التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب آنية المجوس والميتة

          ░14▒ بابُ آنِيَةِ الْمَجُوسِ وَالْمَيْتَةِ
          5496- ذكر فيه حديث أبي ثَعْلَبةَ وقد سلف قريبًا [خ¦5478].
          5497- وحديث سَلَمَةَ بن الأَكْوعِ سلف في المظالم [خ¦2477].
          ونبَّه البُخَارِيُّ بقولِه: (وَالْمَيْتَةِ) على أنَّ الخمرَ لَمَّا كانت محرَّمةً لم تؤثِّر فيه الذَّكَاة. وحديث أبي ثَعْلَبةَ فيه ذكر الكتاب ولعلَّه يرى أنَّهم أهل كتابٍ، وهو أحد القولين عندنا وعند المالكيَّة، ومشهور مذهب مالكٍ أنَّه لا كِتابَ لهم.
          قلت: روى عبدُ بن حُمَيْدٍ في «تفسيرِه» عن عليٍّ أنَّه كان لهم كِتابٌ. قال ابن حزمٍ: وصحَّ أنَّه ◙ أخذ منهم الجِزْية ولا تُؤخذ إلَّا مِن كِتابيٍّ؛ لقولِه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}الآية[التوبة:29]، وحديث: ((لا تُؤكَل لهم ذبيحةٌ)) مُرسَلٌ، وقد سُئِل ابن المسيِّب عن مريضٍ أمر مجوسيًّا أن يذبحَ ويُسمِّي الله. فقال سعيدٌ: لا بأس بذلك. وهو قول أبي قَتَادَة وأبي ثورٍ وأصحابنا.
          قال المُهَلَّب: معنى ذكر آنيةِ المَجُوسيِّ في هذه الترجمة، وذكرَ سؤال أبي ثَعْلَبةَ رسول الله صلعم عن آنية أهل الكِتَاب مِن أجل أنَّهم لا يتحرَّزُون / مِن المَيْتةِ والخِنْزيرِ والخَمْر ويخلِّصون أعناقَ الحيوان وذلك مَيْتةٌ كطعام المجوسِ.
          وقد جاء هذا المعنى مبيَّنًا في حديث أبي ثَعْلَبةَ مِن روايةِ مَعْمَرٍ عن أيُّوبَ، عن أبي قِلابةَ، عن أبي ثَعْلَبةَ قلت: يا رسول الله، إنَّ أرضنا أرضُ أهل كِتابٍ، وإنَّهم يأكلون لحمَ الخِنْزيرِ ويشربون الخمر، فكيف نصنعُ بآنيتهم وقُدُورهم؟ فقال: ((إنْ لم تجدوا غيرها فَارْحَضُوها واطبخوا فيها واشربوا))، فأباح غَسلَ ما جُعِل فيه الخِنْزيرُ والخمرُ واستعمال الأواني.
          وقام الإجماع على أنَّ الماء مُطَهِّرٌ لكلِّ نجاسةٍ مِن جميع أواني الشَّراب وغيرِها، إلَّا ما روى أشهبُ عن مالكٍ في زِقَاقِ الخمر أنَّها لا تطْهُر بالغَسل؛ لأنَّها تشربُ الخمر وذلك مخالفٌ لجميع الظُّرُوف.
          وأمَّا حديث تحريم الحُمُر في هذا الباب فهو بيِّنٌ، لأنَّها قد ثبتَ تحريمُها فهي كالمَيْتَة كما أسلفناه، وأباح ◙ استعمال القُدُور بعد غَسلِها، فكذلك آنيتُهم يجوز استعمالُها بعد غسلِها، لأنَّ ذبائحهم مَيْتةٌ، وذكر ابن حَبِيبٍ عن ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّه قيل له: إنَّا نغزو لأرض الشِّرك وننزلُ بالمجوسِ وقد طبخوا في قُدُورِهم المَيْتَة والدَّم ولحمَ الخنزير فقال: ما كان مِن حديدٍ أو نحاسٍ فاغسلوه بالماء ثمَّ اطبخوا فيه، وما كان مِن فخَّار فاغْلُوا فيها الماء ثمَّ اغسلُوها واطبخُوا فيها فإنَّ الله جعل الماءَ طَهُورًا.
