التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذبيحة الأعراب ونحوهم

          ░21▒ بابُ ذَبِيحَةِ الأَعْرَابِ وَنَحْرهِمْ
          5507- ذكر فيه حديث أُسَامةَ بنِ حَفْصٍ المَدَنيِّ، عن هِشَامٍ، عن أبيهِ، عن عَائِشَةَ ♦ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَقَالَ: (سَمُّوا الله عَلَيْهِ وَكُلُوهُ). قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. تَابَعَهُ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ. وَتَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ وَالطُّفَاوِيُّ.
          هذا الحديث مِن أفراد البُخَارِيِّ، وقد ذكره في التَّوحيد أيضًا [خ¦7398].
          وقولُه: (تَابَعَهُ عَلِيٌّ) يعني: تابع أُسامةَ بن حَفْصٍ، عن هِشَامٍ. عبد العزيز بن مُحَمَّد الدَّرَاوَرْدِيِّ، وأبو خالدٍ سُلَيْمَان بن حَيٍّانَ الأحمر، ومُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطُّفَاوِيُّ البَصْرِيُّ، فرووه عن هِشَامٍ. وطُفاوة بنت جَرْم بن رَبَّان بن تَغْلِبَ بن حُلوانَ بن عِمْرَان بن الحاف بن قُضَاعةَ، كانت عند حِبَال بن منبِّهٍ، ومنبِّهٌ هو أَعْصرُ بن سَعْد بن قَيْس عَيْلانَ، وأخوه عقبى واسمُه عَمْرُو بن أعْصُرَ، وعمُّهُما: غَطَفانُ بن سَعْدٍ، فَنسَبَ ولدَ حِبَالٍ إلى أبيهم.
          والراوي عن أُسَامةَ: شيخ البُخَارِيٍّ مُحَمَّدُ بن عُبَيْد الله بن مُحَمَّد بن زَيْدِ بن أبي زيدٍ المدنيُّ. وروى النَّسائيُّ عن رَجُلٍ عنه، صَحِب ابن القاسم وأتى بعِلْمهِ العراقَ، فأخذ عنه إسماعيلُ بن إسحاقَ بن إسماعيلَ بن حمَّادِ بن زَيْدٍ قاضي بغدادَ.
          وهاتان المتابعتان ذكرهما البُخَارِيُّ في التَّوحيد [خ¦7398] بزِيَادةٍ، فقال: عَقِب حديث أخرجه عن يُوسُف بن مُوسَى، تابعه مُحَمَّدُ بن عبد الرَّحْمَن والدَّرَاوَرْدِيُّ وأسامةُ بن حَفْصٍ، يريد هذا الحديث المسند هنا.
          والتَّعليق عن الدَّرَاوَرْدِيِّ أخرجه الإسماعيليُّ عن ابن كاسِبٍ عنه، وأبو داودَ عن يُوسُف بن مُوسَى عنه، وطريق الطُّفَاويِّ ساقها في البُيُوع [خ¦2057] عن أحمدَ بن المقْدَامِ العِجْليِّ عنه. وسمَّاه هنا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن.
          وقولُه: (تَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ)، يريد ما ذكره في التَّوحيد [خ¦7398] مُتَّصلًا عن يُوسُف بن مُوسَى عنه. زاد الإسماعيليُّ أنَّه تابعه أيضًا عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان ويُونُس بن بُكَيْرٍ ومحاضرٌ وأبو سَلَمَة مالكُ بن أنسٍ، زاد الدَّارقُطْنِيُّ: تابعَهُ أيضًا النَّضْر بن شُمَيلٍ، وعُمَر بن مُجَمِّعٍ، ورواه عبد الوَهَّاب بن عَطَاءٍ، عن مالكٍ فرفَعَهُ. قال في «غرائب الموطَّأ»: تفرَّد به عبد الوَهَّاب، عن مالكٍ مُتَّصلًا، وغيرُه يرويه عن مالكٍ، عن هِشَامٍ، عن أبيه مرسلًا، وادَّعى ابن عبد البرِّ أنَّه لم يختلف عن مالكٍ في إرسالِه.
