التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة

          ░25▒ بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْمُثْلَةِ وَالْمَصْبُورَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ
          ذكر فيه خمسة أحاديثَ:
          5513- أحدُها: حديث هِشَامِ بن زَيْدٍ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أيُّوبَ، فَرَأَى غِلْمَانًا _أَوْ فِتْيَانًا_ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلعم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ. وأخرجَهُ مُسْلِمٌ أيضًا وأبو داودَ والنَّسائيُّ وابن ماجه.
          والحكم هذا هو ابن عمِّ الحجَّاج بن يُوسُفَ الثَّقَفيِّ، وزوج أختِه زينبَ بنت يُوسُف التي كانت يشبِّبُ بها النُّمَيريُّ، وكان الحجَّاجُ استعملَهُ على البصرةِ.
          5514- ثانيها: حديث ابن عُمَرَ ☻ أَنَّهُ دَخَلَ على يَحْيَى بن سَعِيدٍ وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابن عُمَرَ حتَّى حَلَّهَا، ثمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلاَمِ مَعَهُ فَقَالَ: ازْجُرُوا غِلمَانكُمْ عَنْ أَنْ تصْبرَ هَذَا الطَّيْرَ بالْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلعم نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ.
          5515- ثالثُها: حَدَّثَنا أبو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنا أبو عَوَانَةَ، عن أبي بِشْرٍ، عن سَعِيد بن جُبَيْرٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ ابن عُمَرَ ☺ فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ _أَوْ بِنَفَرٍ_ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَلَمَّا رَأَوُا ابن عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا، وَقَالَ ابن عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلعم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا. وأخرجَهُ مُسْلِمٌ أيضًا.
          قال البُخَارِيُّ: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنا الْمِنْهَالُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابن عُمَرَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلعم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ. وهذه المتابعة أسندها أبو نُعَيمٍ الحافظ فقال: حَدَّثَنا أبو إسحاقَ بن حَمْزَة وأبو أحمدَ قالا: حَدَّثَنا أبو خَلِيفة، حَدَّثَنا أبو داودَ الطَّيالسِيُّ سُلَيْمَان بن داودَ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ.
          رابعُها: وقال عَدِيٌّ، عن سَعِيدٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ صلعم.
          هذا أخرجَهُ مُسْلِمٌ عن عُبَيْد الله بن مُعَاذٍ، عن أبيه، وعن بُندَارٍ عن غُنْدَرٍ وابن مَهِديٍّ ثلاثتهم عن شُعْبَةَ، عن عَدِيٍّ، عن سَعِيدٍ، وعَدِيٌّ هو ابن ثابتٍ، وسعيدٌ هو ابن جُبَيرٍ.
          5516- خامسُها: حَدَّثَنا حجَّاجُ بن مِنْهَالٍ، أخبرنا شُعْبَةُ أخبرني عَدِيُّ بن ثابتٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بن يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ.
          هذا رواه الإسماعيليُّ مِن حديثِ جماعةٍ عن شُعْبَة قال: رواه يَعْقُوب بن إسحاقَ الحَضْرميُّ، وداودُ بن المُحَبَّر عن شُعْبَةَ فقالا: عن عبد الله بن يَزِيدَ، عن أبي أيُّوبَ، عن رسول الله صلعم. ولابن أبي شَيْبَةَ عن عبد الرَّحيم بن سُلَيْمَانَ: حَدَّثَني ابن إسحاقَ، عن بُكَيْر بن عبد الله، عن عُبَيد بن يَعْلَى، عن أبي أيُّوبَ سمعتُ النَّبِيَّ صلعم ينهى عن صَبْرِ البهيمة، وما أحبُّ أنِّي صَبَّرتُ دجاجةً وأنَّ لي كذا وكذا.
          قلت: وعبد الله راويه هو ابن يَزِيدَ بن حُصَينِ بن عَمْرو بن الحارثِ بن خَطْمَةَ واسمُه: عبدُ الله بن جُشَم بن مالكِ بن الأوسِ الأنصاريُّ أبو مُوسَى الخَطْمِيُّ وإنَّما سُمِّي خَطْمَة لأنَّه ضرب رجلًا على خَطْمِه، شَهِد الحُدَيْبِيَة مع رسول الله صلعم وهو ابن سبع عشرة، وشَهِد الجملَ وصِفِّين والنَّهْرَوَان مع عليٍّ وكان أميرًا على الكوفة.
