التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صيد المعراض

          ░2▒ بابُ صَيْدِ المِعْرَاضِ
          وقال ابن عُمَرَ ☻ فِي المَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ تِلْكَ المَوْقُوذَةُ: وَكَرِهَهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالحَسَنُ، وَكَرِهَ الحَسَنُ رَمْيَ البُنْدُقَةِ فِي القُرى وَالأَمْصَارِ، وَلَا يَرى بِه بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ.
          5476- حَدَّثَنا سُلَيْمَان بن حَرْبٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عن عبد الله بن أبي السَّفَرِ، عن الشَّعْبِيِّ قال: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: (إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلاَ تَأْكُلْ)، فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي؟ قَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ الله فَكُلْ)، قُلْتُ: فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: (فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)، قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ؟ قَالَ: (لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى آخَرَ).
          الشَّرح: أثرُ ابن عُمَرَ ☻ أخرجه ابن أبي شَيْبةَ عن عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَانَ، عن عُبَيدِ الله، عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ أنَّه كان لا يأكلُ ما أصابتْهُ البُنْدُقةُ والحَجَر.
          والأثار بعده: قال ابن أبي شَيْبةَ: حَدَّثَنا حفْصٌ، عن الأعمَشِ، عن إبراهيمَ، وحَدَّثَنا حفْصٌ، عن ليثٍ، عن مُجَاهِدٍ، وحَدَّثَنا ابن المبارك، عن مَعْمَرٍ، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مُجَاهِدٍ، وحَدَّثَنا عبد الأعلى عن هِشَامٍ، عن الحَسَن، وحَدَّثَنا عبد الوهَّاب الثَّقَفِيُّ، عن عُبَيد الله بن عُمَر، عن القاسم وسالِمٍ به.
          ونُقل كراهتُه أيضًا عن الشَّعْبِيِّ وعِكْرِمَةَ مولى عبد الله.
          قال ابنُ المنذر: / وممَّن رُوِّينا عنه أنَّه كَرِه صيدَ البُنْدُقةِ ابن عُمَرَ والنَّخَعِيُّ ومالكٌ والثَّوريُّ والشَّافِعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثَوْرٍ، ورُوِّينا عن عُمَرَ بن الخطَّاب أنَّه قال: وليتَّقِ أحدكم أن يخذِفَ الأرنبَ بالعَصَا والحَجَر ثمَّ يأكُلْ. وروى ابن أبي شَيْبةَ، عن ابن عُيَينةَ، عن عُمَرَو بن سَعِيدٍ، عن عمَّارٍ: إذا رميتَ بالحَجَر أو البُنْدُقةِ فذكَرتَ اسمَ الله فَكُلْ وإن قَتَل. وحَدَّثَنا ابن المبارك، عن مَعْمَرٍ، عن قَتَادَة، عن سَعِيدِ بن المسيِّب قال: ما ردَّ عليكَ حَجَرُك فكُلْ. وفي روايةٍ: كلُّ وَحْشيةٍ أصبتها بعصا أو بحَجَرٍ أو بُنْدُقةٍ وذكرتَ اسم الله عليه فَكُلْ.
          ونقله أيضًا ابن حَزْمٍ عن سَلْمانَ الخير وابن عُمَرَ، ونقله ابن المنذر عن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. قال: وخبرُ رسول الله صلعم أَوْلَى إذا أصاب بحدِّهِ، وخَزَق يؤكَل ولا يؤكَلُ ما أصاب بِعَرْضهِ، وهو قول الأربعة والثَّوريِّ وإسحاقَ وأبي ثورٍ وقال الشَّعْبِيُّ وابن جُبَيْرٍ: يُؤكَل إذا خَزَق وبَلَغَ المَقَاتل.
          وفي «كتاب الصَّيد» للطَّحَاويِّ: عن مالكٍ: إذا خَزَق ولم يتعدَّ المَقَاتل يؤكَل، فإن رماه بِعُودٍ أو عَصَا فَخَزَق يُؤكَل. وكذا إن رماه برُمحهِ أو بمِطْرَدةٍ أو حَرْبتهِ، وكان الأَوْزَاعيُّ يحدِّثُ أنَّ المعرِاضَ خَزَق أو لم يَخزِق أنَّ أبا الدَّرداء وفَضَالَةَ ومَكْحُولًا لا يرون به بأسًا. وقال الحَسَن بن صالحٍ: إن خَزَق الحَجَرُ فَكُلْ.
