التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: البكران يجلدان وينفيان

          ░32▒ بَابٌ الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ.
          وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائة جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} الآيات [النور:2-3]. قَالَ ابْنُ عُيَينَةَ: رَأْفَةٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ.
          6831- 6832- ثمَّ ساق حديثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ).
          قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ☺ غَرَّبَ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ.
          6833- وحديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (أَنَّهُ ◙ قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ).
          الشَّرحُ: تفسيرُ ابنُ عُيَينَةَ رُوِّيناه في «تفسيره» وأخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن وَكِيعٍ عنه عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ بزيادةِ: يقطع ولا يُعَطَّلُ.
          وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ ☺ اختصره هنا وسيأتي على الأَثَرِ مطوَّلًا، وكذا حديثُ زيدِ بن خَالِدٍ. وهذه الآيةُ وهي {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} ناسخةٌ لقولِه تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية [النساء:15] ولقولِه {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] فكلُّ مَن زنا منهما أُوذي إلى الموت. قال مُجَاهِدٌ: بالسَّبِّ، ثم نُسِخَ ذلك بهذه الآية.
          قال النَّحَّاسُ: ولا اختلافَ في ذلك بين المفسِّرين، ثمَّ اختلفوا هل هذه الآيةُ خاصَّةٌ في الأَبْكارِ أو عامَّةٌ في كلِّ شيءٍ وتُضرب الثَّيِّبُ ثم تُرجَم؟
          وقد سلف عن ابنِ عُيَينَةَ وغيرِه: الرَّأفةُ إقامةُ الحُدُودِ، يريدُ لا يُرتَفَقُ بهم فيعطِّلُوا إقامةَ الحُدُودِ الواجبةِ، وقدْ أسلفْناهُ عن مُجَاهِدٍ وقاله عَطَاءٌ أيضًا، فالمعنى: لا تَرحموهم فَتتركوا الحدَّ.
          فَصْلٌ: والطَّائفةُ في الآيةِ أربعةٌ كما قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ ☻. قال الزَّجَّاجُ: ولا يجوز أن تكونَ الطَّائفةُ واحدًا لأنَّ معناها معنى الجماعةِ، والجماعةُ لا تكونُ أقلَّ مِن اثنين. وقال غيرُه: لا يُمنَعُ ذلك على قولِ أهلِ / اللغةِ لأنَّ معنى طائفةٍ قِطعة، يُقال: أكلْتُ طائفةً مِن الشَّاةِ أي قِطعةً منها. ورُوي عن مُجَاهِدٍ في قولِه تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] أنَّهما كانا رَجُلينِ.
          فَصْلٌ: وقولُه تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور:3] أصلُها أنَّه كان في الجاهليَّةِ نِساءٌ يَزْنينَ فأراد ناسٌ مِن المسلمينَ نِكاحهُنَّ فنزلت، قاله مُجَاهِدٌ والزُّهْرِيُّ وقَتَادَةُ، وقال الحَسَنُ: الزَّاني المجلودُ لا يَنكِحُ إلَّا مثلَه. ورُوي عن ابن عَبَّاسٍ: النِّكاحُ هنا الجِماعُ، وعنه أيضًا: لا يَزْنِي. وقيل: لا يَزنِي مكتسِبُ الزِّنا إلَّا بزانيةٍ حرامًا فيكونانِ زَانِيَيْنِ، أو حَلالًا فيكونانِ كافِرَيْنِ.
          وعن ابنِ المسيِّب وغيرِه أنَّها منسوخةٌ بقولِه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] فدَخَلَتْ في الأَيَامى وقولِه: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
          فَصْلٌ: في الحديثِ تغريبُ البِكْرِ مع الجَلْد، وكذا في حديثِ العَسِيف، وهو حُجَّةٌ على أبي حَنيفَةَ ومُحَمَّدٍ في إنكارِه التَّغريبَ، وعند مالكٍ يُنفى البِكْرُ الحرُّ ولا تُغرَّبُ المرأةُ ولا العبدُ. وقال الثَّورِيُّ والأوزاعِيُّ والشَّافِعيُّ: تُغرَّبُ المرأةُ والرَّجلُ.
          واختلف قولُ الشَّافِعيِّ في نفْيِ العبد. قال ابنُ المنذرُ: وهو قولُ الرَّاشدِينَ _يعني تغريبَ البِكْر بعدَ جَلْدِه_ رُوي عن الخلفاءِ الأربعةِ وأُبيِّ بن كعبٍ وابنِ عُمَر وبه قال أئمَّةُ الأمصار، وقد قيل التَّغريبُ بأنَّه التَّعزيرُ فيرجعُ إلى رأي الإمامِ فيه إنْ شاءَ فَعَلَهُ. ويَرُدُّ عليه قولُه: ((لأقضينَّ بينكما بكتابِ الله)) ثمَّ قضى بالتَّغريب.
