التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أكل كل ذى ناب من السباع

          ░29▒ بابُ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ
          5530- ذكر فيه حديث مالكٍ: عن الزُّهْرِيِّ، عن أبي إدريسَ، عن أبي ثَعْلَبةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. تابعه يُونُسُ ومَعْمَرٌ وابن عُيَيْنَةَ والماجِشُون، عن الزُّهْرِيِّ.
          هذا الحديث أخرجَهُ مُسْلِمٌ أيضًا، وانفرد بإخراجه مُسْلمٌ أيضًا مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ بلفظ: ((كلُّ ذي نابٍ مِن السِّبَاع فأكلُهُ حرامٌ)). ومِن حديثِ ابن عبَّاسٍ: نهى عن كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع، وعن كلِّ ذي مِخْلَبٍ مِن الطَّير.
          واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فذهب الكوفيُّون والشَّافِعِيُّ إلى أنَّ النَّهي فيه على التَّحريم، ولا يؤكل ذو النَّاب مِن السِّبَاع، ولا ذو المِخْلَب مِن الطَّير، ولا تَعمل الذَّكاة عند الشَّافِعِيِّ في جُلُود السِّباع شيئًا، ولا يجوز الانتفاع بها إلَّا أن تُدْبَغ.
          وذكر ابن القَصَّار أنَّ الذَّكاةَ عاملةٌ في جُلُودِها عند مالكٍ وأبي حنيفَةَ، فإن ذُكِّي سَبُعٌ فَجِلْدُه يجوز أن يتوضَّأ منه ويجوز بيعُهُ وإن لم يُدْبَغ، والكلبُ منها إلَّا الخنزيرَ خاصَّةً.
          والشَّافِعِيُّ يُحلِّل مِن السِّباع الضَّبُع والثعلبَ خاصَّةً لأنَّ نابَهما ضعيفٌ. وقال ابن القَصَّار إنَّ محمَلَ النَّهي في هذا الحديث على الكراهة عند مالكٍ. قال: والدليل على أنَّ السِّباعَ ليست بمحرَّمةٍ كالخِنْزِير اختلاف الصَّحابة فيها. وقد كان ابن عبَّاسٍ وعَائِشَةُ إذا سُئلا عن أكلِها احتجَّا بقولِه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية[الأنعام:145].
          ولا يجوز أن يذهبَ التَّحريم على مِثْل ابن عبَّاسٍ وعَائِشَة مع مكانهما مِن رسول الله صلعم ويستدركُه غيرُهما، ولا يجوز نَسْخ القرآن بالسُّنَّة إلَّا بتاريخٍ مُتَّفَقٍ عليه، فوجب مع هذا الخِلاف أَلَا يُحرِّمها كالمَيْتَةِ ويكرهها؛ لأنَّه لو ثبتَ تحريمُها لوجبَ نقلُهُ مِن حيث يقطع العُذْر.
          وقد رُوي عن رسول الله صلعم أنَّه أجازَ أكل الضَّبُعِ _قلتُ: أخرجه الحاكم مِن حديثِ جابرٍ وقال: صحيح الإسناد_ وهو ذو نابٍ، فدلَّ بهذا أنَّه ◙ أراد بتحريم كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع الكراهية، وقال الكوفيُّون والشَّافِعِيُّ: ليس في الآية لمَن خالفنا؛ لأنَّ سُورةَ الأنعام مَكِّيَّةٌ وقد نزل بعدَها، وأنَّ فيه أشياءَ محرَّماتٍ، ونزلت سورة المائدة بالمدينة وهو مِن آخر ما نزل وفيها تحريم الخمر والمُنْخَنِقَة إلى آخره.
          وحرَّم رسول الله صلعم مِن البُيُوع أشياءَ كثيرةً، ونهيُه عن ذلك كان بالمدينة لأنَّه رواه عنه متأخِّرُو أصحابِه، أبو هُرَيْرَةَ وأبو ثعلبة وابن عبَّاسٍ، وقد حرَّم نِكَاح المرأة على عَمِّتِها وخالتِها، ولم يقل أحدٌ مِن العلماء أنَّ قولَه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] معَارض ذلك بل جعلوا نهيَه عن ذلك زِيَادةً على ما في الكتاب.
