التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أكل الجراد

          ░13▒ بابُ الْجَرَادِ
          5495- ذكر فيه حديث شُعْبَةَ: عن أبي يَعْفُورٍ قال: سمِعْتُ ابن أَبِي أَوْفَى ☻ يقول: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلعم سَبْعَ غَزَوَاتٍ _أَوْ ستًّا_ نَأْكُلُ مَعَهُ الجَرَادَ. قَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنِ ابن أَبِي أَوْفَى: سَبْعَ غَزَوَاتٍ.
          الشَّرح: هذا الحديث أخرجَهُ مُسْلِمٌ وأبو داودَ والتِّرْمِذيُّ والنَّسائيُّ.
          وأبو يَعْفُورٍ: هو بالفاء واسمُهُ واقِدٌ، ولقبُه: وَقْدَانُ عَبْدِيٌّ تابعيٌّ، وهو أبو يَعْفُورٍ الكبير، والصَّغيرُ اسمُه عبد الرَّحْمَن بن عُبَيد بن نِسْطَاسٍ عَامِريٌّ بَكَّائيٌّ، ونِسْطَاسُ: يُكنَى أبا صفيَّةَ روى عن أبي الضُّحى مُسْلمِ بن صُبَيحٍ والوليد بن عَيْزَارٍ، وعنه: ابن عُيَيْنَة ومروانُ بن مُعَاوِيَة وهما مُتَّفقٌ عليهما. وأبو عَوَانَة اسمه: الوَضَّاح.
          وعند ابن حِبَّان مِن حديثِ أبي الوليد كما في البُخَارِيِّ: سبعًا أو ستًّا _شكَّ شُعْبَة_. ورواه التِّرْمِذيُّ صحيحًا مِن حديثِ سُفْيَان عن أبي يَعْفُورٍ، فقال: ستُّ غزواتٍ، ثمَّ قال: كذا روى ابن عُيَيْنَة، عن أبي يَعْفُورٍ فقال: سِتًّا، وروى الثَّوريُّ، عن أبي يَعْفُورٍ هذا الحديث فقال: سبعًا. قال: وروى شُعْبَة هذا الحديث عن أبي يَعْفُورٍ بلفظ: غزونا مع رسول الله صلعم غزواتٍ نأكلُ الجَرَادَ. حَدَّثَنا بذلك بُنْدَارٌ أخبرنا غُنْدَرٌ عنه ولم يذكر عددًا. وفي «مسند الحُمَيْديِّ» عبد الله بن الزُّبَير رواه ابن عُيَيْنَة وأخصُّ النَّاس به: حَدَّثَنا سُفْيَان، حَدَّثَنا أبو يَعْفُورٍ قال: أتيتُ ابن أبي أَوْفَى، فسألتُه عن أكل الجرادِ، فقال: غزوتُ مع رسول الله صلعم ستَّ غزواتٍ أو سبع غزواتٍ، فكنَّا نأكل الجَرَادَ.
          وروى ابن أبي عاصِمٍ في كتابه عن ابن أبي شَيْبَةَ، عن ابن عُيَيْنَة، عن أبي يَعْفُورٍ عن عبد الله قال: غزوتُ مع رسول الله صلعم سبعَ غزواتٍ نأكلُ الجرادَ.
          وأخرجَهُ مُسْلِمٌ مِن حديثِ أبي كاملٍ عن أبي عَوَانَة عن أبي يَعْفُورٍ، وأخرجه البزَّار عن مُحَمَّد بن عبد الملك القُرَشيِّ عنه ثمَّ قال: حَدَّثَنا / الحسن بن مُدْرِكٍ، حَدَّثَنا يحيى بن حمَّادٍ وحَدَّثَنا أبو عَوَانَةَ، عن الشَّيْبَانيِّ، عن ابن أبي أَوْفَى قال: غزونا مع رسول الله صلعم سبعَ غزواتٍ نأكلُ الجرادَ.
          قال: وحديث الشَّيْبَانيِّ لم أسمع أحدًا يحدِّثُ به إلَّا ابن مُدْركٍ، عن يحيى، وعند حديث أبي يَعْفُورٍ. وأمَّا عند أبي عَوَانَة، عن أبي يَعْفُورٍ: حَدَّثَنا غير واحدٍ، وابن مُدْركٍ ذكر هذا أيضًا عن يحيى بن حمَّادٍ، عن أبي عَوَانَة، عن الشَّيْبَانيِّ وعن أبي يَعْفُورٍ، عن ابن أبي أَوْفَى.
