التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت؟

          ░29▒ بَابُ سُؤَالِ الْإِمَامِ الْمُقِرَّ بالزِّنا: هَلْ أَحْصَنْتَ؟
          6825- 6826- ذَكَرَ فيه حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺ في قصَّةِ ماعِزٍ، فإنَّه ╕ قَالَ: (أَحْصَنْتَ) قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ).
          ولازمٌ على كلِّ إمامٍ أن يسألَ المقرَّ إنْ كان مُحْصَنًا أو غيرَ مُحْصَنٍ؛ لأنَّه ╕ قد فرَّقَ بين حدِّ المُحْصَنِ والبِكر، فواجبٌ عليه أن يقِفَ على ذلك، كما يجب عليه إذا أشكلَ احتلامُ المقِرِّ أن يسأله، ثمَّ بعد ذلك يلزمُه تصديقُ كلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّ الحدَّ لا يُقام إلَّا باليقينِ ولا يحلُّ فيه التجسُّس. وَلَمَّا كان قولُه مقبولًا في اللَّمسِ والغَمْزِ كان قولُه مقبولًا في الإحصانِ، فالبابُ واحدٌ في ذلك. ولا شكَّ أنَّه إذا لم يَعلَمْ بحالِهِ أنَّ سؤالَه عن إحصانِه واجبٌ، وإن عُلِمَ بإقرارِه قَبْلُ فلا.
          واخْتُلِف إذا لم يُسمَعْ منه إقرارٌ ولا إنكارٌ على ثلاثةِ أقوالٍ للمالكيَّةِ، قال ابن القاسم: يُقبل قولُه وإن طال مُكثه مع زوجتِه، إلَّا أن يُعلم غيرُ ذلك بظهورِ حملٍ أو سماعٍ. وقال في النِّكاح الثالث مِن «المدوَّنة»: إذا أُحدِّت امرأةٌ في زنا، وكانت أقامت عشرين سَنَةً لم يُقبَلْ قولُها. وقال عبد الملك: عند مُحَمَّدٍ لا يُقبل قولُ مَن أنكر مِن الزَّوجين، والرَّجْم قائمٌ ولو لم يُقِمْ معها إلَّا ليلةً واحدةً، قال مُحَمَّدٌ: وهو قولُ أصحابِنا وقولُ ابن القاسم.
          وإن اختلفا بعد الدُّخولِ حُدَّ المنكِرُ، واختُلِف في المقرِّ فقيل: يُحَدُّ حدَّ البِكر، وقيل: حدَّ الثَّيِّب، إلَّا أنْ يَرجِعَ عمَّا كان أقرَّ به، وإن كان الزَّوجُ يدِّعي الإصابةَ، ثمَّ الآن كنتُ قلتُ ذلكَ لأملكَ الرَّجعةَ، أو كانت الزَّوجةُ مُدَّعِيةً الإصابةَ، وقالت: قلتُ ذلك لأشتمل الصَّداقَ أو غيرَ ذلك مِن العُذْرِ حَلَفَ وحُدَّ حَدَّ البِكرِ.
          فَصْلٌ: قولُه: (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ) سلف معنى أَذْلَقَتْهُ، و(جَمَزَ) أَسْرَعَ يُهَرْوِلُ، قال الجَوْهَرِيُّ وابنُ فارِسٍ: الجَمْزُ ضَرْبٌ مِن السَّيرِ أشدُّ مِن العَنَق. وقال بعضُ السَّلفِ لرجلٍ: اتَّقِ الله قبل أن يُجمَزَ بك، يريدُ السَّيرَ السَّريعَ في جنازته. وقال الكِسَائيُّ: النَّاقةُ تَعْدُو الجَمْزَ. وهو العَدْوُ الَّذي يَنْزُو.
          فَصْلٌ: قد أسلفْنا اختلافَ العلماء في الاعتراف بالزِّنا الَّذي يجب فيه الحدُّ هل يفتقرُ إلى عددٍ؟ على ثلاثةِ مذاهبَ، وأنَّ ابنَ أبي ليلى والثَّورِيَّ وأحمدَ اعتبروه في مجلسٍ، وأنَّ أبا حَنيفَةَ والكوفيِّين اعتبروه في مجالسَ، وأنَّ الشَّافِعيَّ ومالكًا وأبا ثورٍ قالوا: يكفي مرَّةً، ورُوي عن الصِّدِّيق وعُمَرَ ☻، وقد أَجَبْنا عن شُبهةِ مَن اعتبرَ بِعَدَدِهِ، قالوا: وَلَمَّا كان الزِّنا مخصوصًا بين سائرِ الحقوقِ بأربعةِ شهداءَ جاز أن يكون مخصوصًا بإقرارِ أربعِ مرَّاتٍ.
          وحُجَّة مَن لم يشترطْهُ قِصَّةُ الغامديَّةِ، وقولُه لأُنَيسٍ: ((فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)) ولم يقلْ أربعًا، فلا معنى لاعتبارِه، وأيضًا فإنَّه لا يدلُّ على مخالفة الزِّنا لسائرِ الحقوقِ في أنَّه مخصوصٌ بأربعةِ شهداءَ على مُخالفتِه في الإقرار؛ لأنَّ القتْلَ مخالفٌ للأموالِ في الشَّهادات، فلا يُقبَلُ في القتلِ إلَّا شاهدان، ويُقبل في الأموالِ شاهدٌ وامرأتان، ثمَّ اتَّفقنا / في بابِ الإقرارِ أنَّه يُقبَلُ فيه إقرارُه مرَّةً، ولو وجب اعتبارُ الإقرارِ بالشَّهادةِ لوجب أَلَّا يُقبَلَ في الموضع الَّذي لا يُقبَلُ فيه إلَّا شاهدان الإقرارُ مرَّتين، وقد أجمع العلماءُ أنَّ سائرَ الإقراراتِ في الشَّرع يكفي فيها مرَّةٌ واحدةٌ، وإنْ أقرَّ بالرِّدةِ مرَّةً واحدةً يلزمُه اسمُ الكفرِ والقتلُ لازمٌ عليه، فلزِمَ في الزِّنا مثلُهُ، وإنَّما لم يُقَمْ عليه أوَّلَ مرَّةٍ لِمَا سلف مِن أنَّه ╕ لَمَّا رآه مُخَيَّل الصُّورةِ فَزِعًا أراد التثبُّتَ في أمْرِه، هل به جِنَّةٌ أم لا؟ مع أنَّه كرِهَ ما سمِعَ منه فأعرضَ عنه رجاءَ أن يَسْتُرَ على نفْسِه ويتوبَ إلى الله، ألَا ترى أنَّه لقَّنَهُ بقولِه: ((لعلَّكَ لمسْتَ أَوْ غَمَزْتَ)) فلا معنى لاعتبارِ العددِ في الإقرار.