التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما ذبح على النصب والأصنام

          ░16▒ بابُ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ والأَزْلَامِ
          5499- ذكر فيه حديث سالمٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ يُحدِّثُ عن رَسُولِ اللهِ صلعم أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بن عَمْرو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ.. الحديث.
          وقد تقدَّم في الفَضَائلِ في باب حديث زَيدِ بن عَمْرِو بن نُفَيلٍ أطولَ منه [خ¦3826]. و(بَلْدَحٍ) وادٍ قرب مكَّة مِن جهة الغرب كما قاله عِيَاضٌ، وقال هنا: (سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثمَّ قَالَ: إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلَا آكُلُ إِلَّا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وظاهرُه دالٌّ أنَّ زيدًا قال لرسول الله صلعم: إنِّي لا آكُلُ ممَّا تذبحون.. إلى آخرِه، يُوهِم أنَّه ◙ كان يأكلُ ذلك، وحاشاه منهُ فإنَّه أَوْلَى باجتناب ذلك منه، وقد سلف هناك مُبيَّنًا.
          فالسُّفرة إنَّما قدَّمتها قُرَيْشٌ لرسول الله صلعم فأبى أن يأكُلَ منها، فقدَّمها ◙ إلى زيدٍ فأبى أن يأكل منها، ثمَّ قال لقُرَيْشٍ الذين قدَّموها لرسول الله صلعم: إنِّي لا آكلُ ممَّا تذبحون على أَنْصَابِكم. ولم يكُ زيدٌ في الجاهليَّة بأفضلَ مِن رسول الله صلعم، فحين امتنعَ زيدٌ فهو ◙ الذي كان حَبَاه الله لوحيه واختاره أن يكون خاتَمَ النَّبِيِّين أَوْلَى مِن الامتناع منها في الجاهليَّة أيضًا.
          فَصْلٌ: (النُّصُبِ) بضمِّ الصَّاد وقرأه طَلْحَةُ بإسكانها، قال مُجَاهِدٌ: هي حجارة كانت حول مكَّةَ يَذْبَحُون عليها وَرُبَّما استبدلوا منها. والنُّصُب قِيل: هو واحد كعنُق، وقِيل: هو جمع نِصابٍ كحُمُر وحِمَار، وأنصابُ الحَرَمِ: أعلامُهُ، جمع نُصْبٍ، وقد يُجْمَع أيضًا: نُصُبًا، كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] وكانت هذه النُّصُب ثلاثمَّئة وسِتِّين حَجَرًا مجموعةً عند الكعبة، كانوا يذبحون عندها لآلهتهم، ولم تكن أصنامًا وذلك أنَّ الأصنام كانت تماثيلَ وصُورًا مُصوَّرةً، وأمَّا النُّصُب فكانت حجارةً مجموعةً. وقال ابن زَيْدٍ: ما ذُبِح على النُّصُب وما أُهلَّ لغير الله به واحدٌ. ومعنى أُهِلَّ لغير الله به: ذُكِر عليه غير اسم الله مِن أسماء الأوثان الذي كانوا يعبدونها، وكذا المسيح وكلُّ اسمٍ سِوى الله، فالمعنى ما ذُبِح للآلهة وللأوثان فَسُمِّي عليه غير اسم الله.
          واختلف الفقهاء في ذلك، فكره عُمَرُ وابنُه وعليٌّ وعَائِشَةُ ما أُهِلَّ به لغير الله، وعن النَّخَعيِّ والحسَنِ مثله، وهو قول الثَّوريِّ. وكره مالكٌ ذَبَائح النَّصارى لكنائسِهم وأعيادِهم وقال: لا يُؤكَل ما سُمِّي عليه المسيحُ. وقال إسماعيلُ بن إسحاقَ: كرهه مالكٌ مِن غير تحريم. وقال أبو حنيفة: لا يُؤكَل ما سُمِّي المسيحُ عليه. وقال الشَّافِعِيُّ: لا يحِلُّ ما ذُبِح لغير اللهِ ولا ما ذُبِح للأصنام.
          ورخَّص في ذلك آخرون، روي عن عُبَادة بن الصَّامتِ وأبي الدَّرداءِ وأبي أُمَامةَ. وقال عَطَاءٌ والشَّعْبِيُّ: قد أحلَّ الله ما أُهِلَّ به لغير الله؛ لأنَّه قد عَلِم أنَّهم سيقولون هذا القول، وأحلَّ ذبائحَهم. وذهب اللَّيْث وفقهاء أهل الشام، مَكْحُولٌ وسعيدُ بن عبد العزيز والأوْزَاعِيُّ قالوا: سواءٌ سمَّى المسيحَ على ذبيحتِهِ أو ذَبَح لعبدٍ أو كنيسةٍ، كلُّ ذلك حلالٌ؛ لأنَّه كِتَابيٌّ ذبَحَ لدينِهِ وكانت هذه ذبائحُهم قبل نزول القرآن، وأحلَّها الله تعالى في كتابِهِ.
          قال ابن بطَّالٍ: وإذا ثبتَ ما ذبحوه لكنائسِهم وأعيادِهم قبل نزول القرآن وأحلَّها الله تعالى وما أَهَلُّوا به لغير الله مِن طعامهم المباح لنا، فلا حُجَّة لمن حرَّمَه ومَنَعَه، وهدى الله زيدًا للامتناع ممَّا سلف قبل أن ينزلَ على رسولِه التَّحريم. وفي كتاب ابن التِّين: ما ذُبِح على النُّصُب محرَّمٌ أكلُهُ، ونصَّ عليه في كتاب مُحَمَّدٍ، وما ذُبِح للكنائس ولعيسى وللصَّليب وما قضى مِن أحبارِهم يُضاهي به ما أُهِلَّ لغير الله، ولم يَبلُغ به مالكٌ التَّحريم لأنَّ الله تعالى أحلَّ لنا طعامَهم وهو يعلم ما يفعلون، فليتأمَّل الفرْقُ بين الصَّليب والنُّصُب.
          فائدةٌ: زيدٌ هذا هو أبو سَعِيدٍ والدُ أحد العَشَرة كان مِن بني عَدِيٍّ، طلب الدِّين وقد سأل عن اليَهُوديَّة، فقال: أن تأخذ بحظِّكَ مِن لعنةِ الله، فقال: لا أحملُ منها شيئًا؛ فقِيل له: عليكَ بدينِ إبراهيمَ كان حنيفًا مسلمًا فقال: اللَّهُمَّ إنِّي وجَّهتُ وجهي إليكَ وإنِّي على مِلَّة إبراهيمَ.