التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت

          ░31▒ بَابُ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ.
          كأنَّهُ يريدُ والله أعلمُ: باب هل يَجِبُ على الحُبلى رَجْمٌ أم لا؟
          6830- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنَ عَبَّاسٍ ☻: (كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحمن بْنُ عَوْفٍ) الحديثَ بِطُولِه. وموضعُ الحاجةِ منه: (إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ).
          والكلامُ عليه مِن وجوهٍ تجمع صُورًا مِن العلم:
          أحدُها: معنى قولِه: (كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ) يعني القرآنَ، وهو يدلُّ على أنَّ العلمَ يَأخذُهُ الكبيرُ عن الصَّغيرِ لأنَّ ابنَ عَبَّاسٍ لم يكن مِن المهاجرينَ لِصِغَرِ سِنِّه. وأغرب الدَّاودِيُّ فقال: يعني يَقرأُ عليهم ويُلقِّنُونَه. قال: وكان في وفاةِ رسولِ الله صلعم إنَّما حَفِظَ المُفَصَّلَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ وأَخَذَ عنهم الحديثَ. قال: كنتُ آتي بابَ الرَّجُل مِن الأنصار فأجلسُ ثمَّ أنصرفُ ولا أدخلُ إجلالًا للعلمِ ولو شئتُ لدخلتُ. لا جَرَم اعترضهُ ابنُ التِّين فقال: هذا خروجٌ عن الظَّاهر بل عن النَّصِّ لأنَّ قولَه: (أُقْرِئُ رِجَالًا): أُعلِّمهم وأُقْرِئُهُم القرآنَ.
          ووقع في كلامِ بعضِ الشُّرَّاحِ أنَّ في «الغرائب» للدَّارَقُطْنِيِّ: هو عبد الرَّحمن بن عوفٍ. وهذا قصْدُهُ فهو في البُخَاريِّ كما أسلفْنَاه.
          وقال الكوفيُّون: ترجمَ بعدَ الوضعِ على ما رواه عِمْرَان بن حُصَينٍ: أنَّ امرأةً أَتَتْ رسولَ الله صلعم فذَكَرتْ أنَّها زَنَتْ، فأمرَ بها أن تَقْعُدَ حتَّى تَضَعَه، فلمَّا وضعتْه أمرَ برجْمِها وصلَّى عليها، وقيل: إنْ رأى الإمامُ أن يَسْتَرْضِعَ له فَعَلَ وإنْ رأى أنْ يؤخِّرَها فَعَلَ.
          واختلفوا في المرأةِ تُوجَدُ حاملًا ولا زوجَ لها، فقال مالكٌ: إنْ قالت: استُكْرِهتُ أو تزوَّجتُ لا يُقبل منها ويُقام عليها الحدُّ إلَّا أن تُقيمَ بَيِّنَةً على ما ادَّعتْهُ مِن ذلك أو تَجِيءَ تَدْمَى أو استغاثتْ حتَّى أتتْ وهي على ذلك. وقال ابنُ القاسم: إنْ كانت غريبةً طارئةً فلا حَدَّ عليها. وقال ابنُ التِّين: مذهبُ مالكٍ أنَّها تُحدُّ. وقال مُحَمَّدٌ: لا يجبُ حدُّ الزِّنا إلا بإقرارٍ، ولا رجوعَ بعدَه حتى تُحدَّ، أو بشهادةِ أربعةٍ على الرُّؤيةِ، وبظهورِ حَمْلٍ بامرأةٍ غيرِ طارئةٍ لا يُعلَمُ لها نِكَاحٌ ولا مِلْكٌ، هذا قول مالكٍ وأصحابِه، وكلام مُحَمَّدٍ معارَضٌ في الحَصْرِ، وحقُّه زيادةُ: ولا إكراهٍ ولا خطأٍ.
          وقال الكوفيُّون والشَّافِعيُّ: لا حدَّ عليها إلَّا أن تُقِرَّ بالزِّنا أو تقومَ عليها بَيِّنةٌ، ولم يفرِّقوا بين طارئةٍ وغيرِها، واحتجُّوا بحديثِ: ((ادرؤوا الحُدُودَ بالشُّبُهات)).
          وحُجَّةُ مالكٍ قولُ عُمَرَ ☺ في الحديثِ: (الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ...) إلى آخرِه. فسوَّى بينَ البيِّنة والإقرارِ وبينَ وجودِ الحَبَلِ في أنَّ ذلك كلَّه مُوجِبٌ للرَّجْمِ. وقد رُوِيَ مِثْلُ هذا القولِ عن عُثْمَانَ وعليٍّ وابنِ عَبَّاسٍ، ولا مُخالِفَ لهم في الصَّحابة.
          ورُوي عن عُمَرَ أيضًا في امرأةٍ ظَهَرَ بها حَمْلٌ فقالت: كنتُ نائمَةً فما أيقظَنِي إلَّا الرَّجُلُ وقد رَكِبَنِي، فَأَمَرَ أنْ تُرفَعَ إليه إلى الموسم وناسٌ مِن قومِها، فسألهم عنها فأثنَوْا عليها خيرًا، فلمْ يَرَ عليها حدًّا وكَسَاها وأوصى بها أهلَها، وقال به بعضُ متأخِّري المالكيَّةِ.
          ثالثُها: قولُ القائل: (لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا) يعني رجلًا مِن الأنصار؛ لأنَّه لم يرَ الخلافةَ في قُرَيشٍ مكتوبةً في القرآنِ فعرَّفه عُمَرُ أنَّ ثبوتَ ذلك بالسُّنَّة.