          فَصْلٌ: الجراد بفتح الجيم: اسمُ جِنْسٍ، واحدتُهُ جَرَادة يُطلق على الذَّكَر والأنثى، وَجَرَدت الأرضَ فهي مَجْرُودةٌ، أي: أكلَ الجرادُ نَبْتَها.
          قال ابن دُرَيدٍ: سُمِّي جرادًا؛ لأنَّه يَجْرُدُ الأرض فيأكلُ ما عليها، وأطالَ الجاحظ في تعريفِه، ونقَلَ عن الأصْمَعِيِّ أنَّه إذا خرجَ مِن بيضِهِ فهو دَبَا والواحدة دَبَاة ثمَّ قال: ولعابُهُ سُمٌّ على الأشجارِ لا يقعُ على شيءٍ إلَّا أحرقَهُ.
          وفي «الغريب المصنَّف» للأصْمَعِيِّ الذَّكَر مِن الجراد: هو الحَنْظبُ، والعُنْظَُب زاد الكِسَائيُّ: والعُنطوب. وقال أبو حاتِمٍ في «كتاب الطَّير»: قالت العرب الذَّكَر والأنثى كذلك، وهو نَثْرَةُ حُوتٍ يؤكَل ولا يُذبَح قال أبو المعالي: والجُنْدُب ضَرْبٌ منه.
          وقال أبو حاتِمٍ: أبو جُخَادب شيخ الجنادِبِ وسيِّدُهم. قال ابن خَالَوَيهِ: وليس في كلام العرب اسمٌ للجراد إذا غرب من العُصْفُورِ، وللجراد نَيِّفٌ وسِتُّون اسمًا فذكرها.
          فَصْلٌ: الجرادُ حلالٌ بالإجماع، قال الكوفيُّون والشَّافِعِيُّ: يُؤكَل كيفما ماتَ، وقال مالكٌ: إن وجده مَيِّتًا لم يأكلْه حتَّى يقطعَ رؤوسَه أو يُطرح في النَّار وهو حيٌّ مِن غير أن يقطف رؤوسَه فهو حلالٌ. وعنه: إن أُخذ حَيًّا ثمَّ قطَعَ رأسَه أو شَوَاهُ فلا بأس بأكله، وإن أُخذ حَيًّا فَغَفِل عنه حتَّى مات فلا يؤكل، وإنَّما هو بمنزلة ما أخَذَهُ مَيِّتًا قبل أن يُصَاد لأنَّه مِن صيد البرِّ، وذَكَاته قتْلُهُ، ومَن أجاز أكله مَيِّتًا جعلَه مِن صيد البحر كطافي الحِيْتان يجوز أكلُها. وذكر الطَّبَرِيُّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال: الجراد ذَكِيٌّ حيُّه ومَيِّتُهُ. وذكر عبد الرَّزَّاق أنَّ ابن عبَّاسٍ قال: كان عُمَر ☺ يأكل الجرادَ ويقول: لا بأس به لا يُذبَح، وعن عليٍّ أنَّه قال: الجرادُ مثل صيدِ البحرِ.
          وهو قول عطاءٍ، وأمَّا مالكٌ فهو عنده مِن صيد البرِّ ولا يجوز أكلُه إلَّا بِذَكَاةٍ، وهو قول ابن شِهَابٍ ورَبِيعَة، وكان عَلْقَمةُ يكرهُ الجرادَ ولا يأكلُهُ.
          وقال ابن التِّين: مشهور مذهب مالكٍ افتقارُه إلى الذَّكَاة، وعند ابن حَبِيبٍ: أنَّه يؤكَل إذا وُجِد ميِّتًا، وبه قال مُحَمَّد بن عبد الحَكَم، قال: واختُلِف في ذَكَاتهِ فقال ابن وَهْبٍ: ذَكَاتُهُ أخذُهُ.
          وقال مالكٌ: قطْعُ أجنحتِها وأرجُلِها ذَكَاتُهُ، وقال أشهبُ وسُحْنُون: لا تُؤكَل إلَّا بقطعِ رؤوسِها وأرجُلِها مِن أفخاذِها، وإن أُلقِيت في ماءٍ جازَ أكلُها، ومنعَه سُحْنُون، واختُلف إذا سُلِقت الأحياء مع الأموات، فقال سُحْنُون: تُؤكَل الأحياء ومنَعَهُ أشهبُ _قال ابن عبد الحَكَم_: وعليٌّ.
