التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر}

          ░12▒ بابُ قَوْلِ اللهِ ╡: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96]
          وقالَ عُمَرُ ☺: صيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، {وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] مَا رَمَى بِهِ. وَقَالَ أبو بَكْرٍ ☺: الطَّافِي حَلَالٌ. وَقَالَ ابن عبَّاسٍ: طَعَامُهُ: مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا، وَالْجِرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ اليَهُود وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ. وَقَالَ شُرَيحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلعم: كُلُّ شَيْءٍ فِي البَحْرِ مَذْبُوحٌ. وَقال عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرى أَنْ يَذْبَحَهُ. وَقَالَ ابن جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صيْدُ الأَنْهَارِ وَقِلَاتِ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثمَّ تَلَا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} الآية[فاطر:12]. وَرَكِبَ الحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ المَاءِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لأَطْعَمْتُهُمْ. وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا. وَقَالَ ابن عبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ نَصرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي المُرِي: ذَبَحَ الخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ.
          5493- 5494- ثُمَّ ساق حديث العَنْبَرِ مِن طريق ابن جُرَيْجٍ وسُفْيَانَ، عن عَمْرٍو، عن جَابِرٍ.
          الشَّرح: في الآية المذكورة خمسةُ أقوالٍ:
          أحدُها: قول عُمَرَ: (طَعَامُهُ: مَا رَمَى بِهِ) والهاء في (طَعَامُهُ) عائدةٌ على البحر، وكذلك في قول ابن عبَّاسٍ: طعامُهُ ما وَدَع؛ لأنَّه ينبت. وكذلك قول سَعِيد بن جُبَيْرٍ: طعامُهُ: المليحُ منه ما كان طريًّا، وقِيل: طعامُه: أكلُهُ، فالهاء في (طَعَامُهُ) على الصَّيد؛ لأنَّه كان يجوز أن يحِلَّ لنا صيدٌ دونَ أكلهِ ونحن حُرُمٌ، وكذلك في قولة مَن قال: (طَعَامُهُ): طعام الصَّيد، أي: قد أُحِلَّ لنا ما نجِدُ في جوفهِ مِن حوتٍ أو ضِفْدِعٍ.
          ونقل ابن بطَّالٍ عن ابن عبَّاسٍ: طعامُه: ما لفَظَهُ فألقَاهُ مَيِّتًا. وقال ابن عبَّاسٍ: أشهدُ على الصِّدِّيق لسمعتُهُ يقول: السَّمَكة الطافيةُ حلالٌ لمَن أكلَها، وقال: عن عُمَر وزيد بن ثابتٍ وعبد الله بن عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ ♥ مثل قول ابن عبَّاسٍ في تأويل الآية، ثمَّ روى القول الآخر عن ابن عبَّاسٍ فقال: ورُوي عن ابن عبَّاسٍ قولٌ آخرُ: (طَعَامُهُ): مملوحُهُ. وقال عن سَعيدِ بن المسيِّب والنَّخَعيِّ ومُجَاهِدٍ وابن جُبَيرٍ مثله، ومَن قال: (طَعَامُهُ): مملوحُهُ، كَرِه أكل ما طَفَا منه، ورُوي ذلك عن جَابِرٍ وابن عبَّاسٍ وعن طَاوُسٍ وابن سِيْرِينَ والكوفيِّين: لا يُؤكَل الطَّافي إذا ماتَ حَتْف أنفِه ولَفَظَهُ البحر ميِّتًا ولا يؤُكَل مِن البحر غير السَّمَك. وقال مالكٌ: يُؤكَل كلُّ حيوانٍ في البحر، وهو حلالٌ _حَيًّا كان أو مَيِّتًا_ وهو قول الأوْزَاعِيِّ وابن حزمٍ قال: سواءٌ وُجِد حَيًّا أو ميتًا طَفَا أو لم يَطْفُ أو قتلَهُ حيوانٌ برِّيٌّ أو بَحْرِيٌّ، أو مَجُوسِيٌّ، أو وَثَنيٌّ، أو غيرُهما، وسواءٌ خِنْزيرُ الماء وإنسانُهُ أو كلبُهُ / حلالٌ وخالفَ في ذلك أبو حنيفة وقاله أيضًا اللَّيْث، وأجاز الشَّافِعِيُّ خِنْزيرَ الماء، وكرهه مالكٌ أي: مِن غير تحريمٍ. قاله ابن القَصَّار، وكذا قال ابن القاسم: لا أُراه حرامًا.
