التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أكل المضطر

          ░38▒ بابُ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ
          لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى قولِه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثمَّ عَلَيْهِ} [البقرة:172- 173]، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثمَّ} [المائدة:3]. وقولُِه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} إلى قولِه: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} إلى قولِه: {بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام:118-119] {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} قال ابن عبَّاسٍ / مُهْرَاقًا {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}، إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] وقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} الآية[المائدة:88].
          الشَّرح: أصل البَغْي: قَصْدُ الفَسَادِ، وأصل العدوان: الظُّلم، واختلف المفَسِّرون فيها فقِيل: معنى {غَيْرَ بَاغٍ} أي: في أكلِها ولا متعدٍّ فيه مِن غير ضرورةٍ، وعبارة ابن عبَّاسٍ: {غَيْرَ بَاغٍ} في الميْتَةِ {وَلَا عَادٍ} في الأكل. وقال الحسن: {غَيْرَ بَاغٍ} فيها ولا متعدٍّ بأكلِها وهو غنيٌّ عنها، وقِيل: {غَيْرَ بَاغٍ} غير مُسْتَحِلٍّ لها {ولا عادٍ} مُتَزوِّدٍ منها، وقِيل: {غَيْرَ بَاغٍ} في أكلِه شهوةٌ بأكلها تلذُّذًا، {وَلَا عَادٍ} يأكلُ حتَّى يَشْبع ولكن يأكل ما يُمْسِكُ رَمَقَه، وقِيل {عَادٍ} معناه: عائدٌ، فهو مِن المقلوب كشاكي السِّلاحِ أصلُه شَائِكٌ، وهارٍ: أصلُه هائر، ولاتٍ أصلُه لائت، و{غَيْرَ بَاغٍ} على الأئمَّةِ {وَلَا عَادٍ} قاطع سبيل المسلمين في طريقِهم، فإن خرج على الأئمَّةِ أو قطَعَ الطَّريق فلا رُخْصَة له في الأكل، وقِيل: يأكل مع العصيان في سفرِه فلا يعصي بقتل نفسِهِ، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقِيل: هو قادرٌ على التوبة فلا يأكل حتَّى يتوبَ فيقال له: تُبْ كُلْ.
          والمَخْمَصَةُ: ضُمُور البطنِ مِن الجوع، وقال قَتَادَة: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} [المائدة:3] غير مُقتصدٍ، والمعروف أنَّ الجَنَف الميلُ، ومعنى الإثمِ هنا: أن يأكل منها فوق الشِّبَع، واختُلِف في الشِّبَع وسَدِّ الرَّمَق والتَّزَوُّد.
          قال مالكٌ: أحسنُ ما سمعتُ في المضطرِّ أنَّه يشبع ويتزوَّدُ فإذا وجد غنىً عنها طرحها، وهو قول ابن شِهَابٍ ورَبِيعَة، وقال أبو حنيفة والشَّافِعِيُّ في أحد قوليه: لا تأكل منها إلَّا مِقْدَار ما يُمسِكُ الرَّمَق والنَّفْس، والحُجَّة له أنَّ الإباحة إذا خاف الموت على نفسِه فإذا أكل منها ما يزيل الخوف فقد زالت الضَّرورة، وارتفعت الإباحة فلا يحِلُّ أكلُها، وحُجَّة مالكٍ أنَّ المضطرَّ قد أباح الله له المَيْتَة فقال: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثمَّ عَلَيْهِ} [البقرة:173] أي: إذا أكل منها ولم يُفَرِّق بين القليل والكثير فإذا حلَّت له المَيْتَة أكلَ منها ما شاء.
          وحكى الدَّاوُدِيُّ قولًا أنَّهُ يأكل منها ثلاث لُقَمٍ، وقِيل: إن تغدَّى لم يتعشَّ، وإن تعشَّى لم يتغدَّ.
          فإن احتجَّ الكوفيُّون والشَّافِعِيُّ بتفسير ابن عبَّاسٍ امتنع الشِّبَع والتَّزوُّد، قِيل: قد فسَّر مُجَاهِدٌ وغيره بما سلف، وأمَّا معنى قول ابن عبَّاسٍ: أنَّ الباغي والمتعدي لا يأكلُها وهو غنيٌّ عنها غير مُضطرٍّ إليها، فإذا اضطُرَّ إليها لم يكن متعَدِيًّا في شِبَعهِ؛ لأنَّه لا يَقْدِر على سَفَرِه وتصرُّفِهِ إلَّا بِشِبَع نفسِهِ، والتزوُّد أَوْلَى في حِفْظ النفس وحياطتِها؛ لأنَّه لا يأمنُ أن لا يجدَ ما يُمسك رَمَقَه مِن الطَّعام، ولا مَيْتَة ولعلَّه أن يَطُولَ سَفَرُه فَتَهْلِكَ نَفْسُهُ، والله قد حرَّم على الإنسان أن يتعرَّض لإهلاك نفسِه، وسيأتي اختلاف العلماء في شرب الخَمْر والبول عند الضَّرورة في كتاب الأشربة قريبًا.
          قال مَسْرُوقٌ: بَلَغَني أنَّه مَن اضطرَّ إلى المَيْتَة فلم يأكلها حتَّى مات دخل النَّار.
          فَائِدَةٌ: قولُه: (مهَراقًا) إن قرأته بفتح الهاء فهو مِن أراقَ يُرِيق وَزِيْدَت الهاء على ما تقدَّم ويكون تقديرُه مُهَفْعَلا، وإن قرأته بإسكانها فقد سلفَ أنَّ الجَوْهَرِيَّ قال: لا يُمكن النُّطق بتقديرِه، لأنَّ الهاء والفاء ساكنتانِ. يريد إنَّك إنَّما تُقَدَّر على الأصل قبل دخول الهاء، والأصل: هَرْيَقْ على وزن مَكْرَمْ فإذا دخلت الهاء ساكنةٌ على مَفْعَلْ فلا يصحُّ أن تُنْطَق به لاجتماع ساكنينِ.
          آخِرُ الصَّيد والذَّبَائِحِ وللهِ الحَمْدُ