التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الاعتراف بالزنا

          ░30▒ بَابُ الِاعْتِرَافِ بِالزِّنَا
          6827- 6828- ذَكَرَ فيه حديثَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَا مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الجُهَنِيَّ ☻ فِي قِصَّةِ العَسِيفِ وفي آخرِه: (فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا). فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: لَمْ يَقُلْ: أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ. فَقَالَ: الشَّكُّ فِيهَا مِنَ الزُّهْرِيِّ، فَرُبَّمَا قُلْتُهَا وَرُبَّمَا سَكَتُّ.
          6829- ثمَّ ساقَ حديثَ ابْنَ عَبَّاسٍ ☻ قَالَ: قَالَ عُمَرُ ☺: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ الله فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا الله، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ _قَالَ سُفْيَانُ: كَذَا حَفِظْتُ_ أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ الله صلعم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ.
          الشَّرحُ: فيه أحكامٌ:
          أحدُها: التَّرافُعُ إلى السُّلطانِ الأعلى فيما قد قَضَى فيه غيرُه ممَّن هو دونَه إذا لم يُوافِقِ الحقَّ.
          ثانيها: فَسْخُ كلِّ صُلحٍ ورَدُّ كلُّ حُكمٍ وَقَع على خلافِ السُّنَّة.
          ثالثُها: أنَّ ما قَبَضَه الَّذي قُضِي له بالباطلِ لا يَصْلُحُ له مِلكُه.
          رابعُها: أنَّ العالِمَ قد يُفتي في مِصْرٍ فيه مَن هو أعلمُ منه، أَلَا ترى أنَّه سألَ والشَّارعُ بين أظهرِهم، وكذلك كان الصَّحابةُ يُفتون في زمنِه.
          خامسُها: في سؤالِه أهلَ العلمِ، ورجوعِه إلى الشَّارعِ دليلٌ على أنَّه يجوزُ للرَّجُلِ أَلَّا يَقتصرَ على قولِ واحدٍ مِن العلماء.
          سادسُها: جوازُ قولِ الخَصْمِ للإمامِ العَدْلِ: اقضِ بيننا بالحقِّ. حيثُ قال: (اِقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ) وقد عَلِم أنَّه لا يقضي إلَّا بما أمرهُ الله، ولم يُنكَر ذلك عليه، وقال المَلَكان لداودَ ╕: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:22] وذلك إذا لم يُرِدِ السَّائلُ التَّعريضَ.
          وقولُه: (وَكَانَ أَفْقَهَهُمَا) يعني واللهُ أعلمُ لاستئذانِه ╕ في الكلامِ وتَرْكِ صاحبِه لذلكَ تأكيدًا.
          واختلف العلماء في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم: الرَّجْمُ في قولِه تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية [النور:8] فالعذابُ الَّذي تَدرؤُهُ الزَّوجةُ عن نفْسِها باللِّعانِ هو الَّذي يجبُ عليها بالبيِّنة أو بالإقرار أو بالنُّكُول عن اللِّعان، وقد بيَّنَ الشَّارعُ آيةَ الرَّجْمِ في الثَّيِّبِ برجْمِ ماعِزٍ وغيرِه.
          وقال آخَرون: الرَّجْمُ ممَّا نُسِخَ مِن القرآنِ خطُّه وثبتَ حكمُهُ. وقال آخرون: معنى قولِه: (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) أي بحكمِ الله وبفرضِه، وهو سائغٌ في اللُّغة، قال الله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] أي حُكمَه فيكم وقضاءَه عليكم، ومنه قولُه تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:41] أي يَقْضُون، وكذلك قولُه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] وكلُّ ما قَضَى به الشَّارع فهو حُكمُ الله.
