبيه: ((أنَّه ╕ رَجَمَ امرأةً فَحَفَر إلى الثَّندُوَةِ)).
          وقال مالكٌ: لا يُحفَرُ للمرجوم، وإنْ حُفِرَ للمرجومةِ فحَسَنٌ. وفي «كتاب ابن بطَّالٍ»: ولا يُحْفَر لهما، وإنْ حُفِرَ فحَسَنٌ. وقال الشَّافِعيُّ وابنُ وَهْبٍ: إن شاء حَفَرَ وإنْ شاءَ لم يَحْفِر. وقال أحمدُ: أكثرُ الأحاديثِ على ألَّا يَحْفِر. لا جَرَم قال أصبغُ: يُستحبُّ أن يُحْفَرَ لهما وتُرْسَل يداه يَدرَأُ بهما عن وجهِه.
          وقال أشهبُ: الأحسنُ أَلَّا يُحفَرَ له. ورُوي عنه: يُحفَرُ له، كما سلف عن أصبغَ، وحُكي في «الإشراف» عن أبي حَنيفَةَ أنَّ الإمام مخيَّرٌ في ذلك، وعن الشَّافِعيِّ: يُحفر لها إن ثبتَ زناها بالبَيِّنَة دونَ الإقرار، وبه قال الفَرَضيُّ مِن المالكيَّةِ.