          وقد سلف الخِلاف في ظُرُوف الخمرِ هل تُضمَن إن كُسِرت؟
          فإن قلت: كيف قال: لا تأكلوا في آنيتهم وقد أباحَ اللهُ لنا طعامَهم؟ قِيل: المراد بذلك: ذبائحُهُم أو ما عَلِم مِن عادتهم أنَّهم لم يمسُّوه بشيءٍ مِن المحرَّم مثل النَّصَارى، فإنَّهم يطبخُون في قُدُورهم الخِنْزير، فإذا عَلِم أنَّ الطَّعام سالِمٌ مِن ذلك جاز أكلُه؛ لأنَّ ذبيحتَهم لنا حلالٌ حتَّى نتيقَّنَ نجاسَتَهُ، وما عَمِله المجوسُ حتَّى يُتيقَّن حِلُّهُ مِن جُبنٍ أو سَمْنٍ أو زُبدٍ ونحوها، والمنصوصُ عليها في مذهب مالكٍ نحو ذلك أنَّ جُبْن المَجُوسيِّ لا يُؤكَلُ.
          فَصْلٌ: قال أبو عليٍّ النَّحْويُّ: المجوسُ واليَهُود إنَّما عُرِّف على حدِّ يَهُوديٍّ ويَهُودَ، ومَجُوسيٍّ ومجوسٍ، مثل شَعِيرةٍ وشَعِيرٍ، ولولا ذلك لم يَجُز دخول الألف واللَّام عليهما لأنَّهما مَعْرِفتان قال: وهما مؤنَّثتان وما في كلامِهم مجري [...]، ولم يُجْعَلا كالحيَّيْن في باب الصَّرْف.
          فَصْلٌ: قولُه: (أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا) هو بفتح الهمزة وسكون الهاء، وأصلُه: أهراق بفتح الهمزة، ويُهْرِيق بضمِّ أوَّله وسكون ثانيه، وتثبتُ الهاء في أَهْرِيقُوا؛ لأنَّه عندنا فاءٌ لعارضٍ، فلمَّا تحرَّكتِ القاف عادت الياء المحذوفة لالتقاء السَّاكنين في أراقَ الماء وهي لغةٌ ثالثةٌ، والمشهور أراقَ الماء وذكره سيبويه بالهاء، أبدلوا مِن الهمزة الهاء ثمَّ ألزمت فصارت كأنَّها مِن نَفْس الحرف ثمَّ أُدْخِلت الألف على الهاء وَتُرِكت عِوَضًا من حذفهم العين؛ لأنَّ أصل أُهْرِيق أُرِيق.
          ولغة أَهْرَاق على وزن أَسْطَاع يُسْطِيعُ اسْطياعًا بفتح الألف في الماضي وضمِّها في المستقبل، جعلوا الهاء في أهراق والسِّين في اسْطَاع عِوَضًا عن ذهاب حركة عين الفعل.
          وقولُه: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ فَقَالَ: نُهَرِيقُ مَا فِيهَا) إن قرأتْه بفتح الهاء كان على اللُّغة المشهورة، أو بالسُّكون فعلى الأخرى، قال الجَوْهَرِيُّ: فأمَّا تقدير يُهْرِيق بالتَّسكين فلا يُمكن أن يُنْطَقَ به؛ لأنَّ الهاء والفاء جميعًا ساكنان وكذلك تقدير يهراق.
          فَصْلٌ: وقد أسلفنا الاختلاف في عِلَّة تحريم الحُمُر؛ لأنَّها لم تُخَمَّس، أو لئلَّا تَفْنى حَمُولتُهم، أو لأنَّها مِن جَوَالِّ القريةِ، أو لِنَجَاستِه، أو تعبُّدٌ. وقال طَاوُسٌ: أَبَى ذلك البحرُ ابن عبَّاسٍ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية[الأنعام:145].
          واختلف قول مالكٍ هل هي مكروهةٌ أو محرَّمةٌ؟
          فَصْلٌ: قولُه: (وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا) فيه العُنفُ عند ظُهُور المنكرِ والأدبُ في المال، ليكون أحسمَ لوأدِ المنكر، وقد رُوي أنَّه ◙ أمر بشَقِّ الزِّقَاق عند تحريم الخمر، وكان الفاروقُ يرى العقوبة في المال كالبَدَنِ إذا رأى ذلك أبلغَ، وهذا مِن اجتهاد الأئمَّة. فأمَّا مَن لم يُوَلَّ وإن بلغَ في الصَّلاح؟ قلت: ليس له ذلك خوفَ الفِتنة وكذلك الأئمَّةُ لا يُفَضِّلونه إن خَشوا الفِتنة عنه، أَلَا ترى أنَّه ◙ لَمَّا قيل له: نُهَرِيقُ ما فيها ونَغْسِلُها؟ قال: (أَوْ ذَاكَ)، وذلك أنَّه لَمَّا رآهم سلَّمُوا للحكم وانقادوا وضَعَ عنهم العقوبة التي أراد إلزامَهم إيَّاها، وقد اختلف قول مالكٍ في العقوبة في المال، ومرَّةً فرَّق بين يسيرِ ذلك وكثيرِهِ فمنعَها في الكثير.