          وفيه / أنَّ رَفْعَ مِثْلِ هذا الخبرِ إلى السُّلطانِ واجبٌ لِمَا يُخاف مِن الفِتنةِ على المسلمين، أَلَا ترى إنكارَ عُمَرَ ☺ تلك المقالة، وقال: (لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْأَمْرُ إلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيشٍ) والمعروفُ هو الشَّيءُ الَّذي لا يجوزُ خِلافُه، وهذا يدلُّ أنَّه لم يُختلَف في ذلك على عهدِ رسولِ الله صلعم، ولو اختُلِف فيه لعُلِمَ الخلافُ فيه. والمعروفُ ما عَرَفَهُ أهلُ العلمِ وإنْ جَهِلَهُ كثيرٌ مِن غيرِهم، كما أنَّ المنكَرَ ما أنكرهُ أهلُ العلمِ.
          والدَّليلُ على أنَّ الخلافةَ في قُرَيشٍ أحاديثُ كثيرةٌ منها قولُه ╕: ((الأئمَّةُ مِن قُرَيشٍ)) ومنها أنَّه ╕ أوصَى بالأنصارِ مَنْ وَلِيَ مِن أَمْرِ المسلمين أنْ يَقْبَلَ مِن مُحسنِهم ويَتجاوزَ عن مُسيئِهم، فأخبر أنَّهم مُستوصًى بهم محتاجون أن يُقبَلَ إحسانُهم ويُتجاوزَ عن مُسيئِهم، وفيه دليلٌ واضحٌ أنَّهم ليس لهم في الخلافةِ حقٌّ، ولذلك قال عُمَرُ: (إِنِّي لَقَائِمٌ العَشيَّةَ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ) فالغَصْبُ لا يكونُ إلَّا أَخْذُ ما لا يجب، وإخراجُ الأمرِ عن قُرَيشٍ هو الغَصْبُ.
          رابعُها: في قولِ ابنِ عوفٍ لعُمَرَ حين أراد أن يقومَ في الموسِمِ دليلٌ على جوازِ الاعتراضِ على السُّلطانِ في الرَّأيِ إذا خَشِيَ مِن ذلك الفتنةَ واختلافَ الكلمة.
          خامسُها: قولُ ابنِ عوفٍ: (يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ المَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ) الرَّعَاعُ _بفتِحِ الرَّاءِ_ الشَّبابُ الأوغادُ، ذكره في «الصِّحَاح» واحدُها رَعَاعَة، والغَوْغَاءُ _ممدودٌ_ سَفَلةُ النَّاس وأخلاطُهم، وأصلُه الجَرَادُ حين يخفُّ للطَّيرانِ ثمَّ استُعيرَ للسَّفَلةِ مِن النَّاس والمُسْرعين إلى الشَّرِّ، ويجوز أن تكونَ الغَوغَاءُ الصَّوتُ والجَلَبةُ لكثرةِ لَغَطِهم وصِيَاحِهم، وفي حديثِ عليٍّ: وسائرُ النَّاس هَمَجٌ رَعَاعٌ. والهَمَجُ رُذَالةُ النَّاسِ، وذُبَابٌ صغيرٌ يَسقُطُ على وجوهِ الغَنَمِ والحَمِير، وقيل: هو البَعُوضُ. فشبَّهَ به رَعَاع النَّاسِ، يُقال: هُم هَمَجٌ هَامِجٌ على التَّأكيد.
          وقولُه قبْلَهُ: (يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أَمْرَهُمْ) الغَصْبُ أخْذُ ما لا يَجِبُ، وإخراجُ الأمْرِ عن قُرَيشٍ غَصْبٌ. ورُوي _كما قال ابنُ التِّين_ بالعينِ المهمَلَةِ والضَّادِ، قال: ولعلَّه مِن قولِهم فلانٌ أَعْضَب، أي لا ناصرَ له. والمَعْضُوبُ الضَّعيف. ومِن قولِهم: عَضَبتِ الشَّاة إذا انكسَرَ أحدُ قَرْنَيْها وأَعْضَبْتُها أنا، وقيل: هي الَّتي انكسَرَ قرنُها الدَّاخِلُ وهو المَشَاشُ.
          وقال الدَّاودِيُّ: معناه يَغْصبونَهم أمْرَهم، يعني مِن غيرِ مشورةٍ، وإنَّما كان الأمْرُ مستقيمًا كلَّما ماتَ خليفةٌ اختاروا منهم، فلمَّا صارَ الأمْرُ إلى السَّلف عاد مُلْكًا.
          وقولُه: (يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ) أي على القُرْبِ منك عند الاجتماعِ والمزاحمة، ورُوي بالنُّون، أي مِثْلِك. وذكرَهُ ابنُ التِّين أوَّلًا: (عَلَى قُرْبِكَ) وفسَّرَّه بما سلفَ ثمَّ قال: ورُوِيَ بالنُّونِ ورُوِيَ بالباء.
          خامسُها: قولُ ابنِ عوفٍ: (وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا) يدلُّ أنَّه لا يجِبُ أنْ يُوضَع دقيقُ العِلْم إلَّا عند أهلِ الفَهْمِ له والمعرفةِ بمواضعِه دونَ العوامِّ والجَهَلةِ.