          قال ابنُ بطَّالٍ: وأجمعوا على أنَّ قولَه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} في زِنا الأبكار خاصَّةً لِمَا ثبتَ في حدِّ الثَّيِّب أنَّه الرَّجْمُ. وقال عُمَرُ ☺ على رؤوسِ النَّاس كافَّةً: الرَّجْمُ في كتابِ الله حقٌّ على مَن زنى إذا أُحْصِن. ولم يكن في الصَّحابة مخالفٌ فكان إجماعًا.
          حُجَّةُ أبي حَنيفَةَ ظاهرُ القرآن فإنَّه لا نَفْيَ فيه، وقد سلف الردُّ عليه فلا معنى لقولِه لِخلافِه السُّنَّةَ الثَّابتةَ، أَلَا ترى أنَّه أقسمَ في حديثِ العَسِيف: ((لأقضينَّ بينكما بِكِتاب الله))؟! فقَضَى به على العَسِيف، فكان فِعْلَه بيانًا لكِتاب الله، فهو إجماعُ الصَّحابة وعليه عامَّةُ العلماء فسقطَ قولُ مَن خالفَهُ.
          فَصْلٌ: واختُلِف في المسافةِ الَّتي يُغرَّبُ إليها، فرُوي عن عُمَرَ ☺ أنَّه قال: فَدَك، ومثلُه عن ابنه، وبه قال عبدُ الملك، وزادوا إلى مِيلِ الجارِ مِن المدينة، ورُوي عن عليٍّ: مِن الكوفةِ إلى البصرة. وقال الشَّعْبِيُّ: ينفيه مِن عملِه إلى غيرِه. وقال مالكٌ: يُغرَّب عامًا في بلدٍ يُحبس فيه لئلَّا يرجِعَ إلى البلدِ الَّذي نُفِيَ منه. وعن أحمدَ: إلى قَدْرِ ما تُقصَرُ فيه الصَّلاةُ. وقال أبو ثورٍ: إلى مِيلٍ وأقلَّ منه. وقال ابنُ المنذر: يُجْزِئُ مِن ذلك ما يقع عليه اسمُ النَّفيِ قلَّ أو كثُرَ ولا حُجَّةَ لمنْ جعل لذلك حدًّا.
          وعندَنا لا تُغرَّبُ المرأةُ وحدَها بلْ مع زوجٍ أو مَحْرَمٍ. واحتُجَّ لمالكٍ أنَّها لا تُغرَّبُ خوفَ هَتْكِ حُرمتِها، وقد قال ╕: ((لا تُسَافِرُ المرأةُ إلَّا ومعها ذو مَحْرَمٍ)) وخروجُ المَحْرَمِ معها فيه عقوبةٌ لمن لم يَزْنِ. وقال بعضُ متأخِّرِيهِم: إنْ كانت العِلَّةُ الوليَّ فتسافرُ مع رجالٍ ونساءٍ كما في الحجِّ، فإن عُدِمَ سُجِنَتْ في موضِعِها عامًا؛ لأنَّ العقوبةَ التَّغريبُ والسَّجنُ فإذا عُدِمَ أحدُهما فُعِلَ الآخَرُ، واحْتُجَّ له في العبدِ بأنَّه لا وَطَنَ له حتَّى يُعاقَبَ بإخراجِه عنه، فلا حاجةَ إلى تغريبِه إذْ حالُهُ يَستوي في كلِّ البلاد.
          فَصْلٌ: واختلفوا في مواضعِ الضَّرب والرَّجْم، فقال مالكٌ: الحُدُودُ كلُّها _الزِّنا والخمرُ والفِريةُ والتَّعزير_ لا يُضرَبُ إلَّا في الظَّهْرُ ولا تُضربُ الأعضاءُ. وقال أبو حَنيفَةَ: تُضرَبُ الأعضاءُ كلُّها إلَّا الفَرْجَ والرَّأسَ والوجهَ. ورُوِيَ عن عُمَرَ وابنِه أنَّهما قالا: لا تُضْرَبُ الرَّأسُ.
          وقال الشَّافِعيُّ: يُتَّقَى الفَرْجُ والوجهُ، ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ ☺، وبه قال ابنُ شعبانَ، وأمَّا الفَرْجُ إذا لم يُحفَرْ للمرجومِ فقال الأَبْهَرِيُّ ما قدَّمناه عنه: لا يُحفر له لأنَّ الرَّجْم يجبُ أن يكونَ على سائرِ الجسدِ، فإذا حُفر له غابَ شيءٌ مِن بدنِه عن الرَّجْم. وقال الشَّيخُ أبو الحَسَنِ في «تبصرتِه»: لا يَضرِبُ _إذا لم يُحفَرْ له_ رِجليه ولا ساقيهِ ولا يَدَيْهِ؛ لأنَّ ذلك تعذيبٌ وليس بمقتَلٍ.
          واستُحسِنَ قولُ مالكٍ أنَّه يُجلَدُ في الظَّهْر؛ لقولِه ╕: ((البَيِّنَةُ وإلَّا حدٌّ في ظَهْرِك)).