التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب

          ░34▒ بابٌ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوِ الذَّائِبِ
          5538- ذكر فيه حديث مَيْمُونَةَ ♦ وقد سلف في الطَّهَارة [خ¦235]، وهنا أطول منه فإنَّه ساقه عن الحُمَيْديِّ، حَدَّثَنا سُفْيَان، حَدَّثَنا الزُّهْرِيُّ: أخبرني عُبَيْد الله بن عبد الله بن عُتْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابن عبَّاسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ رسولُ الله صلعم عَنْهَا، فَقَالَ: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ). قِيلَ لِسُفْيَان: إِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيّ يَقُولُ إِلَّا عَنْ عُبَيْد الله / عَنِ ابن عبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنِ رسول الله صلعم، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا.
          5539- حَدَّثَنا عَبْدَانُ، أخبرنا عبدُ اللهِ، عن يُونُس، عن الزُّهْرِيِّ عَنِ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ أو السَّمْنِ وَهْوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ، ثمَّ أُكِلَ، عَنْ حَدِيثِ عُبَيْد الله بْنِ عَبْدِ اللهِ.
          5540- ثُمَّ ساق مِن حديثِ مالكٍ: عن ابن شِهَابٍ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاسٍ، عن مَيْمُونَةَ قالت: سُئِلَ النَّبِيُّ صلعم عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ).
          الشَّرح: توقَّف البُخَارِيُّ في إسناد مَعْمَرٍ عن الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ؛ لأنَّه انفرد به مَعْمرٌ عن الزُّهْرِيِّ. وأمَّا حديث الزُّهْرِيِّ عن عُبَيْد الله، عن ابن عبَّاسٍ فرواه جماعة أصحاب ابن شِهَابٍ عنه بهذا الإسناد، وقد صحَّح الذُّهْلِيُّ الإسنادين جميعًا عن ابن عبَّاسٍ، وإنَّما لم يدخل البُخَارِيُّ في الحديث ((وإن كان مائعًا فلا تَقْرَبُوه))، لأنَّه مِن روايةِ مَعْمَرٍ عن الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ واسترابَ انفراد مَعْمَرٍ. قلت: وأمَّا ابن حِبَّان فصحَّحه.
          وفي قوله ◙: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا) دِلالةٌ على أنَّ السَّمْن كان جامدًا، لأنَّه لا يمكن طرح ما حولها في المائع الذَّائب؛ لأنَّه عند الحركة يمتزجُ بعضه ببعضٍ.
          وقام الإجماع على أنَّ هذا حُكم السَّمْن الجامد تقع فيه المَيْتَة فتُلقى وما حولها ويُؤكل سائرُه؛ لأنَّه ◙ حَكَمَ للسَّمْن الملاصق للفأرة بحكم الفأرة، لتحريم الله تعالى الْمَيْتَة، فأمر بإلقاء ما مسَّها منه، وأمَّا السَّمْن المائع والزَّيت والخلُّ والمُرِي والعَسَل وسائر المائعات تقعُ فيه المَيْتة ولا خِلاف أيضًا بين أئمَّة الفتوى أنَّه لا يؤكل منها شيءٌ.
          واختلفوا في بيعِه والانتفاع به، فقالت طائفةٌ: لا يُبَاع ولا يُنْتَفع بشيءٍ منه كما لا يؤكل، هذا قول الحسن بن صالحٍ وأحمدَ، واحتجوا بحديث أبي هُرَيْرَةَ السَّالف وبقولِه: ((لعن الله اليَهُود حُرِّمت عليهم الشُّحُوم فباعوها وأكلوا ثمنها)).
          وقال آخرون: يجوز الاستصباح به والانتفاع به في الصَّابون وغيرِه، ولا يجوز بيعُه وأكلُه، هذا قول مالكٍ والثَّوريِّ والشَّافِعِيِّ، واحتجُّوا برواية عبد الواحد بن زِيَادٍ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((وإن كان مَائِعًا فاسْتَصْبَحوا به)) قالوا: وقد رُوي عن عليٍّ وابن عُمَرَ وعِمْرَان بن حُصَينٍ: أنَّهم أجازوا الاستصباح به، وأمرَ ابن عُمَرَ أن يُدْهَن به الأدمُ، وذكر الطَّبَرِيُّ عن ابن عبَّاسٍ مثله، وذكر ابن المنذر عن ابن مسعودٍ وأبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ وَعَطَاءٍ مثله.