          فَرْعٌ: أخذُها التَّسمية عند قطْعِ رؤوسِها أو أجنحتِها أو غير ذلك ممَّا يقتلُها، قال الأَبْهَرِيُّ: والدَّليل على أنَّهُ صيد البرِّ أنَّ المحرِمَ يجوز له صيد البحر وهو ممنوعٌ مِن صيد الجراد؛ وذلك لئلَّا يقتلَهُ فَعَلِم أنَّه مِن صيد البرِّ وإذا كان ذلك كذلك فيحتاج إلى ذَكَاةٍ إلَّا أنَّ ذَكَاتَهُ حسَبَ ما تيسَّر كما يكون في الصَّيد ذَكَاتهُ على حَسَب ما يقدِرُ عليه مِن الرَّمي وإرسال الكلْبِ، لأنَّه لا يمكن مِن ذبحهِ بين الحَلْق واللَّبَّة، فكذلك الجراد تُذكِّيهِ كيف تيسَّرَ، لا حَلْقَ له ولا لَبَّة، فلمَّا كان يعيش في البرِّ وجب أن يُفَارق السَّمَك فلا يُستبَاحُ إلَّا بما يقوم مقامَ الذَّكَاةِ مِن أخذِهِ كيف تيسَّر؛ لأنَّ صيد البرِّ لم يُسامح فيه بغير ذكاةٍ كما سُومِحَ في صيد البحر.
          فَرْعٌ: لو صادَهُ مَجُوسِيٌّ أُكِل عندنا ولم يؤكَل عند مالكٍ، وعلى قول مُطَرِّفٍ يُؤكَل كالحوتِ. وقال ابن وَهْبٍ: سألت مالكًا وغيرَه من أهل العِلْم عمَّا يَصِيده المَجُوسيُّ مِن الجراد فيموت عنده فقالوا: لا يُؤكَل. قال ابن وَهْبٍ: وإذا أخذه حَيًّا ثمَّ مات فلا بأسَ بأكلِه.
          فَصْلٌ: وردت أحاديث بأكلِهِ وبالوَقْف، ففي ابن ماجه مِن حديثِ ابن عُمَرَ ☻ أنَّ رسول الله صلعم قال: ((أُحلَّت لنا مَيْتَتان: الحوتُ والجرادُ))، وإسنادُه ضعيفٌ لأجل عبد الرَّحْمَن بن زَيْدِ بن أسلَمَ، وإن كان الحاكم قال في «مستدركه» في حديثٍ هو في سندِهِ: هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، قال البَيْهَقِيُّ: وَقْفُهُ أصحُّ وهو في معنى المسند، ورواه الدَّارقُطْنِيُّ مِن حديثِ عبد الله وعبد الرَّحْمَن ابني زيدِ بن أسلمَ عن أبيهما، عن ابن عُمَرَ أيضًا أنَّه ◙ قال: ((أُحِلَّت لنا مَيْتَتانِ: الحوتُ والجرادُ))، وروى ابن عَدِيٍّ مِن حديثِ ثابت بن زُهَيرٍ قال _وهو يُخَالف الثِّقات_ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ: أنَّ رَجُلًا سأل النَّبِيَّ صلعم عن الضَّبِّ فقال: ((لستُ آكلُهُ ولا أُحرِّمُهُ)) قال: والجرادُ؟ فقال ((مِثْلُ ذلك)).
          وعند الدَّارِمِيِّ، عن ابن عُمَرَ: كنَّا نقتلُه بالسَّمْن والزَّيتِ، وعند أبي داودَ عن سَلْمَانَ ☺: سُئِل رسول الله صلعم عن الجراد فقال: ((لا آكلُهُ ولا أُحرِّمهُ)) قال: ورُوي مرسلًا.
          وعند ابن ماجه مِن حديثِ أبي المُهَزِّم _وهو متروكٌ_ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ أنَّه ◙ قال في الجراد: ((كُلُوه فإنَّه مِن صيدِ البحر)) وكذا ذكره أبو عليٍّ الحسن بن أحمدَ البَنَّا في «أحكام الجراد» أنَّ النَّجَّاد روى بسندٍ له عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ: الجرادُ مِن صيد البحرِ.
          ومِن حديثِ مُوسَى بن مُحَمَّد بن إبْرَاهِيمَ _وله مناكيرُ_ عن أبيه، عن جَابِرٍ وأنس بن مالكٍ أنَّه ◙ كان إذا دَعَا على الجراد قال: ((اللَّهُمَّ أهلِكْ كِبارَه، واقتل صِغَارَه، وأفْسِد بَيْضَه، واقْطَع دَابِرَه، وَخُذْ بأفواهِه عن معاشنا، وارزقنا إنَّك سميعُ الدُّعاء)) فقال رجلٌ: يا رسولَ الله كيف تدعو على جُندٍ مِن أجناد الله بقطْعِ دَابرِهِ؟ قال: ((إنَّهُ نَثْرَة حُوتٍ في البحرِ)). زاد ابن ماجه: قال زِيَادٌ: وحَدَّثَني مَن رأى الحوت يَنْثُرُهُ.