          وحديث الباب حُجَّةٌ على الكوفيِّين ومَن وافقهم، لأنَّ أبا عُبَيْدَة في أصحاب رسول الله صلعم أكلوا الحوتَ الذي لَفَظَه البحرُ ميِّتًا، ولا يجوز أن يَخْفى عليهم وجهُ الصَّواب في ذلك وأكلوا المَيْتَة وهم ثلاثمئة رجلٍ.
          وقال بعض المالكيَّةُ: إنَّهم لم يأكلوه على وجهِ ما يُؤكَل عليه المَيْتَة عند الضَّرورة إليها، وذلك أنَّهم أقاموا عليه أيَّامًا يأكلون منه والمضطرُّ إلى المَيْتَة إنَّما يأكل منها ثمَّ يَنْتَقِلُ بطلب المباحِ.
          وقولُه: ({أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}) يقتضي عُمُومه إباحة كلِّ ما في البحر مِن جميع الحيوان حوتًا كان أو غيرَه ممَّا يُصْطَاد خِنْزيرًا كان أو كلبًا أو ضِفْدعًا، ويشهدُ لذلك الحديث المشهور ((هو الطَّهُور ماؤهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ)) أخرجه أصحاب السُّنن الأربعة مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، وصححه التِّرْمِذيُّ والبُخَارِيُّ وابن خُزَيمة وابن حِبَّان وابن السَّكَن، وأخرجه أحمدُ وابن ماجه وابن حِبَّانَ مِن حديثِ جابر، وهذا أصحُّ ما في الباب.
          فأطلقَ على جميع مَيْتَتِهِ وأباحَها؛ فسقط قول الكوفيِّين، ويُزيل ما قد يتوهَّم أنَّ الشَّارع قد أكل منه في المدينة بعد ما قَدِموا وأخبروه بذلك كما سيأتي، وقد قال الصِّدِّيق: كلُّ دابَّةٍ في البحر فقد ذَكَّاها الله لكم. ولم يخُصَّ ولا مخالفَ، وأيضًا فإنَّ البحرَ لَمَّا عُفي عن الذَّكَاة فيما يخرج منه عُفِي عن مراعاة صورها وبعضُها كصور الحيَّاتِ، وكذا صورة الدَّابَّة التي يُقَال لها العَنْبَر خارجةٌ عن عادات السَّمَك ولم يحرُم أكلُها، وأيضًا فإنَّ اسمَ سَبُعٍ وكلبٍ وخِنْزيرٍ لا يتناول حيوان الماء؛ لأنَّك تقول: خِنْزِير الماء، وكَلْب الماء بالإضافة، والخنزير المحرَّم مطلقٌ للتناول إلَّا ما كان في البرِّ خاصَّةً، وكذلك الجِرِّيُّ داخلٌ في صيد البحر، ولم تُروَ كراهتُه إلَّا عن عليٍّ بإسنادٍ لا يصحُّ، وأجازه الكوفيُّون لأنَّه داخلٌ في عُمُوم السَّمَك وحرَّمُوا الضَّفَادِع، وبه قال الشَّافِعِيُّ.
          قلت: إنَّما يحرُمُ عندنا حيث كانت تعيش في برٍّ وبحرٍ، وكذا السَّرَطَانُ والحيَّة، والأصحُّ عندنا أنَّ كلَّ ما في البحر يُطلَق عليه اسم السَّمَك.
          فَصْلٌ: وأثر أبي بَكْرٍ ☺: الطَّافي حلالٌ. أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ، عن وكيعٍ، عن سُفْيَانَ، عن عبد الملك بن أبي بَشِيرٍ، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ قال: أشهدُ على أبي بَكْرٍ أنَّه قال: السَّمَكة الطافية على الماء حلالٌ. زاد الطَّحَاويُّ في «كتاب الصَّيد»: لمن أراد أكلَهُ.
          وروى الدَّارقُطْنِيُّ مِن حديثِ مُوسَى بن داودَ: حَدَّثَنا حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن عَمْرو بن دِيْنَارٍ قال: سمعت شيخًا يُكنى أبا عبد الرَّحْمَن: سمعتُ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيق يقول: ما في البحر مِن شيءٍ إلَّا قد ذكَّاه الله لكم، ومِن حديثِ عبَّاد بن يَعْقُوب، حَدَّثَنا شَرِيكٌ، عن أبي بشرٍ، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ ☻: سمعتُ أبا بَكْرٍ ☺ يقول: إنَّ الله قد ذبَحَ لكم ما في البحر فكلُوهُ كلَّهُ، فإنَّه ذكيٌّ، وفي لفظٍ: أشهدُ على أبي بَكْرٍ أنَّه أكل السَّمَك الطافي على الماءِ.