          قال الدَّارقُطْنِيُّ في «عِلله»: ورواه حمَّادُ بن سَلَمَة، وحمَّاد بن زَيْدٍ، وابن عُيَيْنَة، ويحيى القطَّان، والمفضَّل بن فَضَالةَ، عن هِشَامٍ، عن أبيه مرسلًا؛ ليس فيه عن عَائِشَة، / والمرسل أشبهُ بالصَّواب.
          قلت: وله طرقٌ أخرى مرسلَةٌ أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» عن الشَّعْبِيِّ: أُتي رسول الله صلعم في غزوةِ تَبُوكَ بجُبنةٍ فقِيل: إنَّ هذا طعامٌ تصنعُهُ المجوسُ فقال: ((اذكروا اسمَ الله عليه وكلُوه)) وأخرجه ابن حزمٍ في «مُحلَّاه» مِن حديثِ ابن عُيَيْنَة، عن هِشَامٍ، عن أبيه أنَّ رسول الله صلعم قال: ((اجتهدوا أيمانهم وكُلُوا)) يعني: اللُّحْمَان التي تقدَّم بها الأعرابُ لا ندري أُذِكرَ اسمُ الله عليها أم لا. وهذا مرسلٌ، قال: ولا حُجَّة في المرسِلِ.
          وروى الطَّحَاويُّ في «مُشكله»: سألَ ناسٌ مِن الصَّحابة رسول الله صلعم فقالوا: أعاريبُ يأتوننا بلُحْمانٍ مشروحةٍ وجُبنٍ وَسَمْنٍ، ما كنهُ إسلامِهم قال: ((انظروا ما حرَّم الله عليكم فأمسِكُوا عنه، وما سكتَ عنه فإنَّه عُفِي لكم عنه، وما كان ربُّك نسيًّا، اذكروا اسم الله)) ومثل هذا ما رُوي عن ابن عبَّاسٍ: بعث الله نبيَّهُ وأحلَّ حلالَه وحرَّم حَرَامَه وما أحلَّ فهو حلالٌ وما حرَّم فهو حرامٌ وما سَكَتَ عنه فهو عفوٌ ثمَّ تلا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية[الأنعام:145].
          فَصْلٌ: قد أسلفنا أنَّ هذا الحديث عُمْدَتُنا في أنَّ التسميةَ في الابتداء ليست شرطًا، وكذا قال المُهَلَّب: هذا أصل في التَّسمية في الذَّبح ليست بفرضٍ، ولو كانت فرضًا لاشترطت على كلِّ حال. والأُمَّة مُجْمِعةٌ على أنَّ التَّسمية على الأكل مندوبٌ إليها وليست فرضًا، فلمَّا نابت عن التَّسمية على الذَّبْح دلَّ أنَّها سُنَّةٌ لأنَّه ينوبُ عن فرضٍ.
          وهذا يدلُّ أنَّ حديث عَدِيٍّ وأبي ثَعْلَبةَ محمولان على التَّنزيه مِن أجل أنَّهُما كانا صَائِدَين على مذهب الجاهليَّة، فعلَّمهما أمرَ الصَّيد والذَّبح دَقِيقَه وجليَّه لئلَّا يُواقِعَا شُبهةً مِن ذلك، ويأخذا بأكملِ الأمور في بدء الأمر، فعرَّفهم ◙. وهؤلاء القوم جاءوا مُسْتَفتين لأمرٍ قد وقع ويقعُ مِن غيرِهم ليس لهم فيه قُدْرةٌ على الأخذ بالكمال في بدئهِ، فعرَّفهم بأصل ما أحلَّهُ الله لهم، ولم يقل لعَدِيٍّ: إنَّك إن فعلتَ فإنَّه حرامٌ، ولكن قال له: (لا تأكُلْ فإنِّي أخاف).