          ومِن حديثِ سعيد بن المَرْزُبَانِ _وهو منكر الحديث_ عن أنسٍ ☺: كان أزواجُ النَّبِيِّ صلعم يَتَهَادَين الجرادَ على الأطباقِ. وعند / الدَّارقُطْنِيِّ مِن حديثِ زينبَ بنت مُنَخَّل ويقال: بنت مِنْجَل، عن عَائِشَة ♦ أنَّه ◙ زجرَ صبياننا عن الجَرَادِ وكانوا يأكلونه. قال أبو الحسَنِ: الصَّواب موقوفٌ.
          وعند ابن أبي عاصِمٍ، عن إسماعيلَ بن عيَّاشٍ، عن ضَمْضَم بن زُرعةَ، عن شُرَيح بن عُبَيدٍ، عن أبي زُهَير النُّمَيريِّ _ويقال: أبو الأَزْهرِ، وله صُحْبَةٌ_ قال ◙: ((لا تقتلوا الجرادَ))، ومِن حديثِ بقيَّةَ: حَدَّثَني نُمَير بن يَزِيدَ: حَدَّثَني أبي أنَّه سمع صُدَيَّ بن عَجْلانَ يحدِّثُ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((إنَّ مريمَ بنت عِمْرَان سألتْ ربَّها أن يُطْعِمَها لحمًا لا دمَ له فأطْعَمَها الجرادَ فقالت: اللَّهُمَّ انعشه بغير رَضَاعٍ وتابع بينه بغير شِيَاعٍ)) يعني الصَّوت. وهذا مِن أفراد بقيَّة كما انفردَ بحديث السَّلام في العيدِ، ومِن حديثِ مُحَمَّد بن عيسى الهُذَليِّ، عن ابن المُنْكَدِر، عن جَابِرٍ ☺ قال: قالَ عُمَرُ ☺: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((إنَّ الله خلق ألف أُمَّةٍ ستُّمائةٍ في البحر، وأربعُ مئةٍ في البر، فأوَّلُ شيءٍ يَهْلكُ مِن هذه الأُمَّة الجراد فإذا هلَكَ الجرادُ تَتَابعتِ الأُمم مثل سِلْك النِّظَام)).
          فَصْلٌ: ذكر الطَّحَاويُّ في كتاب «الصَّيد» أنَّ أبا حنيفة قِيل له: أرأيت الجرادَ هو عندك بمنزلة السَّمَك مَن أصابَ منه شيئًا أكلَهُ، سمَّى أو لم يُسمِّ وإن وجدته مَيِّتًا على الأرض؟ قال: نعم. قلت: فإن أصابَه مطرٌ فيقتلُهُ؟ قال: نعم لا يحرِّم الجراد شيئًا على حالٍ ولا بأس بأكلِه أينما وجدتَهُ وكيف أخذتَهُ، ولا يضرُّكَ أميِّتًا وجدته أم حَيًّا، وأين ما وجدتَهُ فَكُلْه. قال: ولم يحكِ مُحَمَّدٌ في ذلك خِلافًا بين أحدٍ بينه وبين أبي يُوسُف لأبي حنيفةَ.
          وقال ابن وَهْبٍ: وسمعتُ مالكًا وسُئِل عن الجراد يوجد ميِّتًا فيؤكَلُ قال: جعله عُمَر بن الخطَّاب صيدًا، فأمَّا إذا أخذه حَيًّا وماتَ فلا باس بأكلِه؛ لأنَّ أخذَهُ ذكاتُه، وقال ابن القاسم في جواباته لأسدٍ: أرأيت الجرادَ وجدتَه ميِّتًا يتوطَّأه غيري أو أتواطأه أنا فيموتُ، أيؤكل أم لا في قول مالكٍ؟ قال: قال مالكٌ: لا يؤكل.
          قلت: فإن أفردتَ الجرادَ فجعلتَه في غِرَارةٍ فماتَ فيها أيؤكل؟ قال: قال مالكٌ: لا يؤكَلُ إلَّا ما قطعتَ رأسَه فتركتَهُ حتَّى تطبخَهُ أو تَقْلِيه فإنْ أنت طرحتَهُ في النار أو سَلَقْتُهُ وهو حيٌّ مِن غير أن تقطَعَ رأسه فذلك حلالٌ أيضًا عند مالكٍ، ولا يؤكل الجرادُ إلَّا بما ذكرتُ لك مِن هذا.