          فائِدَةٌ: الطَّافي: ما عَلَا الماء ولم يرسُب، وهو غير مهموزٍ مِن طَفَا يَطْفُو.
          فَصْلٌ: وأثر ابن عبَّاسٍ: طعامهُ: مَيْتَتهُ إلَّا ما قَذِرتَ منها. أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ، عن حاتمِ بن إسماعيلَ، عن مُحَمَّد بن صَخْرٍ، عن مُحَمَّد بن كَعْبٍ عنه وذكر قولَه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] ما ألقى البحر على ظَهْره ميِّتًا وفي رواية أبي مِجْلَزٍ عنه: طعامه ما قَذَف.
          فَصْلٌ: وقولُه: (وَالْجِرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ اليَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ). هو بفتح الجيم كما ذكره عِيَاضٌ، وفيه الكسر أيضًا، وبه ضبطه الدِّمْيَاطِيّ بِخَطِّه، وهو ما لا قِشْرَ له مِن الحُوتِ وهذا عن ابن عبَّاسٍ أيضًا أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ مِن حديثِ عبد الكريم، عن عِكْرِمَةَ، سئل ابن عبَّاسٍ عن الْجِرِّيِّ، فقال: لا بأسَ به إنَّما يحرِّمُه اليَهُود ونحن نأكلُهُ.
          وعن عليِّ بن أبي طالبٍ وذُكِر الْجِرِّيُّ: كثيرٌ طيِّبٌ يُشبع العِيَال. وفي لفظٍ آخر: نأكلُه ولا نرى به بأسًا، وعنه: أنَّه كرهه. وعن إبراهيم: لا بأسَ به وعليك بأذنابهِ. وفي لفظٍ: لا بأس بالجِرِّيثِ. وقال سَعِيد بن جُبَيْرٍ: هو مِن السَّمَك إن أعجبكَ كُلْهُ.
          ولَمَّا سُئل ابن الحَنَفيَّة عن الْجِرِّيِّ والطِّحَال وأشباههما ممَّا يُكره أكلُهُ: تلا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام:145] وقال عَطَاءٌ: لَمَّا سُئل عن الْجِرِّيِّ: كلُّ ذنبٍ سمينٍ منه.
          وقال الحسنُ: هو مِن صيد البحر لا بأسَ به وبالمرماهيك وفي لفظٍ: لا يرى بأكل الجِرِّيث بأسًا. وإلى أكلهِ ذهبَ مالكٌ وأصحابُهُ، وقال ابن حَبِيبٍ: أنا أكرهُه؛ لأنَّه يُقَال: إنَّه مِن المسُوخِ. وفي «الغريبين»: الجِرِّيُّ: الجِرِّيث أراه الحوتَ هو المرماهي وهو نوعٌ مِن السَّمَك.
          ورُوِّينا في «مُسند إسحاقَ بن رَاهَوَيهِ»: حَدَّثَنا النَّضْر بن شُمَيلٍ، حَدَّثَنا أبو مُحَمَّدٍ العَاقلانيُّ، عن هَمَّامٍ، عن رَجُلٍ سمَّاهُ قال: رأيتُ عمَّارَ بن يَاسِرٍ على بغلةِ رسول الله صلعم البيضاء، فأتى اللَّحَّامين فقال: إنِّي رَسُولُ رَسُولِ الله صلعم إليكم أنْ لا تأكلوا الحَشَا. قال النَّضْرُ: يعني: الطِّحَالَ قال: وأتى السمَّاكين فقال: إنِّي رَسُولُ رَسُولِ الله صلعم إليكم لا تأكلوا السِّلَّوْرَ والأَنْقَلِيسَ. قال النَّضْرُ: يريد أحدهما: الجِرِّيَّ، والآخر: المرماهي.
          قال الأَزْهَرِيُّ: المَارْمَاهِي بالفارسيَّةِ، وهو لغةٌ في الجِرِّيث وهو: نوعٌ مِن السَّمَك يُشبِهُ الحيَّات، وقِيل: سمكٌ لا قِشْرَ له. والأَنْقَلِيس شَبه الحيَّات رَدِيءُ الغِذاء، وهي: المرمَاهِي والسِّلَّور مِثْله.