          وفيه أنَّه ╕ لم يجعلْهُمَا قاذِفَينِ حين أخبراه، وليس في الحديث أنَّه سأل ابنَ الرَّجلِ هل زنى وهل صَدَقَا عليه أم لا؟ ولكن مِن مفهومِ الحديثِ أنَّه أقرَّ؛ لأنَّه لا يجوز أن يُقام الحدُّ إلَّا بالإقرارِ أو بالبَيِّنَةِ، ولم يكن عليهما بَيِّنَةٌ لقولِه: (فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا).
          وفيه النَّفْيُ والتَّغْرِيبُ للبِكر الزِّاني خلافًا لأبي حَنيفَةَ في إسقاطِ النَّفيِ عنه، وستأتي أقوالُهم فيه في موضعِه. وفيه رَجْمُ الثَّيِّب بلا جَلْدٍ على ما ذهبَ إليه أئمَّةُ الفتوى في الأمصارِ وقد سلف. وفيه أيضًا استماعُ الحاكمِ بَيِّنَةَ أحدِ الخصْمَينِ وصاحبُهُ غائبٌ، وفُتْيَاهُ له دونَ خصمِه، أَلَا ترى أنَّه ╕ قد أفتاهما والمرأةُ غائبةٌ وكانت إحدى الخصمَين.
          وفيه تأخيرُ الحُدُودِ عند ضيقِ الوقت؛ لأنَّه ╕ أَمَرَهُ بالغُدُوِّ إلى المرأةِ فإنِ اعترفت رَجَمَها، ويحتمل أنَّه كان غُدُوُّه بلا تأخيرٍ. وفيه إرسالُ الواحدِ في تنفيذِ الحكم. وفيه إقامةُ الحدِّ على مَن أقرَّ على نفْسِه مرَّةً واحدةً؛ لأنَّه ╕ لم يَقُلْ لأُنَيسٍ: فإنِ اعترفت أربعًا. وقد سلفَ قريبًا ما فيه.
          وفيه: دليلٌ على صِحَّةِ قولِ مالكٍ وجمهورِ الفقهاء أنَّ الإمامَ لا يقوم بحدِّ مَن قَذَفَ بين يديْهِ حتَّى يطلُبَ المقذوفُ؛ لأنَّ له أن يعفوَ عن قاذفِه أو يريدَ سترًا. أَلَا ترى أنَّه قال بينَ يَدَيْ رسولِ الله صلعم: (إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ) فَقَذَفها فلم يُقِمْ عليه الحدَّ؛ لأنَّها لَمَّا اعترفتْ بالزِّنا سقطَ حُكمُ قَذْفِها، ومِثْلُهُ حديثُ العَجْلَانيِّ حين رَمَى امرأتَهُ برجلٍ فلاعَنَ بينَه وبينَ امرأتِه لأنَّه لم يطلُبْهُ بحدِّه، ولو طلبَهُ به حُدَّ إلَّا أن يُقيم البَيِّنةَ على ما قال.
          والمخالِفُ في هذه المسألة هو ابنُ أبي ليلى، فإنَّه يقول: إنَّ الإمامَ يَحُدُّ القاذفَ وإن لم يَطلبْهُ المقذوفُ. وقولُه خلافُ السُّننِ الثَّابتةِ، وسيأتي ما بقيَ مِن معاني هذا الحديثِ بعدَ هذا في موضعِه إن شاء الله تعالى، وكذلك حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ يأتي الكلامُ عليه في البابِ بعدَ هذا إن شاء الله تعالى.
          وقد اختلف العلماءُ فيمن أقرَّ بالزِّنا بامرأةٍ معيَّنَةٍ وجَحَدتِ المرأةُ، فقال مالكٌ: يُقام عليه حدُّ الزِّنا، وإنْ طلبتْ حدَّ القذْفِ أُقيم عليه أيضًا، وكذلك لو أقرَّتْ هي وأنكرَ هو. وقال أشهبُ: يُحَدُّ للزِّنا دون القذفِ لأنَّه لا يخلو أنْ يكونَ صادقًا أو كاذبًا، فالأوَّلُ لا يُحدُّ لقذْفِه وإلَّا حُدَّ للقذْفِ دونَ الزِّنا، فعلى أيِّ وجهٍ كان فلا يُجمَعُ عليه الحدَّان. وقال الأَبْهَرِيُّ: بل ثَمَّ قِسمٌ ثالثٌ وهو أن يكونَ مكرِهًا لها على الزِّنا فيكون صادقًا / في إقرارِه على نفْسِه كاذبًا في قذْفِه، فيجتمع الحدَّان.