          وقولُه: (يُطَيِّرونها عِنْدَ كُلِّ مُطَيِّرٍ) أي تُتَأوَّلُ على غيرِ وجهِها. وفيه دليلٌ أنَّه لا يجبُ أنْ يُحَدِّثَ بحديثٍ يَسبِقُ منه إلى الجُهَّالِ الإنكارُ لمعناه لِمَا يُخشَى مِن افتراقِ الكلمةِ في تأويلِه.
          سادسُها: قولُه: (فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ...) إلى آخرِه، فيه دليلٌ على أنَّ أهلَ المدينةِ مَخْصُوصُونَ بالعلمِ والفهمِ، أَلَا ترى اتِّفاقَ عُمَرَ مع عبدِ الرَّحمن على ذلك ورجوعَه إلى رأيِه. وفيه الحضُّ على المسارعةِ إلى استماعِ العِلْمِ، وأنَّ الفضْلَ في القُرْبِ مِن العالِم.
          سابعُها: قولُه لسعيدِ بن زَيْدٍ: (لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا) أرادَ أن يُنَبِّهَه ليُحْضِرَ فهْمَهُ لذلك، وأمَّا إنكارُ سعيدٍ عليه فلعلَّه باستقرارِ الأمور مِن السُّنَنِ والفرائضِ عندهم.
          وقولُه: (فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا) يعني حَسَبَ ما وَعَى وَعَقَل. وفيه الحضُّ لأهلِ الفهمِ والضَّبْطِ للعلم على سامعِه ونَشْرِه.
          وفي قولِه: (وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ) النَّهيُ لأهلِ التَّقصيرِ والجهلِ عن الحديث بما لا يعلمونه ولا ضبطوه.
          وقولُه قبْلَ ذلك: (فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي عُقْبِ ذِي الْحَجَّةِ) يُقالُ: جاء في عَقِبِ الشَّهرِ، وعلى عَقِبِهِ. بفتْحِ العينِ وكسْرِ الباء إذا جاء وقد بَقِيَ منه بقيَّةٌ، ويُقال: جاء على عُقْبِ الشَّهرِ، وفي عُقْبِه. بِضَمِّ العين وإسكانِ القافِ إذا جاء بعد تمامِه.
          وقولُه بعدَه: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ) فيه دِلالةٌ لمن قال: إنَّ السَّاعاتِ المذكورةَ في قولِه: ((مَن راح في السَّاعةِ الأولى فكأنَّما قرَّب...)) كذا إلى آخرِه. أنَّ ذلك في السَّاعةِ السَّابعةِ، وهو وجْهٌ عندَنا وقولُ مالكٍ، والأصحُّ عندَنا أنَّها مِن أوَّلِ النَّهار، وبه قال ابنُ حَبِيبٍ منهم.
          وقولُه لسعيدِ بن زَيْدٍ: (لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً) أراد أن ينبِّهه ليُحضرَ فهمَه على ما يقوله لِعِلْمِه باستقرارِ الأمورِ مِن الفرائضِ والسُّننِ. وفيه دليلٌ أنَّ عَشِيَّةً مِن الرَّواحِ إلى اللَّيل.
          وقولُه: (لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي) قال الدَّاودِيُّ: يريد عند أَجَلِي، وكان كذلك، ومات في ذلك الشَّهرِ وكان رأى رُؤيا أنَّ ديكًا نَقَرَهُ في بطْنِه ثلاثَ نَقَراتٍ، فقيل له: عِلجٌ يَطْعَنُكَ، وقال كَعْبٌ: والله لا يَنْسَلِخُ ذو الحِجَّةِ حتَّى تدخلَ الجنَّةَ.
          ثامنُها: إدخالُه في هذا الحديثِ آيةَ الرَّجْمِ، وأنَّها نزلتْ على رسولِ الله صلعم وقُرِئَتْ وعُمِلَ بها، ثُمَّ قولُه: (لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ) أنَّه كان أيضًا مِن القرآن ورُفع خطُّه وبَقِيَ حُكمُه، فمعنى ذلك أنَّه لا يجب لأحدٍ أن يَتنطَّعَ فيما لا نصَّ لَهُ فيه مِن القرآن وفيما لا يَعلَمُ مِن سُنَّتِه، ويقرِّرَ برأيِه فيقولَ ما لا يَحِلُّ له بما سوَّلتْ له نفْسُه الأمَّارةُ بالسُّوء، وبما نَزَغ به الشَّيطانُ في قلبِه حتَّى يسألَ أهلَ العلمِ بالكتابِ والسُّنَّةِ عنه كما تنطَّع الَّذي قد قال: (لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَبَايَعْتُ فُلَانًا) لَمَّا لم يَجِد الخلافةَ في قُرَيشٍ مرسومةً في الكتاب، فعرَّفه عُمَرُ أنَّ الفرائضَ والقرآنَ منه ما ثبتَ حُكمُه عندَ أهلِ العلم به ورُفِعَ خطُّه، فلذلك قدَّم عُمَرُ هاتين القضيَّتَينِ اللَّتين لا نصَّ لهما / في القرآنِ وقد كانتا فيه، ولا يَعلَمُ ثباتَ حُكمِهما إلَّا أهلُ العلم، كما لا يَعرفُ أهلَ بيتِ الخلافةِ ولمن تَجِبُ إلَّا مَن عَرَف مِثْلَ هذا الَّذي يَجهلُه كثيرٌ مِن النَّاسِ.