          فَصْلٌ: وقولُه: (وَقَال شُرَيحٌ صَاحِبُ رَسُولِ الله صلعم: كُلُّ شَيْءٍ فِي البَحْرِ مَذْبُوحٌ).
          أخرجه أبو نُعَيمٍ في كتاب «الصَّحابة» حَدَّثَنا الحُسَينُ بن مُحَمَّد بن عليٍّ، حَدَّثَنا القاسمُ الكَوْكبيُّ، حَدَّثَنا خالدُ بن سُلَيْمَانَ الصَّدَفِيُّ، حَدَّثَنا أبو عَاصِمٍ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن أبي الزُّبَير، عن شُرَيح بن أبي شُرَيحٍ الحِجَازيِّ وكان مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلعم قال رسول الله صلعم: ((إنَّ اللهَ جلَّ وعزَّ ذبحَ ما في البحر لبني آدَمَ)). قال أبو نُعَيمٍ: كذا رواه خالدٌ، عن أبي عاصِمٍ مرفوعًا، ورواه مُسَدَّدٌ، عن يحيى بن سَعِيدٍ، عن ابن / جُرَيْجٍ موقوفًا، ورواه عبد الوَهَّاب بن نَجْدَة، عن شُعَيب بن إسحاقَ، عن ابن جُرَيْجٍ كذلك، ولَمَّا روى الدَّارقُطْنِيُّ هذا الحديث مرفوعًا قال فيه: عن أبي شُرَيحٍ. وروى ابن أبي عاصِمٍ في «الأطعمة» بإسنادٍ جَيِّدٍ، عن عَمْرو بن دِيْنَارٍ قال: سمعتُ شيخًا كبيرًا يحلِفُ بالله ما في البحر دابَّةٌ إلَّا قد ذبَحَها الله لبني آدَمَ.
          قال سُفْيَانُ _الرَّاوي عنه_: قال غيرُه: أبو شُرَيحٍ الخُزَاعيُّ.
          وقال الجَيَّانيُّ: هذا التَّعليق لم يكن في رواية أبي زيدٍ وأبي أحمدَ وأبي عليٍّ، وفي أصل أبي مُحَمَّدٍ: وقال أبو شُرَيحٍ، وهو وَهَمٌ، والحديث محفوظٌ لشُرَيحٍ لا لأبي شُرَيحٍ، وكذا ذكره البُخَارِيُّ في «تاريخه» عن مُسَدَّدٍ، حَدَّثَنا يحيى بن سَعِيدٍ، عن ابن جُرَيْجٍ، أخبرني عَمْرٌو وأبو الزُّبَير؛ سمعا شُرَيحًا.
          فَائِدَةٌ:
          شُرَيحٌ هذا صحابيٌّ _كما جزم به البُخَارِيُّ_ حِجَازيٌّ روى عنه أبو الزُّبَير وعَمْرو بن دِيْنَارٍ سمعاه يُحدِّثُ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق قال: كلُّ شيءٍ في البحرِ مذبوحٌ، ذَبَح الله لكم كلَّ دابَّةٍ خَلَقَها في البحر. قال أبو الزُّبَير وعَمْرو بن دِيْنَارٍ: وكان شُرَيحٌ هذا قد أدرك النَّبِيَّ صلعم.
          قال أبو حاتِمٍ: له صُحْبَةٌ. وذكره في «الاستيعاب» ولا يُعَرف له غيرُه.
          فائِدَةٌ أخرى: هذا المتنُ مرويٌّ مِن طريقٍ آخرَ أخرجه الدَّارقُطْنِيُّ مِن حديثِ إبراهيم الخُوزِيِّ، عن عَمْرو بن دِيْنَارٍ، عن عبد الله بن سَرْجِسَ قال النَّبِيُّ صلعم: ((إنَّ الله قد ذَبَح كلَّ نُونٍ في البحر لبني آدَمَ)).
          فَصْلٌ: وأثر عَطَاءٍ: أمَّا الطَّير فأرى أن يذبحَهُ. أخرجه ابن مَنْدَه في «الصَّحابة» إثر حديث شُرَيحٍ المتقدِّم مِن طريق ابن جُرَيْجٍ، فقال: فذكرتُ ذلك لعَطَاءٍ فذكره.
          وهو قول مالكٍ، وذكر الشيخ أبو الحسن، عن عَطَاءٍ أنَّه قال: حيث يكون البرُّ فهو مِن صَيْده، فجعله داخلًا في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96].