          قال أبو داودَ فيما حكاه الآجُرِّيُّ: له رؤيةٌ، سمعتُ يحيى بن مَعِينٍ يقولُه، قال: وسمعتُ مصعبًا الزُّبَيري يقول: عبد الله بن يَزِيدَ الخَطْمِيُّ ليس له صُحْبَةٌ، وهو الذي قتل الأعمى أُمَّهُ، وهو الطَّفل الذي سقطَ بين رجليها، التي سبَّت رسول الله صلعم، مِن طريق عِكْرِمَةَ عن ابن عبَّاسٍ. وقال أبو حاتِمٍ: روى عن رسول الله صلعم وكان صغيرًا على عهده، فإن صَحَّت روايتُه فذاك.
          فَصْلٌ: وفي الباب عن أبي الدَّرداء وأمِّ حَبِيبةَ بنت العِرْبَاضِ عن أبيها، أخرج الأوَّلَ التِّرْمِذيُّ، وقال غريبٌ: نهى رسول الله صلعم عن أكل المجثَّمة وهي التي تُصْبَر بالنَّبل. وكذا الثَّاني أنَّه ◙ نهى يوم خَيْبرَ عن المجثَّمة وعن الخَلِيسة.
          فَصْلٌ: أصل الصَّبْر: الحَبْس، وكلُّ مَن حبسَ شيئًا فقد صَبَره، ومنه يمينُ الصَّبر، وقِيل للرَّجل يُقدَّم فتُضربُ عُنُقه: قُتِل صبرًا يعني: أمسك للموت. ويُقَال: صَبَرَ عند المصيبةِ يَصْبِرُ صَبْرًا. وصَبَرتُهُ إذا: حَبَسْتُهُ، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف:28]. والصَّبِير: الكَفِيل تقول منه: صَبَرْتُ أَصْبُرُ صَبْرًا وَصَبَارةً أي: كَفَلْت. والصَّبِير: السَّحاب الأبيض لا يكاد يُمْطرُ.
          والمجثَّمة: الْمَصْبُورة أيضًا، قاله أبو عُبَيدٍ، ولا يكون إلَّا في الطير والأرانب وأشباه ذلك ممَّا يَجْثِمُ بالأرض والجُثُوم: الانتصابُ على الأرض، وكذا في «الصِّحَاح» أيضًا، وعبارة ابن فارسٍ: المجثَّمة هي الطَّير المصْبُورةُ على الموتِ. قلت: وفرق بين المجثَّمة والجاثمة؛ لأنَّ الجاثمةَ التي جثَمَت بنفسِها فإذا صَبَرت على تلك الحال لم تحرَّم، والمجثَّمة، هي التي رُبِطت ونُصبت، فإذا رُمِيت حتَّى تهلك حُرِّمت، وسيأتي.
          قلت: ففرَّقَ البُخَارِيُّ بين المصبورة والمجثَّمة؛ لأنَّ المجثَّمةَ خاصَّةً بما ذكرت بخِلافِ المَصْبُورة، وفي كتاب «الأفعال»: يُقَال جَثَمَ على ركبتيه جُثُومًا، ومنه {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثمينَ} [هود:67] ثمَّ رأيت ابن بطَّالٍ ذكره فقال: نهيُهُ عن المجثَّمة نظيرُ نهيِه عن المَصْبُورة، غير أنَّ التَّجْثيمَ عند العرب هو في الممتنعاتِ مِن الوحش والطَّيرُ التي تنبذ بالأرض وتَجْثِمُ بها، وأنَّ الصَّيد المصبَّرَ يكون في ذلك وغيرِه / فإن وجَّهَ مُوجِّهٌ _يعني نهيَهُ عن المجثَّمة_ إلى المعنى الثَّاني وهو النَّهي عن أكل لحمِها إذا ماتَ مِن الرَّمي، فكان ذلك نظير نهيه تعالى عن المُنْخَنِقَة والمَوْقُوذة والمُتَرَدِّية، وتحريمِه أكلَها إذا ماتت مِن ذلك، وإن جُثِّمت فَرُميت ولم تَمُت فَذَبَحها مجثِّمُها كان حلالًا أكلها بالتَّذكية.
          والنُهْبى: اسمُ ما يُنْهَبُ، وهو الأخذُ مِن الغنيمة. وقال صاحب «المطالع»: هو اسمُ الانتهاب، وهو أخذُ الجماعة الشَّيءَ اختطافًا عجلةً غير سويةٍ لكن بحسب السَّبق إليه.
          فَصْلٌ: هذه النُّهبى نُهبى تحريمٍ لقولِه في رواية ابن عُمَرَ: لعنَ اللهُ مَن فعلَ هذا.
          فَصْلٌ: قال أبو عُبَيدٍ: قال أبو زيدٍ وأبو عَمْرٍو وغيرهما في نهيِه ◙ أن تُصْبَر البهائم هو الطَّائر وغيرُه مِن ذوات الرُّوح يُصَبَّر حَيًّا ثمَّ يُرْمَى حتَّى يُقْتَل.