          ثمَّ اختلفوا في النَّهي عن أكل ذي نابٍ مِن السِّباع جميعِها أو بعضِها: فقال الشَّافِعِيُّ: إنَّما أراد به ما كان يَعْدُو على النَّاس ويفترسُ مثل الأسدِ والذِّئب والنَّمر والكَلْب العادي وشَبهه ممَّا في طبعِهِ في الأغلب أن يَعْدُو وما لم يكن يَعْدُو، فلم يدخل في النَّهي فلا بأس بأكلِه. واحتجَّ بحديث الضَّبْع في إباحة أكلِها وأنَّها سبعٌ، ولابن حَبِيبٍ شيءٌ نحو هذا، قال في جُلُود السِّباع العادية: إن ذُكِّيت فلا تُبَاع ولا يُصلَّى عليها ولا تُلْبَس، ويُنْتَفع بها في غير ذلك، وأمَّا السَّبُع الذي لا يَعْدُو فإذا ذُكِّي جازَ بيعُه ولباسهُ والصَّلاة عليه.
          وعند الكوفيِّين النَّهي في ذلك على العُمُوم، فلا يحِلُّ عندهم أكلُ شيءٍ مِن سِباع الوَحْشِ كلِّها ولا الهرِّ الوحشيِّ ولا الأهلِيِّ _لأنَّهُ سَبُعٌ_ ولا الضَّبُع ولا الثَّعْلَب؛ لعُمُوم نهيِه عن أكل ذي نابٍ / مِن السِّباع. قالوا: فما وقع عليه اسم سَبُعٍ فهو داخل تحت النَّهي. قالوا: وليس حديث الضَّبُع يُعَارض به حديث النَّهي؛ لأنَّه انفرد به عبد الرَّحْمَن بن أبي عمَّارٍ، عن جَابِرٍ، وليس بمشهورٍ بنقل العِلْم ولا هو حُجَّةٌ إذا انفرد، فكيف إذا خالفَهُ مَن هو أثبتُ منه، وقد قال سعيدُ بن المسيِّب: إنَّ الضَّبُع لا يصلُحُ أكلُها، وهو قول اللَّيْث. وقال ابن شِهَابٍ: الثَّعلبُ سَبُعٌ لا يأكل.
          ومالكٌ يكره أكل كلِّ ما يَعْدُو مِن السِّباع، وما لا يَعْدُو مِن غير تحريمٍ، وممَّن أجاز مِن السَّلَف أكل الضَّبُع والثعلب، رُوي عن عُمَر أنَّه كان لا يرى بأسًا بأكل الضَّبُع ويجعلها صيدًا، وعن عليٍّ وسعدِ بن أبي وَقَّاصٍ وجابرٍ وأبي هُرَيْرَةَ مثله. وقال عِكْرِمَةُ: لقد رأيتُها على مائدة ابن عبَّاسٍ. وبه قال عَطَاءٌ ومالكٌ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ وإسحاقُ.
          وأجاز الثعلبَ طَاوُسٌ وقَتَادَةُ، واحتجَّا بأنَّه يُؤذِي، وقالا: كلُّ شيءٍ يُؤذِي فهو صيدٌ.
          وأمَّا الضَّبُّ فقد ثبتَ عن الشَّارع جواز أكلِهِ كما سيأتي.
          وقال أبو يُوسُف: لا بأس بأكل الوَبْرِ، وهو عندي مثل الأَرْنبِ لأنَّه يَعْتَلِف البُقُول والنَّبات، وأجاز أكلَه طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ، وأجاز عُرْوَةُ وَعَطَاءٌ اليَرْبوعَ، وكَرِه الحسَنُ أكل الفيلِ لأنَّه ذو نابٍ، وأجاز أكلَهُ أشهبُ.
          واختلفوا في سِبَاع الطيرِ، فروى ابن وَهْبٍ عن مالكٍ أنَّه قال: ولم أسمع أحدًا مِن أهل العِلْم قديمًا ولا حديثًا بأرضنا يَنهى عن أكل كلِّ ذي مِخْلَبٍ مِن الطَّير.
          وقال أبو حنيفةَ والشَّافِعِيُّ: لا يؤكل. ورُوي في ذلك حديث شُعْبَةَ، عن الحكم، عن مَيْمُونِ بن مِهْرَان، عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ صلعم: ((أنهَّ نهى عن أكل كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع ومِخْلَبٍ مِن الطَّير)).