          فَصْلٌ: وقول ابن جُرَيْجٍ، عن عَطَاءٍ أخرجه أبو قُرَّةَ مُوسَى بن طَارِقٍ السَّكْسَكِيُّ في «سُننه» عنه.
          والقِلات _بالمُثَنَّاة فوق_: النُّقْرةُ في الصَّخرة، ذكره في «المجمل». وفي «الصِّحَاح»: نُقْرَةٌ في الجبل يُسْتَنقع فيها الماءُ إذا نَضَب السَّيلُ، وقَلْتُ العينِ: نقرتُها. وعبارة ابن التِّين: والقِلَات: جمع قَلْت، كبحرٍ وبِحَارٍ. ثُمَّ ساق ما ذكرناه، وعبارة ابن بطَّالٍ: القِلات: جمع قَلْتٍ، والقَلْتُ: نقرة في حجرٍ يحفرُها السَّيل وكلُّ نُقْرةٍ في الجبل أو غيره قَلْت؛ وإنَّما أراد ما ساقَ السَّيل مِن الماء وبقي في الغُدر الصَّغار، وكان فيها حيتان.
          فَصْلٌ: (وَرَكِبَ الحَسَنُ) على ما ذكر، لا يحضرني، وكذا أثر الشَّعْبِيِّ في الضِّفْدِع. وفي أبي داودَ والنَّسائيِّ و«مستدرك الحاكم»، وقال: صحيح الإسناد مِن حديثِ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَانَ بن عُبَيْد الله التَّيْمِيِّ الصحابيِّ، وهو ابن أخي طَلْحَة بن عُبَيْد الله ☺ قال: ذكرَ طبيبٌ عند رسول الله صلعم دواءً وذكر الضِّفْدِع يُجعَل فيه، فنهى النَّبِيُّ صلعم عن قتْلِ الضِّفْدِع، قال البَيْهَقِيُّ: وهذا أقوى ما رُوي في النَّهي عن قتلِهِ.
          ورواه الدَّارِمِيُّ في كتاب «الأطعمة» عن ابن عُمَرَ مرفوعًا مثله، قال الدَّارِمِيُّ: فيُكرَهُ أكلُهُ إذا نُهِي عن قتلِهِ لأنَّه لا يمكن أكلُهُ إلَّا مقتولًا، فإن أُكِل غيرَ مقتولٍ فهو مَيْتةٌ، وزعم ابن حزمٍ أنَّه لا يحِلُّ أكلُها لأنَّه ◙ نهى عن ذبحها، وكذا قال الطَّحَاويُّ في «مُشكله»: فيه دليلٌ على أنَّهُ لا يؤكل وأنَّه بخِلافِ السَّمَك ودلَّ على أنَّ ما في البحر مِن خِلاف السَّمَك لا يُقتل ولا يؤُكل وقد جاء أنَّ نَقيقَها تسبيحٌ فلمَّا لم تؤكل فقتلُها عَبَثٌ، وادَّعى ابن رُشدٍ أنَّه يحتمل أن يكونوا أرادوا قتلَهُ على صفةٍ لا يجوز قتلُهُ بها لِمَا فيه مِن تعذيبٍ، فنُهِي عن ذلك لذلك، لا لأنَّه لا يؤكل. قال: فلا حُجَّةَ فيه إذًا على مالكٍ في إجازة أكل دوابِّ البحرِ.
          فَصْلٌ: لم يبيِّن الشَّعْبِيُّ هل تُذكَّى الضَّفَادع أم لا؟ واختلف مذهب مالكٍ في ذلك فقال ابن القاسم في «المدوَّنة» عن مالكٍ: أكلُ الضِّفْدِع والسَّرَطانِ والسُّلَحْفَاةِ جائزٌ مِن غير ذَكَاةٍ، وروى عيسى عن ابن القاسم: ما كان مأواه الماء يُؤكَل مِن غير ذكاةٍ وإن كان يَرعى في البرِّ، وما كان مأواه ومستقرُّهُ البرَّ فلا يؤكل إلَّا بذكاةٍ، وإن يعني في الماء. وعن مُحَمَّد بن إبْرَاهِيمَ بن دِيْنَارٍ فيهما: لا يؤكلان إلَّا بذكاةٍ.
          قال ابن التِّين: وهو قول أبي حنيفةَ والشَّافِعِيِّ. كذا نُقِل عن الشَّافِعِيِّ.