          وقال ابن بطَّالٍ: اختلف العلماء في صَيدِ المِعْرِاضِ والبُنْدُقة، فقال مالكٌ والثَّوريُّ والكوفيُّون والشَّافِعيُّ: إذا أصاب المِعْرِاضُ بِعَرْضهِ وقَتَلهُ لم يؤكَل، وإن خَزَق جِلْده وبَلَغ المقَاتِلَ بِعَرْضِهِ أكل. وذهب مَكْحُولٌ والأوزاعيُّ وفُقَهاء الشام إلى جواز أكلِ ما قَتَل المِعْرَاض خَزَق أم لا.
          واحتجَّ مالكٌ بقولِه تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] فكلُّ شيءٍ ينالُهُ الإنسان بيدِه أو رُمحِه، أو بشيءٍ مِن سلاحِه فأنفذَهُ وبَلَغ مَقَاتلَه فهو صيدٌ _كما قال تعالى_ ولا حُجَّة لأهل الشام لخِلافهم حديث عَدِيِّ بن حاتمٍ: أنَّ ما أصابَ بِعَرْضِهِ فهو وَقِيذٌ، والحُجَّة في السُّنَّة لا فيما خالفَها.
          وأمَّا البُنْدُقة والحَجَرُ: فأكثر العلماء على كراهة صيدهما، وهو عندهم وَقِيذٌ، لقول ابن عبَّاسٍ: إلَّا أن تُدرَك ذَكَاته. وبه قال النَّخَعِيُّ، وذهَبَ إليه الأربعة والثَّوريُّ وإسحاقُ وأبو ثَوْرٍ، ورخَّص في صيد البُنْدُقة عمَّارُ بن ياسرٍ.
          وهو قول سعيدِ بن المسيِّب وابن أبي ليلى، وبه قال الشَّامِيُّون، والأصل في حديث عَدِيِّ بن حاتمٍ أنَّه ◙ أباح له أكلَ ما أصاب بحدِّهِ ومنعَهُ أكْلَ ما أصابَ بِعَرْضِهِ لأنَّه وقيذٌ، ولا حُجَّة لمن خالف السُّنَّة، وإنَّما كره الحَسَنُ البُنْدُقة للقُرى والأمصار لإمكان وجودهم للسَّكَاكين وما تقعُ به الذَّكَاة، وأجازها في «البراري» وفي مواضعَ يتعذَّرُ وجودُ ذلك فيه.
          واختلفوا فيما قتلتَهُ الجوارحُ ولم تُدمهِ، فقال الشَّافِعيُّ: لا يُؤكَل حتَّى يَخْزِق؛ لقولِه تعالى {مِنَ الجَوَارِحِ}، وقال مرَّةً: يؤكل، واختلف ابن القاسم وأشهبُ فيها على هذين القولين: فقال ابن القاسم: لا يؤكَل حتَّى يُدْمِيَه ويَجْرَحه. وقال أشهبُ: إن ماتَ مِن صَدْمة الكلْبِ أُكل.
          فَائِدةٌ: المِعْرَاض: سلف بيانُه في الباب قبلَهُ، والوَقِيذُ: بالذال المعجمة.
          فَصْلٌ: قد سلف حكم التَّسمية عَمْدًا ونسيانًا، واختلف فيها باللِّسان وبالقلب، وقِيل: النَّهي عن الأكل إذا لم يُسمِّ نهيُ تنزيهٍ واستحبابٍ، والأمرُ بالأكل على الإباحة، جمعًا بين الحديثين.