          قال ابن المنذر عن أحمدَ وإسحاقَ، لا تُؤكَل المَصْبُورة والمجثَّمة. قال غيرُه: ولا أعلمُ أحدًا مِن العلماء أجاز أكل المَصْبُورة، وكلُّهم يحرِّمها؛ لأنَّه لا ذكاةَ في المقدور عليه إلَّا في الحَلْق واللَّبَّة.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: وهذا إنَّما هو نهيٌ عن العبث في الحيوان وتعذيبِه بغير مشروعٍ، وأمَّا تجثيمُها للنَّحر وما شاكَلَهُ فلا بأس به، وإنَّما يُكرَه العبث لحديث شدَّادِ بن أوسٍ أنَّه ◙ قال: ((إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ فإذا قَتَلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذَبَحْتُم فأحسنوا الذِّبْحة، وَليحِدَّ أحدُكم شَفْرَتهُ ولْيُرِح ذَبِيحتَهُ)) أخرجَهُ مُسْلِمٌ، وكره أبو هُرَيْرَةَ أن تُحدَّ الشَّفْرة والشَّاة تنظرُ إليها، وروي أنَّه ◙ رأى رجلًا أَضْجَعَ شاةً فوضَعَ رِجْلَه على عُنُقِها وهو يحِدُّ شَفْرتَهُ، فقال ◙: ((ويلكَ، أردتَ أن تُمِيتَها مَوْتاتٍ، هلَّا حَدَدْتَ شَفْرَتكَ قبل أن تُضْجِعها)) وكان عُمَر بن الخطَّاب ينهى أن تُذبَح الشَّاة عند الشَّاة، وكرهه رَبِيعَةُ أيضًا، ورخَّص فيه مالكٌ.
          وقال الطَّبَرِيُّ: في نهيِه عن صَبرِ البهائم الإبانة عن تحريم قتْلِ ما كان حلالًا أكلُه مِن الحيوان إذا كان إلى تذكيتِه سبيلٌ، وذلك أنَّ رامي الدَّجَاجة بالنَّبْل ويَتَّخِذها غَرَضًا قد يُخطِئ رَمْيَه موضع الذَّكاة فَيَقْتُلها فَيَحْرُم أكلَها، وقاتلُه كذلك غير ذابحهِ ولا ناحرهِ، وذلك حرامٌ عند جميع الأُمَّة، ومُتَّخِذَه غرضًا مُقدِمٌ على معصية الربِّ تعالى مِن وجوهٍ:
          منها: تعذيبُ ما قد نُهِيَ عن تعذيبهِ، وتمثيلُهِ ما قد نُهِي عن التَّمثيل به، وإماتتُه بما قد حَظَرَ عليه إماتته فيه، وإفسادُه مِن ماله ما كان له إلى إصلاحه والانتفاع به سبيل كالتَّذكية وذلك مِن تضييع المال المنهيِّ عنه.
          وقال ابن عُمَرَ ☻: مَن اتَّخذَ شيئًا فيه الرُّوح غرضًا لن يخرج مِن الدُّنيا حتَّى تُصِيبَه قَارِعةٌ. وقال أيضًا وقد انصرفوا: ما يفعلون بطائرٍ أَمَا إنهم سَيُعادون لها. وذكر الطَّبَرِيُّ عن قتاد، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم نهى عن المجثَّمة)) وقال: المجثَّمة التي التصَقَتْ بالأرض وحُبِست على القَتْل والرَّمِي، فإذا جثَّمت مِن غير أن يفعل ذلك بها فهي جاثمةٌ. وقال: ويحتمل نهيه عن المجثَّمة معنيين:
          أحدُهما: أن يكون نهيًا عن رميِها بعد تجثُّمها فيكون المعنى فيها النَّهي عن تعذيبها بالرَّمِي والضَّرْب.
          والثاني: أن يكون معنى النَّهي عنها عن أكل لحمِها إذا هي ماتت بالضَّرب والرَّمِي؛ لأنَّها ماتت كذلك بعد أن تُجَثَّم فهي ميِّتةٌ؛ لأنَّها لا تُجَثَّم إلَّا بعد أن تُصَاد، ولو كانت هي الجاثمةُ مِن قبلِ نفسِها لم يقْدِر على صيدها إلَّا بالرَّمِي، فرماها ببعض ما يُخرجها لتجثُّمها فماتت مِن رميه كانت حلالًا؛ لأنَّها حينئذٍ جَاثِمةٌ لا مُجَثَّمةٌ، وهي صيدٌ صِيْدَ بما يُصاد به الوحشُ.