          تاسعُها: في قولِ عُمَرَ ☺: (أَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ) دِلالَةٌ على دُروسِ العلم مع مرورِ الزَّمانِ ووجودِ الجاهلينَ السَّبيلَ إلى التَّأويلِ بغيرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّوا ويُضِلُّوا كما قال ╕.
          ومعنى (كَفَرْتُم أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ) أي كُفْرَ حقٍّ ونِعْمةٍ.
          قولُه: (لَا تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي لا تَمدحونِي مَدْحَ النَّصَارى عيسى، جَعَلَهُ بعضُهم إلهًا مع الله وجعله بعضُهم ولدَه، ولذلك قال: (وَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) عرَّفهم ما خَشِيَ عليهم جهلَه والغلوَّ فيه كما صنعتْه النَّصارى في قولِهم في عيسى أنَّه ابنُ الله، تَعَالى الله عن ذلك.
          عاشرُها: قولُه: (إنَّ بَيْعَةَ أبي بَكْرٍ كانت فَلْتَةً) وقولُ عُمَرَ: (إِنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ) (فَلْتَةً) قال أبو عُبَيْدٍ: معنى الفَلْتَةِ الفَجْأةُ، وإنَّما كانت كذلك لأنَّها لم يُنتظَرْ بها العوامُّ وإنَّما ابتدرَها أكابرُ أصحابِ مُحَمَّدٍ صلعم مِن المهاجِرين وعامَّةِ الأنصارِ إلَّا تلك الطَّيرَة التي كانت مِن بعضهم، ثمَّ أصغَوا له كافَّتُهم لمعرفتِهم أنَّه ليس لأبي بَكْرٍ مُنَازِعٌ ولا شَرِيكٌ في الفضل، ولم يكن يُحتاجُ في أمْرِه إلى نَظَرٍ ولا مُشاورَةٍ، فلذلك كانت فَلْتَةً وَقَى اللهُ بها الإسلامَ وأهلَه شرَّها.
          وقال الدَّاودِيُّ: كانت فَجْأَةً مِن غيرِ مَشورةٍ كعامّةٍ من غير مشورةٍ.
          وقال الكَرَابيسِيُّ في قولِهم: (كانت فَلْتَةً) لأنَّهم تفلَّتُوا في ذهابِهم إلى الأنصارِ وبايعوا الصِّدِّيقَ بحضْرَتِهم وفيهم مَن لا يَعرف ما يجب عليه، فقال قائلٌ منهم: منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ. وقد ثَبَتَ أنَّ رسول الله صلعم قال: ((الخِلَافةُ في قُرَيشٍ)) فإمَّا بايعناهم على ما لا يجوز لنا وإمَّا قاتلناهم على ذلك، فهي الفَلْتة، أَلَا تَرَى قولَ عُمَرَ ☺: واللهِ ما وَجَدْنا فيما حَضَرَنا مِن أمرٍ أقوى مِن بيعةِ أبي بَكْرٍ، ولأنْ أُقدَّم فَتُضربَ عُنُقي أحبُّ إليَّ مِن أنْ أتأمَّر على قومٍ فيهم أبو بَكْرٍ. فهذا يبيِّنُ أنَّ قولَ عُمَرَ: (كَانَتْ فَلْتَةً) لم يُرِدْ مبايعةَ أبي بَكْرٍ وإنَّما أراد ما وصفهُ مِن خِلافة الأنصار عليهم وما كان مِن أَمْرِ سَعْدِ بن عُبَادةَ وقومِه.
          وقولُ عُمَر ☺: (قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا) ولو عَلِموا أنَّ في أمرِ أبي بَكْرٍ شُبهةً وأنَّ بين الخاصَّةِ والعامَّةِ فيه اختلافًا لَمَا استجازوا الحُكمَ عليهم بعَقْدِ البَيْعةِ، ولو استجازوه ما أجازه الآخَرون إلَّا لمعرفةٍ منهم به متقدَّمةٍ، ويدلُّ على ذلك ما رواه النَّسائيُّ مِن حديثِ سَالِم بن عُبَيْدٍ _وذكرَ موتَه ╕_ قال: خرج أبو بَكْرٍ فاجتمع المهاجرونَ يَتشاورونَ بينهم، ثمَّ قال: انطلِقوا إلى إخواننا الأنصار، فقالت: منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، فقال عُمَرُ ☺: سَيفانٍ في غِمْدٍ إذًا لا يَصطلحانِ، ثمَّ أخذَ بِيَدِ أبي بَكْرٍ فقال: مَن له هذه الثَّلاثُ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} مَن صاحبُه؟ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] مَن هما؟ ثمَّ بايعه النَّاسُ أحسنَ بيعةٍ وأكملَها.
          فدلَّ هذا الحديثُ أنَّ القومَ لم يُبايعوه إلَّا بعد التَّشاورِ والتَّناظرِ واتِّفاقِ الملأ منهم الَّذين هُم أهلُ الحَلِّ والعَقْدِ على الرِّضا بإمامتِهِ والتَّقديمِ لِحقِّه.