          فَصْلٌ: ذكَرَ الجَاحِظُ في «الحيوان» في النَّهي عن قتلِها مِن حديثِ ابن المسيِّب، عن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيمي أنَّه ◙ نهى عن قتلِها، ومِن حديثِ زُرَارة أنَّه سمع عبد الله بن عَمْروٍ يقول: لا تسبُّوا الضَّفَادع فإنَّ أصواتها تسبيحٌ. وفي لفظٍ: فإنَّ نَقِيقهنَّ تسبيحٌ. قال: والضِّفْدِعُ لا يصيحُ ولا يمكنُهُ الصِّياح حتَّى يُدخِل حَنَكَه الأسفل في الماء، وهي مِن الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيضُ في الشطِّ مثل الرَّقِّ والسُّلَحْفَاةِ وأشباه ذلك، وهي تنِقُّ فإذا أبصرتِ النَّارَ أَمْسَكَت، وهي مِن الحيوان الذي يُخلَقُ مِن أرحام الحيوان، ومِن أرحام الأرضيِّين إذا لقَّحتها المياه، وأمَّا قول مَن قال: إنَّها مِن السَّحاب فَكَذِبٌ، وهي لا عِظَام لها، وتزعُمُ الأعراب في خُرافاتها أنَّها كانت ذا ذَنَبٍ وأنَّ الضَّبَّ سَلَبَه إيَّاه، وتقول العرب: لا يكون ذلك حتَّى يَجمع بين الضَّبِّ والنُّون. وحتَّى يَجمع بين الضِّفْدِع والضَّبِّ. والضِّفْدِعُ أجحظُ الخَلْق عَيْنًا ويصبرُ عن الماء الأيَام الصَّالحة وهي تعظُمُ ولا تَسْمَنُ كالأرنب. والأسد يَنْتَابها في الشَّرائع فيأكلُها أكلًا شديدًا، والحيَّاتُ تأتي مَنَاقعَ الماء لطلبِها ويُقَال له: يَنِقُّ ويَهْدِرُ.
          فَصْلٌ آخرُ: في لُغَاتهِ، حكى ابن سِيدَه فيه كسر الدَّال وفتحها مع كسر الضَّاد وقال: هما فصيحتان، وقال الأَزْهَرِيُّ في الفتح: إنَّها لغةٌ قبيحةٌ. وأنكره غيره أيضًا والأنثى ضِفْدِعَةٌ. وفي «الصِّحَاح»: وناسٌ يقولون ضِفْدَع بفتح الدَّال، وقد زعَمَ الخليل أنَّه ليس في الكلام فِعْلَل إلَّا أربعة أحرف: دِرْهَم، وهِجْرَع _وهو الطويل_ وَهِبْلَع وقِلْعَم _وهو اسم جبلٍ_ وهو الأكولُ، زاد غيره: الضِّفْدَع كما ذكرنا، وجزم صاحب «ديوان الأدب» بكسر الضَّاد والدَّال، وحكى ابن السِّيْد في «الاقتضاب» ضمَّ الضَّاد وفتح الدَّال، وهو نادرٌ، وحكى ابن دِحْيَةَ ضمَّهما.
          فَرْعٌ: في «القُنية» للحنفيَّة: دودُ لحمٍ وقعَ في مَرَقهِ لا تَنْجُس وكذا الضِّفْدِع إذا ماتت في الماء، وعن مُحَمَّدٍ: إذا انقطعَ عنه أكرهه على وجه التَّحريم. وعندنا / إذا ماتَ ما لا نفْسَ له سائلة في الماء والطَّعام لا ينجِّسُهُ على الأظهر؛ لكن الضِّفْدِع ممَّا يسيل دمُه على الأصحِّ، وقال ابن نافِعٍ: مَيْتةٌ نَجِسةٌ وكذا ىىات فيه.
          فَصْلٌ: قولُه: (وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ، عن ابن مَهْدِيٍّ، عن مُبَاركٍ عنه، ومِن حديثِ يزيدَ بن أبي زِيَادٍ، عن أبي جَعْفَرٍ: أنَّه رأى سُلَحْفَاةً فأكلَها، ومِن حديثِ أشعَثَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺: كان فقهاء يُغَالون في شراء الرَّقِّ حتَّى يبلُغَ ثمنُها دينارًا، ومِن حديثِ حجَّاجٍ، عن عَطَاءٍ: لا بأسَ يأكلُها _يعني السُّلَحْفَاة_. وزعم ابن حزمٍ أنَّها لا تَحِلُّ إلَّا بذكاةٍ وأكلُها حلالٌ بريُّها وبحريُّها وأكلُ بيضِها، ورُوِّينا عن عَطَاءٍ إباحة أكلها. كذا عن طَاوُسٍ ومُحَمَّد بن عليٍّ وفقهاء المدينة أيضًا.
