التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات}

          ░35▒ بَابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْلِه: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25]. [فتح 12/161]
          هكذا في أصولِ البُخَاريِّ لم يذكُرْ فيه حديثًا، وأمَّا ابنُ بطَّالٍ فأدخَلَ فيه حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺ في البابِ بعدَه، ثمَّ ذَكَرَهُ فيه أيضًا لكن مِن طريقٍ آخرَ، وأباه ابنُ التِّين فذكَرَهُ كما ذكرْناه.
          والطَّوْلُ في اللُّغةِ الفَضْلُ، ومنه: تطوَّلَ اللهُ علينا. والمُحْصَنَاتُ العَفِيفاتُ أو الحرائرُ قولان.
          وقولُه: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} المرادُ السَّرَاري.
          وقولُه: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فيه قولانِ: أحدُهما: إنَّكم مؤمنونَ وأنتم إخوةٌ. والثَّاني: إنَّكم سواءٌ، وإنَّما قيل لهم هذا فيما رُوِيَ لأنَّهم كانوا في الجاهليَّةِ يُعَيِّرونَ بالهُجنَةِ ويُسَمُّونَ ابنَ الأَمَة هَجِينًا، فقال تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.
          والمُسَافِحاتُ الزَّانياتُ. والأَخْدَانُ الصُّدَقاءُ.
          وقولُه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قُرِئَ بضمِّ الهمزةِ أي زُوِّجْنَ وبفتْحِها، وفيه قولانِ:
          أحدُهما: أسْلَمْنَ، وهو قولُ ابنِ مَسْعُودٍ وعليٍّ وابنِ عُمَرَ وأَنَسٍ والنَّخَعِيِّ، وذُكِرَ عن عُمَرَ والشَّعْبِيِّ، وبه قال مالكٌ واللَّيْثُ والأوزاعِيُّ والكوفيُّونَ والشَّافِعيُّ فيما حكاه ابنُ بطَّالٍ وغيرُه، وسواءٌ كانت عندهم متزوِّجةً أم لا أنَّها لا تُحدُّ إذا زنت. قال بعضُ النَّاس: إنْ أُحصنَا رُجِمَا كالأحرار. وقال داودُ: يُجلَدُ العبدُ مئةً والأمَةُ خمسين نِصفَ جَلْدِ الحُرَّة؛ لأنَّه لا يقولُ بالقياس.
          ثانيهما: التَّزويج، وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ وطَاوُسٍ وقَتَادَةَ، وبه قال أبو عُبَيْدٍ، فإذا زنتْ ولا زوجَ لها أُدِّبَتْ ولا حدَّ عليها. وقال الزُّهْرِيُّ: تُحدُّ إذا زنتْ وهي مُتزوِّجةٌ بالكتاب وتُحدُّ إذا لم تتزوَّج بالسُّنَّة، والاختيارُ عند أهل النَّظرِ {أُحْصِنَّ} بالضمِّ، لأنَّه قد سلف ذِكْرُ إسلامِهنَّ في قولِه {الْمُؤْمِنَاتِ}.
          وفي «علل ابن الجوزيِّ» عن ابنِ عَبَّاسٍ مرفوعًا: ((ليس على الأَمَةِ حدٌّ حتَّى تُحْصَنَ)) ثمَّ قال: الصَّحيحُ وَقْفُه. وقال إسماعيلُ: في الأوَّلِ بُعدٌ لسبْقِه الإيمان فيبعُدُ أن يُقال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فإذا آمنَّ. ويجوز في كلامِ النَّاسِ _على بُعدِهِ_ في التكرير، وأمَّا القرآنُ فَنَزَلَ على أحسنِ الوجوه وأَبْيَنِها، والقولُ الثاني يردُّه حديثُ أبي هُرَيْرَةَ الآتي.
          قال: فالأمرُ عندَنا أنَّها إذا زنتْ وهي مُحْصَنةٌ مَجْلودةٌ بالكتاب، وإنْ زنتْ قبلَ أن تُحْصَنَ فبالسُّنَّة، وإنَّما استوى فيها الإحصان وغيرُه لأنَّها جُعِلَ عليها إذا زنت نِصفُ ما على الحرائرِ مِن العذاب، وكان عذابُ الحرائرِ في الزِّنا الرَّجْمُ في موضعٍ والجَلْدُ في آخَرَ، فلمَّا جُعِلَ عليها النِّصفُ علمنا أنَّه الجَلْدُ.
          وزعمَ أصحابُ القول الآخَرِ _منهم الطَّحاويُّ_ أنَّه لم يَقُل في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: (وَلَمْ تُحْصَنْ) غيرُ مالكٍ، وليس كما زعموا، وقد رَوَاهُ يَحيى بنُ سَعِيدٍ عن الزُّهْرِيِّ كما رواه مالكٌ، ورواهُ أيضًا طائفةٌ عن ابنِ عُيَينَةَ عن الزُّهْرِيِّ، وهم أئمَّةُ الحديث. وأغربَ / الدَّاودِيُّ فقال: قولُه: (وَلَمْ تُحْصَنْ) يعني ولم تُعْتَق.
          فَصْلٌ: والعَنَتُ الزِّنا، وأصلُه في اللُّغةِ المَشَقَّة.
          فَصْلٌ: وإنَّما شدَّد في نِكاحِ الإماءِ لِرِقِّ ولدِها وامتهانِها في الخِدمةِ وهو شاقٌّ على الزَّوج، وقد أسلفْنا قول مالكٍ وابنِ القاسم هل يجوز للحرِّ نِكاحُ الأَمَةِ إذا كان ولدُه رقيقًا؟ فمنعَه مرَّةً إلَّا بوجودِ شرطينِ: عدمِ الطَّوْلِ، وخشيةِ العَنَتِ، وأجازه أُخرى لقولِه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ووجهُ المنعِ آية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء:25] وأكثرُ قول مالكٍ المنعُ، وأكثرُ قولِ ابنِ القاسمِ الجوازُ كما نبَّه عليه ابن التِّين.
          واختُلِفَ إذا تزوَّج حُرَّةً، فقال مالكٌ: ليس ذلك بِطَوْلٍ، وقال ابنُ حَبِيبٍ: هو طَوْلٌ وتَحْرُمُ عليه الأَمَةُ. وقال مَسْرُوقٌّ والمُزنيُّ: إذا وَجَدَ طَوْلًا انفسخَ نِكاحُ الأَمَةِ وإن لم يتزوَّج الحرَّةَ.
          وقولُه: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فيه دليلٌ أنَّه لا يجوز نكاحُ الأَمَةِ الكافرةِ مِن دليلِ الخطاب، والمعروفُ مِن مذهبِ مالكٍ أنَّ نِكاحَ الأَمَةِ الكتابيَّةِ لا يجوز. وقال أشهبُ عند مُحَمَّدٍ فيمن أسلَمَ وتحتَه أمَةٌ كِتَابيَّةٌ: لا يُفرَّق بينهما. فأخذَ منه بعضُهم جوازَ نِكاح الأمَةِ الكتابيَّةِ، وهذا صحيحٌ إذا قلنا إنَّ الاستدامةَ كالابتداءِ.