          واحتجُّوا في منع بيعِه بقوله ◙ في الخمر: ((إنَّ الذي حرَّم شربَها حرَّم بيعها)) وبحديث النَّهي عن بيع الشُّحُوم، وأيضًا فإنَّه قد ينتفع بما لا يجوز بيعه، أَلَا ترى أنَّا ننتفع بأمِّ الولد ولا يجوز بيعُها، وننتفع بكلب الصَّيد ونُمنع مِن بيعه، ويُطْفَأ الحريق بالماء النَّجِس والخمر ولا يجوز بيعه، وهذا كلُّهُ انتفاعٌ.
          وقال آخرون: يَنتفع بالزَّيت الذي تقعُ فيه الْمَيْتَة بالبيع وكلِّ شيءٍ ما عدا الأكلَ، قالوا: ويجوز أن يبيعَه ويبيِّن، لأنَّ كلَّ ما جاز الانتفاع به جاز بيعُه، والبيع مِن الانتفاع، وهو قول أبي حنيفة وأصحابِهِ واللَّيْثِ.
          ورُوي عن أبي مُوسَى أنَّهُ قال: بيعوه وبيِّنُوا لمن تَبِيعُونه عيبَهُ ولا تَبِيعُوه مِن مُسلمٍ، وروى ابن وَهْبٍ عن القاسم وسالِمٍ أنَّهما أجازا بيعه وأكل ثمنَه بعد البيان.
          قال الكوفيُّون: ويحتمل ما روى مَعْمَرٌ مِن قولِه ◙: ((وإن كان مائعًا فلا تَقْرَبُوه)) أي: للأكل، وليس في تحريم الشُّحُوم على اليَهُود وتحريم ثمَّنِها حُجَّةٌ لمن منع بيع الزَّيت تقع فيه الْمَيْتَة؛ لأنَّ الحديث خرج على تحريم شُحُوم الْمَيْتَة وهي نجسةُ الذَّاتِ فلا يجوز بيعُها ولا أكلُها ولا الانتفاع بها، والزَّيت والسَّمْن الذي تقع فيه الْمَيْتَة إنَّما يَنْجُس بالجوار، ولا يَنْجُس بالذَّات كالثَّوب الذي يُصِيبه الدَّم، ولذلك رأى بعض العلماء غسلَهُ ويجوز عندهم الاستصباح به، ولا يجوز بِشُحُوم الْمَيْتَة.
          وقال أهل الظَّاهر فيما نقلَه ابن القَصَّار: لا يجوز بيع السَّمْن ولا الانتفاع به إذا سقطت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزَّيت والخلِّ والمُرِي وجميع المائعات تقع فيها الفأرة؛ لأنَّ النَّهي إنَّما ورد في السَّمن فقط وهذا إبطالٌ للمعقول؛ لأنَّه ◙ لَمَّا نصَّ على السَّمْن وهو ممَّا يؤكل ويُشرب وهو مِن المائعات الطَّاهرات كان فيه تنبيهٌ على كلِّ ما هو طاهرٌ مثله؛ لأنَّه يثْقُل عليه أن يقولَ: السَّمْنُ والزَّيت والشَّيْرَج والخَلُّ والمُرِي والدُّهْن والمَرَق والعَصَير وكلُّ مائع لأنَّه أُوتي جَوَامع الكَلِم، وهذا كما قال تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] فنبَّه بذلك على أنَّ كلَّ ما كان في معناه مِن الانتهار والسبِّ فما فوقَه مثله في التحريم، وكذلك كلُّ مائعٍ وقعت فيه نجاسةٌ هو مثل السَّمْن.
          وممَّا يَبْطُل به مذهبُهم أن يُقَال لهم: ما تقولون في السَّمْن تموت فيه وَزَغةٌ أو حيَّةٌ أو سائر الحيوان؟ فإن طردوا أصلَهم وقالوا: لا يَنْجُس السَّمْن بموت شيءٍ مِن الحيوان فيه غير الفأرة التي ورد النَّصُّ فيها خرجوا مِن قول الأُمَّة ومِن المعقول، وإن سَوَّوا بين جميع ما يموت في السَّمْن مِن سائر الحيوان لزمهم ترك مذهبهم.
          وذكر ابن التِّين في «شرحه» سؤالًا وجوابًا فقال: هلَّا طرح ما قابلَ فم الفأرة خاصَّةً، لأنَّ نفسَها خاصَّةً نَجِسٌ وهي دُهنيَّةٌ تُوجَد عند فِيها.
          قِيل: إذا خَرَجت النَّفْس غَرِقَت الفأرة فيتنجَّسُ ما حولها، ومعنى ذلك إذا لم يخصَّ بهنَّ للجامد يذوب فيها، قاله سُحْنُون.