          فأدخلَ عليه الشُّبهة التي يجِبُ التَّنزُّه عنها والأخذُ بالأكمل قبل مُوَاقعتِها، ويدلُّ على صِحَّة هذا المعنى _أنَّه قد يشتدُّ قبل وقوع الأمر ولا يشتدُّ بعدَهُ_ قضيَّة اللَّعن لشاربِ الخَمْر قبل شُرْبها، ونهيُه عن اللَّعنة بعده بقولِه: ((لا تُعِينوا الشَّيطانَ على أخيكم)). وقال ابن التِّين: يحتمل أن يُرَاد بالتسمية هنا عند الأكل؛ لأنَّ ذلك ممَّا يُثني عليهم مِن التَّكليف، وأمَّا التَّسمية على ذبحٍ تولَّاهُ غيرُهم مِن غير عِلْمِهم فلا تكليف عليهم وإنَّما يُحمَل على الصِّحَّة إذا تبيَّن خِلافهما ويحتمل أن يريد أنَّ تسميتكم الآن تَسْتَبِيحون بها أكلَ ما لم تَعْلموا أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ إذا كان الذَّابح ممَّن تَصِحُّ ذَبِيحتهُ إذا سمَّى.
          وفيه: أنَّ ما في الأسواق مِن اللَّحم محمولٌ على الصِّحَّة وكذا ما ذبحَهُ الأعراب؛ لأنَّ الغالب أنَّهم عرفوا التَّسمية وعلى ذلك عمَلُ المسلمين. وقال أبو عُمَر بن عبد البرِّ: فيه مِن الفقه أنَّ ما ذبحَهُ المسلم ولم يَعْرف هل سمَّى الله عليه أم لا؟ لا بأس بأكلِه وهو محمولٌ على أنَّهُ قد سمَّى، والمؤمن لا يُظَنُّ به إلَّا الخيرُ، وذبيحتُهُ وصيدُهُ محمولٌ على السَّلامة حتَّى يصحَّ فيه غير ذلك مِن تعمُّدِ ترك التَّسمية ونحوه.
          وقد قيل في معنى هذا الحديث أنَّهُ ◙ أمرَهم بأكلها في أوَّل الإسلام قبل أن ينزلَ عليه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] وهو قولٌ ضعيفٌ لا دليل على صِحَّته، ولا يُعرَف وجه ما قال قائلُه، وفي الحديث نفسِهِ ما يردُّهُ، لأنَّه أمرهم فيه بالتَّسمية على أكلِه فدلَّ على أنَّ الآية قد كانت نزلت عليه وممَّا يدلُّ على بُطْلان هذا القول هذا الحديث كان بالمدينة، وأنَّ أهل باديتِها هم المشارُ إليهم ولا يختلف العلماء أنَّ هذه الآية نَزَلَت في سورة الأنعام بمكَّة.
          وقام الإجماع على أنَّ التَّسمية على الأكل للتَّبرُّك لا مدخل فيها للذَّكاة بوجهٍ مِن الوجوه، وقد استدلَّ جماعة من أهل العِلم على أنَّ التسمية على الذَّبِيحة ليست بواجبةٍ بهذا الحديث.
          وقالوا: لو كانت التَّسميةُ واجبةً على الذبيحة لَمَا أمرهم ◙ بأكل ذبيحةِ الأعراب أهل البادية، إذ يمكن أن يسمُّوا ويمكن ألَّا بجهلِهم، ولو كان الأصل ألَّا يؤكَلُ إلَّا مِن ذبائح المسلمين، أو ما صحَّتِ التَّسمية عليه لم يَجُز استباحة شيءٍ مِن ذلك إلَّا بيقينٍ مِن التَّسمية؛ إذ الفرائض لا تُؤدَّى إلَّا بيقينٍ.
          وأغرب ابن حزمٍ فقال: تسميةُ الله فرضٌ على كلِّ آكلٍ عند ابتداء أكلهِ لحديث عُمَر بن أبي سَلَمَة الذي فيه: ((سَمِّ الله وكُلْ ممَّا يليك)).