          ولِقولِهم: (كَانَتْ فَلْتَةً) تفسيرٌ آخَرُ: قال ثَعْلَبٌ وابنُ الأعرابيِّ: الفَلْتةُ عند العربِ آخِرُ ليلةٍ مِن الأشهُرِ الحُرُمِ يُشكُّ فيها فيقول قومٌ: هي مِن شَعْبانَ، ويقول قومٌ: هي مِن رَجَبٍ. وبيانُ هذا أنَّ العرب كانوا يعظِّمُون الأشهرَ الحُرُم ولا يُقَاتلون فيها ويرى الرَّجُلُ قاتِلَ أبيه فلا يمسُّه، فإذا كان آخِرُ ليلةٍ منها ربَّما شكَّ قومٌ فقالوا هي مِن الحلِّ وقال بعضُهم مِن الحُرُمِ، فيبادر الموتورُ في تلك اللَّيلةِ فينتهِزُ الفرصةَ في إدراكِ ثأْرِه غير معلومٍ أن يَنصرم الشَّهرُ الحرامُ عن يَقِينٍ، فيكثُرُ تلكَ اللَّيلةَ سَفْكُ الدِّماء وشنُّ الغارات.
          فشبَّه عُمَرُ ☺ أيَّامَ حياةِ رسولِ الله صلعم وما كان النَّاسُ في عَهْدِه عليه مِن اجتماعِ الكلمة برسولِ الله صلعم وشُمُولِ الأُلْفَةِ ووقوعِ الأَمَنةِ بالشَّهرِ الحَرَامِ الَّذي لا قِتَالَ فيه ولا نِزَاع، وكانَ موتُه شَبِيهَ القِصَّة بالفَلْتة الَّتي هي خُرُوجٌ مِن الحُرُمِ لِمَا نَجَمَ عند ذلك مِن الخلافِ وظَهَرَ مِن الفسادِ، وما كان مِن أهلِ الرِّدَّةِ ومَنْعِ العربِ الزَّكاةَ وتخلُّفِ مَن تخلَّفَ مِن الأنصارِ جريًا منهم على عادةِ العربِ أَلَّا يَسُودَ القبيلةَ إلَّا رجلٌ منها، فَوَقَى اللهُ شرَّها بتلك البيعةِ المباركةِ الَّتي كانت جِمَاعًا للخيرِ ونِظامًا للأُلْفةِ.
          وقد رُوِّينا نصَّ هذا المعنى عن سَالِم بن عبد الله، رواه سَيْفٌ في كتابِ البُيوع عن مُبَشِّرٍ عنه قال: قال عُمَرُ: كانت إمرةُ أبي بَكْرٍ فَلْتَةً وَقَى اللهُ شرَّها، قلتُ: ما الفَلْتةُ؟ قال: كان أهلُ الجاهليَّةِ يَتحَاجَزونَ في الحُرُمِ فإذا كانت اللَّيلةُ الَّتي يُشكُّ فيها أَدْغَلوا فأغاروا، وكذلك كان يومُ ماتَ رسولُ الله صلعم أَدْغَلَ النَّاسُ مِن بين مُدَّعٍ إمارةً أو جاحدٍ زكاةً، فلولا اعتراضُ الصِّدِّيقِ دونَها لكانت الفضيحةُ، ذكره الخطَّابيُّ كما نقله ابنُ بطَّالٍ.
          قال ابنُ التِّين: ولم أَرَهُ، والَّذي رأيتُ له أنَّه قال: كانتْ فجأةً مِن غيرِ مشورةِ أحدٍ. وقال صاحبُ «المنتهى في اللُّغة»: الفَلْتةُ آخِرُ يومٍ مِن كلِّ شهرٍ، وربُما سُمِّي آخِرُ يومٍ مِن الشَّهر الحَرَام فَلْتَةً، واستشهدَ لكلٍّ منهما. وفي «المحكم»: الفَلْتَةُ الأمرُ يقَعُ مِن غيرِ إحكامٍ، وافْتَلَتَ عليه قضى الأمرَ دونَه، وأفلتُّ الشَّيءَ أخذْتُهُ بسرعةٍ، وقال الهَرَويُّ والجَوْهَرِيُّ: الفَلْتةُ الفَجْأةُ إذا لم تكن عن تدبُّرٍ ولا تردُّدٍ. زاد الهَرَويُّ: وإذا عُوجِلَتْ خشيةَ انتشارِ الأمرِ. والفَلْتَةُ بفتْحِ الفاء في اللُّغة وكذا رُوِّيناه. قال ابنُ التِّين: ورُوِيَ بالضَّمِّ.
          الحادي عشر: إنْ قلتَ: فما معنى قولِ أبي بَكْرٍ: وُلِّيتُكم ولستُ بِخيرِكم؟ قلتُ: هذا مِن جُملةِ فَضْلِهِ أَلَّا يرَى لنفْسِه / فضلًا على غيرِه، وهذه صِفةُ الخائفينَ لله تعالى الَّذين لا يُعجبونَ بعملٍ ولا يستكثرونَ له مُهَجَ أنفُسِهم وأموالِهم. قال الحَسَنُ ابنُ أبي الحَسَن: واللهِ ما خَلَق اللهُ بعدَ النبيِّينَ أفضلَ مِن أبي بَكْرٍ. قالوا: ولا مؤمنُ آلِ فِرْعونَ؟ قال: ولا مؤمنُ آلِ فِرْعونَ. ورَوَى الزُّهْرِيُّ عن أنسٍ ☺ قال: سمعتُ عُمَرَ بن الخطَّاب ☺ يقول حين بُويع أبو بَكْرٍ: إنَّ الله قد جمعَ أمرَكم على خيرِكم صاحبِ رسولِ الله صلعم وثاني اثنينِ إذْ هما في الغارِ أبو بَكْرٍ فبايعوه بيعةَ العامَّةِ.