          فَصْلٌ: قولُه: (فإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ) قد سلف اختلاف العلماء في ذلك. والحاصلُ قولان فيما إذا قتل الكلْبُ المعلَّمُ الصَّيدَ وأكلَ منه: الحِلُّ وهو قول مالكٍ، وعدمُه وهو قول الشَّافِعيِّ وأحمدَ وأبي يُوسُف ومُحَمَّدٍ، وقال أبو حنيفة: لا يؤكَل ممَّا أكل منه ولا ممَّا صادَهُ قبل ذلك ممَّا لم يأكل منه، فأمَّا جارحةُ الطَّير إذا أكلت فهو كالكلْبِ وغيره. وقِيل: فيه قولان أو وجهان، فإن حَسَا الجارحُ دمَ الصَّيد ولم يأكل منه شيئًا لم يحرم أكلُهُ قولًا واحدًا، وعن النَّخَعِيِّ والثَّوريِّ كراهةُ أكلهِ.
          فَصْلٌ: المعلَّم هو الذي إذا أرسلَهُ على الصَّيد طلَبَه، وإذا زَجَره انزجَرَ، وإذا أَشْلَاهُ استشلى، وإذا أخَذَ الصيد أَمْسَكَه عليه وخلَّى بينه وبينه، فإذا تكرَّرَ ذلك منه مرَّةً بعد مرَّةٍ صار معلَّمًا، ولم يقدِّر عدد المرَّات وإنَّما اعتُبر العُرف. وقال أبو حنيفة وأحمدُ: إذا تكرَّر ذلك مرَّتين صار مُعلَّمُا. وقال الحَسَن: مرَّةٌ واحدةٌ، وقال أيضًا هو وأحمد: لا يجوز الاصطياد بالكلب الأسودِ البَهِيم. وعن مُجَاهِدٍ وابن عُمَرَ: لا يجوز الاصطياد إلَّا بالكلب المعلَّم، فإن عَقَر الصَّيد ولم يَقْتُله فأدركَهُ وفيه حياةٌ مستقرِّةٌ غير أنَّه ماتَ قبلَ أن يتَّسع الزمان لِذَكَاتهِ حَلَّ، وقال أبو حنيفة: لا يحِلُّ.
          فَرْعٌ: فإن قتَلَ الصيد بثقلِهِ من غير جُرْحٍ فقولان: أصحُّهما، الحِلُّ. ورواه الحَسَن بن زِيَادٍ عن أبي حنيفة والثاني هو رواية أبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ عنه.
          فَرْعٌ: أرسل مُسلمٌ كلبَ مَجُوسيٍّ، فَقَتَل حَلَّ وعكسُهُ لا، وبه قال أحمدُ والمُزَنيُّ، وقِيل: الاعتبار بمالك الكلْبِ دون المرسِل.
          فَرْعٌ: في وجوب الغَسل مِن موضع ظُفُره ونابهِ وشُربه خِلافٌ عندنا، والأصحُّ: نعم.
          فَرْعٌ: أرسل سهمًا في الهواء وهو لا يرى صيدًا فأصابَهُ فهل يَحِلُّ؟ وجهان، وإن رأى صيدًا فظنَّهُ حجرًا فرَمَاه فقَتَلَه؟ حلَّ، وإن أرسل كلبًا عليه؟ فوجهانِ.
          فَرْعٌ: تَصِحُّ ذَكَاة الصَّبيِّ والمجنون.
          خَاتِمةٌ: قال ابن حَزْمٍ: ما شَرَد فلم يقْدر عليه مِن حيوان البرِّ؛ وحشيِّهِ أو أُنسيِّه، لا يَتَحَاشى طائرًا ولا ذا أربعٍ يحِلُّ أكله، فإنَّ ذَكَاته أن يرمي بما يعمل عَمَل الرُّمح أو السَّهم، أو عَمَل السَّيفِ أو السِّكِّين، فإن أُصِيب بذلك فماتَ قبل أن تُدرك ذَكَاتُه فأكله حلالٌ، فإن أُدرِك حيًّا إلَّا أنَّه في سبيل الموت السَّريع فإنْ ذُبِح أو نُحِر فَحَسَنٌ وإلَّا فلا بأس، وإن كان لا يموت سريعًا لم يحِلَّ أكلُه إلَّا بذبحٍ أو نحْرٍ، أو بأن يُرسل عليه سبعٌ مِن سِباع الطير أو ذات الأربع، لا ذَكَاةَ له إلَّا بأحد هذين الوجهين، وقد اختلف النَّاس في هذا.