          وقال أبو حَنيفَةَ والأوزاعِيُّ: عليه حدُّ القذْفِ ولا حدَّ عليه للزِّنا. وقال أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والشَّافِعيُّ: مَن أقرَّ منهما فإنَّما عليه حدُّ الزِّنا فقط.
          حُجَّةُ مالكٍ أنَّ حدَّ الزِّنا واجبٌ عليه بإقرارِه، وليس إقرارُه دليلًا على صِدقِه على المقذوف؛ لأنَّا لو علِمْنَا صِدْقَهُ بِبَيِّنَةٍ أو بإقرارِ المرأةِ لم يجب عليه الحدُّ، فلمَّا لم يكن إلى البَيِّنَةِ ولا إلى الإقرارِ سبيلٌ وجَبَ لها أن تطلُبَ حقَّها مِن القاذف، كما لو أقرَّ رجلٌ أنَّ زوجتَه أُختُه لَحَرُمَتْ عليه ولم يَثبُتْ نسبُها بقولِه وحدَه.
          وحُجَّةُ أبي حَنيفَةَ والأوزاعِيِّ أيضًا أنَّه لَمَّا قَذَفها ولم يأتِ بأربعةِ شهداءَ لزِمَهُ حدُّ القذفِ للآية، فلمَّا حُدَّ لها استحالَ أن يُحدَّ في الزِّنا لِحُكْمِنَا لها بالإحصان، وأيضًا فإنَّه لا يجوز أن يجتمع حدَّان أبدًا، فإذا اجتمعا ثبت إلزامهما، وإنَّما كان عندَه حدُّ القذف ألزمَ مِن حدِّ الزِّنا؛ لأنَّه مَن أقرَّ على نفْسِه بالزِّنا ثمَّ رجعَ فإنَّه يُقبَلُ رجوعُه وَمَن قَذَف أحدًا لم يَنفَعْهُ الرُّجوعُ، وكذلك مِن وجَبَ عليه حدُّ الزِّنا والقذفِ وكان عليه القَتْلُ فإنَّه يُحدُّ للقذْفِ ويُقتَلُ ولا يُحَدُّ للزِّنا.
          حُجَّةُ الشَّافِعيِّ أَنَّا قد أحطْنا عِلْمًا أنَّه لا يجبُ عليه الحدَّانِ جميعًا؛ لأنَّه إنْ كان زانيًا فلا حدَّ عليه للقذفِ، وإنْ كان قاذفًا لِمُحْصَنَةٍ فليسَ بزانٍ وهو قاذِفٌ، فحدُّه للقذفِ، وإنَّما وجبَ عليه حدُّ الزِّنا؛ لأنَّ مَن أقرَّ على نفْسِه وهو مُدَّعٍ فيما أقرَّ به على غيرِه، فلذلك لم يُقبَلْ قولُه عليها، ويُؤخَذُ بإقرارِه على نفْسِه.
          فَصْلٌ: العَسِيفُ هو الأجيرُ كما قاله مالكٌ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وقد يكون العبدَ وقد يكون السَّائلَ. وزاد في «المحكم» في العَسِيفِ الأجيرُ المُسْتَهَانُ به. قال: وقيل هو المملوك المُسْتَهانُ، وقيل: كلُّ خادمٍ عَسِيفٌ، والجمع عُسَفَاء على القياسِ وعِسَفةٌ على غيرِ قياسٍ، وفي «شرح الموطَّأ» لعبدِ الملك بن حَبيبٍ السُّلمِيِّ: العَسِيفُ الغُلَامُ الَّذي لم يبلُغِ الحُلُمَ.