          الثَّاني عشرَ: قولُه: (قَدْ خَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ) وليس ذلك بخلافٍ في الرَّأيِ والمذهبِ، إنَّما هو في الاجتماعِ والحضور، وقيل: كانوا لجؤوا إلى بيتِ فاطمَةَ ليتشاورَ النَّاسُ فخشيَ الصِّدِّيقُ والفاروقُ إن لم يبادروا بالبيعةِ أن يبايِعَ الأنصارُ أحدَهم فتكون فَلْتَةً.
          وقولُه: (وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أبي بَكْرٍ) قال الدَّاودِيُّ: ما أرى هذه اللَّفظةَ تَثْبُتُ لأنَّ أكثرَ الرِّواياتِ المستفيضةِ رواها مالكٌ وغيرُه أنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ كانا في بيتِ عائِشَةَ ♥ فأتى رجُلٌ مِن الأنصارِ فقال: لِيَخْرُجْ إليَّ عُمَرُ، قيل له: هو مشغولٌ. قال: لا بُدَّ أن يخرجَ، إنَّه قد حدَثَ أمرٌ، فخرج إليه فقال: إنَّ الأنصار اجتمعوا ليؤمِّروا أحدَهم فأدرِكوا الأمرَ، فقال عُمَرُ لأبي بَكْرٍ: اعزِم، فخرجا فلقِيَا أبا عُبَيدةَ فَسَارا فكان أبو بَكْرٍ بينهما، فلقيهما رجلان مِن الأنصارِ عُوَيمُ بن سَاعِدةَ ومَعَنُ بنُ عَدِيٍّ فقالا: أين تريدون؟ فقالوا: إخوانُنا الأنصار بَلَغَنَا ما استقلُّوا به، فقالا: امضُوا لأمرِكم، فقالوا: لا بدَّ أن نأتِيَهُم.
          وفي إشارةِ عُمَرَ على الصِّدِّيق أن يأتِيَ الأنصار دليلٌ على أنَّه إذا خُشي مِن قومٍ فتنةً أن لا يُجيبوا إلى الإقبالِ إلى مَن فوقَهم أنْ ينهضَ إليهم مَن فوقَهم ويُبَيِّنَ لجماعتِهم الحقَّ قبْلَ أن يُحكَم بذلك الرأي ويُقضَى به، أَلَا ترى إلى إجابةِ أبي بَكْرٍ إلى ذلك وهو الإمام.
          الثَّالث عشر: قولُ الرَّجلينِ مِن الأنصارِ: (لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمُ اقْضُوا أَمْرَكُمْ) فيه دِلالةٌ أنَّ الأنصارَ لم تُطْبِق على دعواها في الخلافةِ وإنَّما ادَّعى ذلك الأقلُّ، وهذان مَعْنُ بنُ عَدِيِّ بن الجدِّ بن العَجْلانِ أخو عاصِمٍ، وعُوَيمُ بن سَاعِدَةَ.
          وقولُ الأنصارِ: (نَحْنُ كَتِيْبَةُ الله) لا يُنكَرُ ذلك مِن فضلِهم كما قال الصِّدِّيق: (وَلَكِنْ لَا يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ) أي لا يَخرُجُ هذا الأمرُ عنهم.
          وقولُه: (أَوْسَطُ العَرَبِ نَسَبًا) أي أعدلُ وأفضلُ، ومنه قولُه تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي عَدْلًا.
          الرَّابع عشر: قولُ الصِّدِّيق: (قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ) هو مِن طريقِ الأدبِ، خَشِيَ أن يزكِّيَ نفْسَه فَيُعَدَّ ذلك عليه.
          وقولُه: (أَحَدَ) يدلُّ أنَّه لا يكونُ للمسلمين أكثرُ مِن إمامٍ واحدٍ، وقد صحَّ أنَّه ╕ قال: ((إذا بُويعَ لِخليفتَين فاقتلوا الآخِرَ منهما)) يعني اخلعُوه واجعلُوه كمن قُتِل وماتَ بأَلَّا تَقبَلُوا له قولًا ولا تُقيمُوا له دعوةً حتَّى يكونَ في أعدادِ مَن قُتِلَ وبطَل.
          وفيه جوازُ إمامةِ المفضولِ مع وجودِ الفاضلِ إذا كان مِن أهل الغَنَاء والكِفَاية، وقد قدَّم الشَّارعُ أُسَامَةَ على جيشٍ فيهم أبو بَكْرٍ وعُمَرُ.
          وقولُ عُمَر: (لمْ أَكْرَهْ مِنْ مَقَالَتِهِ غَيْرَهَا) يعني إشارتَه بالخلافةِ إلى عُمَرَ لَمَّا ذَكَرَ أن يقومَ لِضَرْبِ عُنُقِه أحبُّ إليه مِن التَّأمُّرِ والتَّقدُّمِ للخلافةِ بحضرتِه.
          وقولُه: (إِلَّا أَنْ تُسَوِّلَ ليْ نَفْسِي) محافظةً لِمَا حلفَ عليه ولمعرفتِه باللهِ مِن تقليبِ القلوبِ فأخَذَ في هذا بأبلغِ العُذْرِ.