          ودفع أصحاب مالكٍ هذا الحديث وقالوا: لا يثبُت. وقد أوقفه جماعةٌ على ابن عبَّاسٍ، ولم يسمعه منه ميمونٌ وإنَّما رواه عن سَعِيد بن جُبَيْرٍ عنه. وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ خِلافُهُ، وما يدلُّ على أنَّهُ ليس عن النَّبِيِّ صلعم وإنَّما هو قولٌ لابن عبَّاسٍ ثمَّ رجع عنه.
          وقد روى عَمْرو بن دِيْنَارٍ، عن أبي الشَّعْثاءِ، عن ابن عبَّاسٍ قال: كان أهل الجاهليَّةِ يأكلون أشياء ويتركون أشياءَ تقذُّرًا، فبعثَ الله تعالى نبيَّهُ وأنزل كتابَه وأحلَّ حَلَالَهُ وحرَّم حرامَهُ وما سكتَ عنه فهو عَفْوٌ، وتلا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية[الأنعام 145] فإن صحَّ حديث النَّهي فيجوز أن يكون نهى عنه لأنَّ النَّفْس تعافُها؛ لأكلها الأنجاس في الأغلب.
          قلت: الحديث أخرجَهُ مُسْلِمٌ كما أسلفناه، وهو مِن روايةِ ميمونِ بن مِهْرانَ عنه، وإن كان أبو داودَ ذكر في «سُننه» والبزَّار في «مسنده» أنَّه لم يسمع من ابن عبَّاسٍ، فقد قال الخطيبُ: الصَّحيح: ميمونُ عن ابن عبَّاسٍ ليس بينهما أحدٌ.
          فَرْعٌ: قال ابن حَبِيبٍ المالكيُّ: لم يختلِفْ المدنيُّون في تحريم السِّباعِ العَادِيَةِ؛ الأسدِ والنَّمِر والذِّئب والكلب، فأمَّا غير العادِيَة كالدُّبِّ والثَّعلب والضَّبُع والهِرِّ الوحْشيِّ والإنسيِّ فمكروهُةٌ، قاله مالكٌ وابن الماجِشُون، وجُعل في كتاب مُحَمَّدٍ مكروهًا بخِلاف السَّبُع، وعند ابن الجلَّابِ أنَّ الضَّبْع كالأسدِ سواءٌ، وانفصلَ عن الآية بوجوهٍ:
          منها: أنَّها إخبارٌ عن الماضي ولا يقضي ذلك على المستقبل، وهذا سلف.
          ومنها: أنَّه وجدَ تحريم ذبائح المجوسِ والحُمُر، وذلك غير مُسمَّى في الآية.
          وممَّا احتجَّ به مَن حرَّم بحديث «الموطَّأ» عن إسماعيلَ بن أبي حَكِيمٍ، عن عَبِيْدَةَ بن سُفْيَانَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ أنَّه ◙ قال: ((أكلُ كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع حرامٌ)) وأجاب عنه ابن الجَهْم وغيرُه بأنَّ عَبِيْدَةَ هذا غير معلومِ الحِفْظِ وقد رواه الزُّهْرِيُّ فلم يذكر هذه اللَّفظة. وقال غيرُه: بل هو مفسَّرٌ بحديث أبي ثَعْلَبةَ لأنَّه مُقَيِّدٌ، وحديث أبي ثَعْلَبةَ يحتمل الكراهة والتَّحريم، والمقيَّد يقضي على المجمِلِ.
          قال ابن حَبِيبٍ: لا يحِلُّ أكلُ القِرْد. وقِيل: مكروهٌ. وقال ابن شَعْبانَ: أجازَ بعض أصحابنا ثمنَهُ وأكلَ لحمِهِ إذا كان يَرْعَى الكَلَأ. وسُئِل عنه مُجَاهِدٌ فقال: ليس مِن بهيمة الأنعام. وكره مالكٌ أكلَ الثَّعلب وأجازه ابن الجلَّاب، وقال القاضي في «مبسوطه» أحسِبُ أنَّ مالكًا حمل النَّهي عن أكل كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع على النَّهي عن أكلِها خاصَّةً، عملًا بحديث عَبِيْدَةَ السَّالف، فذهبَ مالكٌ إلى أنَّ النَّهي مختصٌّ بالأكل وأنَّ التَّذكية تطهيرٌ لغير الأكْلِ فقال: لا بأسَ بجُلُود السِّباعِ المذكَّاةِ يُصَلَّى عليها.