          قلت: أرأيت إن أُخِذ فقطَعَ أجنحتَها وأَرْجُلَها ورَفَعَها حتَّى يَسْلُقَها فماتت أنأكلُها أم لا؟ قال: لم أسمع مِن مالكٍ في هذا شيئًا، إلَّا أنَّه قال: إذا قطَعَ أَرْجُلَها وأجنحتَها فماتت فلا بأسَ بأكلها.
          قلت: فحين أدخلَها في الغِرَارةِ أليس أنَّها ماتت مِن فِعْلهِ؟ قال: لم أرَ عند مالكٍ القتلةَ إلَّا بشيءٍ يَقْتلُها بها حالَ ما وصفتُ لك. وسُئِل اللَّيْث عن الجراد الذي يرمي به البحر فيُوجَد مجتمعًا كبيرًا في أصلِ شجرهِ ميِّتًا، فقال: أكره أكلَ الجرادِ مَيِّتًا، فأمَّا إذا أخذه وهو حيٌّ ثمَّ مات، فلا أرى بأكله بأسًا وإنَّما كرهته لأنَّ عُمَر وَدَاهُ وجعله صيدًا. قِيل له: فما أخذتَه حَيًّا فطرحتَهُ في القِدْر وهي تغلي بالنَّار؟ فقال: أحبُّ ذلك إليَّ أن يُتركَ حتَّى تسكُنَ وتذهبَ منه الخَثَلَة ثمَّ يُطَرح في الماء. قال: وسألته عن الجراد الميِّت في البحر هل يصلُحُ أكلُه؟ فقال: هو على كلِّ حالٍ بمنزلة الحيتان. وزعَمَ أنَّه ينقَّى منه إذا لم يُصَد حَيًّا، والذي يُصَاد حَيًّا لا يصلح أكلَهُ حتَّى يموت، وروى عُبَيْد اللهِ بن الحسنِ أنَّ ميِّت الجراد غير حرامٍ في البحر والبرِّ وأنا أَقْذِرُهُ. وعن الشَّافِعِيِّ في رواية الرَّبيع قال: ذوات الأرواح التي يحِلُّ أكلها صنفان: صِنفٌ لا يحِلُّ إلَّا بأن تذكِّيه مِن محِلِّ ذَكَاته، وصِنفٌ يحِلُّ بلا ذكاةٍ مَيْتةً أو مقتولةً إن شاء، وهو الحوتُ والجرادُ.
          وعند ابن أبي شَيْبَةَ ذكر لعُمَرَ ☺ جَرَادٌ بالرَّبَذَةِ فقال: وددِتُ أنَّ عندنا منه قَفْعَةً أو قَفعَتين، وقال إبراهيمُ: كان أُمَّهاتُ المؤمنين يَتَهادَين الجرادَ. وقد سلف. وعن الحسنِ بن سَعْدٍ عن أبيه أنَّه كان يُنقي لعليِّ بن أبي طالبٍ الجراد فيأكلُهُ، وفي لفظٍ: هو طيِّبٌ كصيدِ البحرِ.
          وقال سعيدُ بن المسيِّب: أكلَه عُمَر والمقدادُ بن الأسودِ، وعبد الله بن عُمَرَ وصُهَيْبٌ. وقال جابرُ بن زَيْدٍ: لقصعةُ جرادٍ أحبُّ إليَّ مِن قَصْعَةِ ثَرِيدٍ، وقال جَعْفَرُ بن مُحَمَّدٍ: بأكلهِ بأسًا، وقالت زينبُ بنت أبي سعيدٍ: كان أبي يرانا نأكلُهُ فلا ينهانا ولا يأكلُهُ فلا أدري تَقَذُّرًا منه أو يكرهُهُ، وقِيل لابن عُمَرَ: لمَ لَمْ تأكلْهُ؟ قال: أستصغرهُ، وفي رواية: تَقَذَّرهُ. وكان عَلْقَمَةُ لا يأكلُه، وعن أبي عُثْمَان النَّهْدِيِّ رَفَعهُ: ((لا آكلُهُ ولا أنهى عنه))، وقال كعبُ الحَبْر: هو حوتٌ.
          وقال عُرْوَة: هو نَثْرَةُ حُوتٍ، وعند الطَّبَرِيِّ، عن ابن عبَّاسٍ: هو ذَكِيٌّ حيُّه وميِّتُهُ، وقد سلف، وقال عَطَاءٌ: هو مِثلُ صيد البحْرِ.