          الخامس عشر: قولُ الحُبَابِ بنِ المنذرِ: (أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ) قال الأصمعِيُّ فيما حكاه أبو عُبَيْدٍ: الجُذَيْلُ تصغيرُ جذْلٍ بفتْحِ الجيمِ وكسْرِها، وهو أصلُ الشَّجَرِ كما قاله القزَّاز، أو أُصُولُ الحَطَبِ العِظَام كما قاله الجَوْهَرِيُّ، وهو هنا عودٌ يُنصَبُ للإبِلِ الجَرْباء تَحْتَكُّ به مِن الجَرَبِ، فأرادَ أن يَستشفِيَ به كما كانتِ الإِبِلُ تَستشفِي بالاحتكاكِ بذلكَ العُود. وقال غيرُه: أخبرَ أنَّه شديدُ المعارَضةِ غليظُ الشَّكيمَةِ ثبْتُ القَدْرِ صَلْبُ الكَسْرِ. ويُقالُ: معناه أنا دونَ الأنصارِ جذْلٌ حِكَاكٌ، وكقولِ الرَّجلِ لصاحبِه: أَجْذِلْ عن القومِ. أي خاصِمْ عنهم.
          والعُذَيق تصغيرُ عِذقٍ بكسْرِ العين، والَّذي بالفتح النَّخْلَةُ نفْسُها فأينما مالتْ النَّخلَةُ الكريمةُ بَنَوْا ناحيةَ ميلِها بناءً مرتفعًا يَدْعمُها لكيلا تَسقُطَ، وكذا في القِنْوِ، فذلك التَّرْجِيبُ، ولا يُرْجَّبُ إلَّا كريمُ النَّخْلِ. والتَّرْجِيب التَّعظيمُ، يُقال: رَجَبْتُ الرَّجُلَ رَجَبًا: عظَّمْتُه، ومنه سُمِّي رَجَب لأنَّه كان يُعظَّم، ومنه الحديثُ: ((ورَجَبُ مَضَرَ الَّذي بين جُمَادَى وشَعْبانَ)) وأضاف رَجَبًا إلى مُضَرَ لأنَّهم كانوا يُعَظِّمُونه خِلافَ غيرِهم كأنَّهم اختصُّوا، ومنه سُمِّيَ رَجَبُ، وقد يكون تَرِجيبُها بأنْ يُجْعَلَ حولَها شوكٌ لئلَّا يُتَرَقَّى إليها، ومِن التَّرْجِيب أن يُعمَّدَ بخشبةٍ ذاتِ شُعْبَتَينِ، والرُّجَّبِيَّةُ مِن النَّخلِ فنسبوه إليها. قال الشاعر:
لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رُجَّبِيَّةٍ                     ولكِنْ عَرَايا فِي السِّنينِ الجَوائِحِ
          بِسَنْهَاء وزنُه مفاعيل لكنَّه مكفوفٌ. وكأنَّه أراد به مُشرَّفٌ مُعَظَّمٌ في قومِه ويَدفعُ الجماعةُ به، وإنَّما صغَّرَهما فقال: عُذَيق وجُذَيل على وجه المدح، وإنَّما وصفهما بالكَرَمِ.
          السَّادس عشر: وقولُ عُمَرَ لأبي بَكْرٍ ☻: (ابْسُطْ يَدَكَ) لأبايِعَكَ، وإجابةُ أبي بَكْرٍ له بعدَ أنْ قال: (قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ) دليلٌ على أنَّه لم يحِلَّ له أن يتخلَّفَ عمَّا قدَّمَهُ رسولُ الله صلعم بالدَّليلِ مِن الصَّلاة، وهي عُمدةُ الإسلام، وبقولِه للمرأة: ((إن لم تَجِديني فأْتي أبا بَكْرٍ)).
          فإنْ قلتَ: كيف جاز له أن يَجعلَ الأمْرَ في أحدِهما وقد علِمَ بالدَّليلِ الواضح استخلافَ رسولِ الله صلعم له؟ قيل: ليس في قولِه ذلك تخليةٌ له مِن الأمرِ إذْ كان الرِّضا موقوفًا عليه والاختيارُ إليه، وليس ذلك بمُخرِجِه أن يرضى نفْسَه لها، وإنَّما تأدَّب إذْ لم يَقُلْ: رضيتُ لكم نفسي، فلم يُجِزْ أحدُهما أنْ يَرَى نفْسَه أهلًا لها في زمنٍ فيه أبو بَكْرٍ، وقد رُوي أنَّ عُمَرَ قال لهم: أيُّكم تَطِيبُ نفْسُه أنْ يؤخِّرَ أبا بكرٍ عن مقامٍ أَقَامَهُ فيه رسولُ الله صلعم؟ / فقالت الأنصارُ بأجمَعِهم: لا. ولذلك قال عُمَرُ: (وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرِنا أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أبي بَكْرٍ) يعني في قَطْعِ الخِلَافِ وبِرِضَى الجماعةِ به وإقرارِهم بفضلِهِ.
          السّابع عشر: قولُه: (وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) أي درسناه دروسًا عليه في متابعتهم إلى البَيْعة، والنَّزَوَانُ الوثوبُ.
          الثَّامن عشر: فيه الدُّعاء على مَن يُخشى منه الفتنةُ. وقال الخطَّابيُّ: معنى قولِه: (قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا) أي اجعلوهُ كمن قُتِلَ واحسبُوه في عَدَدِ الأمواتِ ولا تعتدُّوا لمشهَدِه، وذلك أنَّ سعدًا أرادَ في ذلك المقام أن يَبعث أميرًا على قومِه على مذهبِ العرب في الجاهليَّةِ أَلَّا يَسُودَ القبيلةَ إلَّا رجُلٌ منها، وكان حُكْمُ الإسلامِ خلافَ ذلك، فرأى عُمَرُ إبطالَهُ بأغلظ ما يكونُ مِن القولِ وأشنعِه، وكلُّ شيءٍ أبطلتَ فِعلْهُ وسَلبْتَ قُوَّتَه فقد قَتَلْتَه وأَمَتَّه، وكذلك قَتَلْتَ الشَّرابَ إذا مَزَجْتَهُ لِتَكْسِرَ شِدَّته.