          وروى مُحَمَّد بن دِيْنَارٍ، عن مالكٍ: لا تؤكل إلَّا بذكاةٍ، وروى ابن القاسم عنه أكلها، والضِّفْدِعُ والسَّرَطانُ جائزٌ مِن غير ذَكَاةٍ، وفي «مختصر الوقار»: تُسْتَحبُّ ذَكَاتُها لأنَّ لها في البرِّ رعيًا، وقال: تلك عند مُحَمَّدٍ، وهي ترس صغيرٌ يكون صيد البراري، وأمَّا أبو حنيفةَ فَكِرَه أكلها، وقال مُقَاتِلٌ: إنَّها مِن المُسُوخ.
          فائدَةٌ: هي بفتح اللام كما ذكره في «الصِّحَاح» وقدَّمَ ذلك في «المحكم» وحُكِي إسكانُها وحُكِي إسقاط الهاء، وقال: إنَّها مِن دوابِّ الماء، وقِيل: هي الأنثى مِن الغَيَالمِ. وحَكَى الرُّؤاسيُّ سُلَحْفِية مثال بُلَهْنِيةٍ وهو ملحقٌ بالخُمَاسيِّ بألفٍ، وإنَّما صارت ياءً لكسرة ما قبلَها.
          فَصْلٌ: وأمَّا قول ابن عبَّاسٍ: (كُلْ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ) إلى آخرِه، فهو قول جمهور العلماء؛ لأنَّ طعام البحر مَيْتةٌ ولا يُحتاج فيه إلى ذَكَاةٍ، وقال الحسنُ فيما ذكره سَعِيدِ بن مَنْصُورٍ، عن إسماعيلَ بن عيَّاشٍ، عن عُبَيْد الله بن عُبَيدٍ الكَلَاعيِّ، عن سُلَيْمَانَ بن مُوسَى عنه: أدرك سبعين رجلًا مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلعم كلُّهم يأكل صيدَ المَجُوسيِّ الحيتانَ، وما يتخلَّى في صدورهم منه شيءٌ، ورُوي ذلك عن عَطَاءٍ والنَّخَعيِّ، وهو قول الأربعة والأوْزَاعِيِّ وإسحاقَ وأبي ثورٍ، وروى ابن أبي شَيْبَةَ مِن حديثِ عيسى بن عاصِمٍ، عن عليٍّ أنَّه كره صيد المَجُوسيِّ للسَّمك، وعن عَطَاءٍ وسَعِيد بن جُبَيْرٍ مثله بإسنادٍ جَيِّدٍ، وقول ابن عبَّاسٍ: (كُلْ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ) يؤخَذُ منه أنَّ صيد البرِّ لا يُؤكَل إن صادوه، وكذا هو في «المدوَّنة» وأجازه أشهبُ في اليَهُوديِّ والنَّصْرانيِّ.
          فَصْلٌ: وقول أبي الدَّرْدَاءِ: (ذَبَحَ الخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْس) كذا ذكره معلَّقًا بصيغة الجزم، وابن أبي شَيْبَةَ أخرجه مِن طريق مَكْحُول عنه، ولم يَسْمع منه، ورُوي عن مَكْحُول بإسنادٍ جَيِّدٍ أنه كان يكرهُ المُرِي يُجعَلُ فيه الخمر. قال أبو ذرٍّ: إذا طُرِحت النِّينَانُ في الخَمْر ذبحتْه وحوَّلته وصار مُرِيًا، وكذلك إذا تُرِك في الشَّمْس، وكذا قال ابن أبي صُفْرَة ومعناه أنَّ الخمْرَ تُطرَح في الحيتان حتَّى يصير مُرِيًا، فكأنَّ الحيتان والشَّمْس ذكاةُ الخمرِ وذبحُها الذي يحلِّلها ويحتجُّ به مَن يُجَوِّز تخليل الخمر، وقد سبق في البيوع ما فيه، وقال الحَرِيميُّ: هو مُرِيٌّ يُعمل بالشام يؤخَذُ الخمر فيُجعَل فيها الملح والسَّمَك ويُوضَع في الشَّمْس فيغيِّر طعمَهُ إلى طعم المُرِي، يقول: كما أنَّ الْمَيْتَةَ والخَمْرَ حرامان والتذكية تُحِلُّ الميتَةَ بالذَّبْح فكذلك الملْحِ.