          التَّاسع عشر: قولُه: (وَلَيْسَ فيكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ لَه مِثْلُ أبي بَكْرٍ) يريدُ أنَّ السَّابقَ منكم لا يَلحقُ شَأْوَهُ في الفضلِ ولا يكونُ أحدٌ مِثْلَه؛ لأنَّه أسبَقُ السَّابقين، فلذلك مضتْ بَيعتُه على كلِّ حالٍ فجأةً وَوَقَى الله شرَّها، ولا يطمعُ أحدٌ بعدَه في مِثْلِ ذلك، ولا يُبَايَع إلَّا على مشورةٍ واتِّفاقِ كلمةٍ. ويُقال للفَرَسِ الجوادِ: تقطَّعتْ أَعْناقُ الخيلِ إليه فلم تَلْحقْه.
          وقولُه: (عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ) هي بضمِّ الشِّين ويجوزُ إسكانُها وفتْحُ الواو.
          العِشرون: قولُه: (تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا) (تَغِرَّةً) مصدرُ غَرَرْتُهُ إذا لقيتَهُ في الغَرَرِ، وهي مِن التَّغْرِيرِ كالتَّعِلَّةِ مِن التَّعْلِيل، وفي الكلامِ مضافٌ محذوفٌ تقديرُه: خوفَ تَغِرَّة أن يُقتلا. أي خوفَ وقوعِهِما في القتل، فحَذَفَ المضافَ الَّذي هو الخوفُ وأقام المضافَ إليه الَّذي هو (تَغِرَّةً) مقامه، وانتصبَ على أنَّه مفعولٌ له، ويجوز أن يكون قولُه: (أَنْ يُقْتَلَا) معناه خوفَ تَغِرَّة قتلِهِما.
          قال أبو عُبَيْدٍ: التَّغرَّةُ التَّغرير، غرَّرتُ بالقومِ تَغْرِيرًا وتَغِرَّة. وكذلك يُقال في المضاعَف خاصَّةً كقولِك: حلَّلتُ اليمين تَحْلِيلًا وتَحِلَّةً. قال الخطَّابيُّ: وسُئِلَ سعدُ بنُ إبراهيمَ عن تفسيرِ التَّغِرَّةِ فقال: عقوبتُهما ألَّا يؤمَّر واحدٌ منهما، وإنَّما أراد عُمَرُ ☺ أن يَنْعِتَهُما تَغْريرًا بأنفُسِهما بالقتْلِ وتَعْريضًا له فنهاهُما عنه، وأَمَرَ ألا يُؤمَّر واحدٌ؛ لئلَّا يَطمَعَ في ذلك فيُفْعَلَ به هذا الفِعْلُ.
          الحادي بعد العشرين: الدَّافَّةُ القومُ يسيرونَ جماعةً سيرًا ليس بالشَّديدِ لِضَعْفِهم وحاجتِهم، يُقال: هم يَدِفُّون دَفِيفًا، قاله أبو عَمْرٍو. بدالٍ مُهمَلةٍ.
          وقولُه: (فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ) أي مغطًّى ومُدثَّرٌ.
          وقولُه: (مُتَوَعِّكٌ) أي ضعيفٌ بالحُمَّى.
          وقولُه: (يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا) أي يَقطعونا ويَذهبُوا بنا متفرِّقين. وفي حديثٍ آخَرَ: ((أرادوا أن يَخْتَزِلُوه دونَنا)) أي ينفردُون به.
          وقولُه: (وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنْ الْأَمْرِ) أي يخرجُونَنا، يُقال حَضَنْتُ الرَّجلَ مِن الشَّيءِ وأَحْضَنْتُهُ أخرجْتُهُ منه.
          وقولُه: (وَكُنْتُ زَوَّرْتُ مَقَالَةً) هو إصلاحُ الكلام وتهيئتُه كما قال الأصمعِيُّ. وقال أبو زيدٍ: المزوَّرُ مِن الكلامِ والمزوَّقُ واحدٌ، وهو المحسَّنُ المصلَّحُ، وكذلك الخطُّ إذا قوَّمْتَه.
          وقولُه: (فَلَا يُبَايَعُ هُوَ) بالياء، ورُوِيَ: يُتابَعُ.
          والمراد بما سلف مِن قولِه: (أَنْتُمْ رَهْطٌ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ) يريد إنَّكم قومٌ غرباءُ طُرَاةٌ أقبلتُم مِن مكَّةَ إلينا وأنتم نفرٌ يسيرٌ بمنزلةِ الرَّهْطِ ما بين الثَّلاثةِ إلى العَشَرَةِ.
          وقولُ عُمَر ☺: (كُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ) يعني الحِدَّة. هو بالحاء المهملة.
          وقولُه: (ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ) فأجابه لذلك بعدَ قولِه: (رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ) دليلٌ على أنَّه لم يَحِلَّ له أن يتخلَّفَ عمَّا قدَّمه إليه الشَّارِعُ.