          والنِّينَان، بكسر النون الأولى ثمَّ مُثَنَّاة تحت ثمَّ نونٍ أخرى ثمَّ ألفٍ ثمَّ نونٍ، جمع نُونٍ: وهو: الحوتُ، كعُود وعِيدَان. والمُري، بضمِّ الميم وسكون الرَّاء. وفي «الصِّحَاح»: المُرِّي الذي يُؤتَدمُ كأنَّه منسوبٌ إلى المَرَارَة والعامَّةُ تخفِّفه وأنشدَ:
وَعَنْدَها المُرِّيُّ والكَامَخُ
          ومالكٌ في «المدوَّنة» كره هذا، وقال ابن حَبِيبٍ: هو حرامٌ.
          وسُئِل الحافظ أبو مُوسَى المَدِينيُّ عنه فقال: عبَّر عن قُوَّة الملْحِ والشَّمْس وغَلَبَتهما على الخَمْر وإزالتِهما طَعْمِهما ورَيْحِها بالذَّبح، وإنَّما ذكر النِّينَان دون الملحِ؛ لأنَّ المقصودَ مِن ذلك هي دونَ الملْحِ وغيره الذي فيها، ولا يُسمَّى المعمول مِن ذلك إلَّا باسمِها دونَ ما أُضِيف إليها، ولم يُرِد به أنَّ النِّينَانَ وحدَها هي التي حلَّلتهُ.
          وذهب البُخَارِيُّ إلى ظاهر اللَّفظ وأوردَهُ في طهارة صيد البحر وتحليلِه مريدًا أنَّ السَّمَك طاهرٌ حلالٌ، وأنَّ طهارته وحِلَّه يتعدَّى إلى غيره كالملْحِ حتَّى تصيرَ الخمر الحرام النَّجِسة بإضافته إليها طاهرةً حلالًا، وكان أبو الدَّرْداءِ ممَّن يُفتي بتحليل تخليل الخمر، وقال: إنَّ السَّمَك بالآلة التي أُضيفت إليه مِن الملح وغيره قد غَلَب على ضَرَاوة الخمر التي كانت فيها وزال شِدَّتها، كما أنَّ الشَّمْس تؤثِّر في تخليلِها فصارت خَلًّا لا بأس به، فالخمرُ مفعولٌ مقدَّمٌ، والنِّينَان والشَّمْسُ فاعلان له.
          ومعناه أنَّ أهل الرِّيف بالشام وغيرِها قد يَعْجِنُون المُرِي بالخَمْرِ وربُّما يجعلون فيه أيضًا السَّمَك المُرِي بالمِلْح والأبزار نحو ما يسمُّونه الصَّحناء، إذ القصْدُ مِن المُرِي وأكلهِ هَضْمُ الطَّعام، فَيُضِيفُون إليه كلَّ ثقيفٍ وحِرِّيفٍ ليزيد في جَلَاء المَعِدة واستدعاءِ الطَّعام بثقافتِه وحَرَافتِهِ، وكان أبو هُرَيْرَةَ وأبو الدَّرداء وابن عبَّاسٍ وغيرُهم مِن التَابعين يأكلون هذا المُرِي المعمول بالخَمْر ولا يرون به بأسًا ويقول أبو الدَّرداء: إنَّما حرَّم الله الخمر بعينِها وسَكَرَها، وما ذبحتْه الشَّمْسُ والمِلْح فنحن نأكلُهُ لا نرى به بأسًا.
          فَصْلٌ: حديث العَنْبرِ سلف في المغازي، والخَبَطُ: اسم ما خُبط مِن القِشْر والوَرقِ وهو مِن عَلَف الإبل، وكان أميرُهم أبو عُبَيْدَة كما ذكرَه هنا أيضًا، وهو ثابتٌ في مُسْلِمٍ وغيرِه، ووقع في كتاب «الأطعمة» لابن أبي عاصِمٍ مِن حديثِ جابِرٍ أنَّ الأمير عليهم يومئذٍ قيسُ بن سَعْدِ بن عُبَادةَ وهو عجيبٌ، فإنَّه الذي ذبَحَ لهم عند المَخْمَصَةِ جَزُورًا بعد جَزُورٍ فقط وهو المشار إليه في البُخَارِيِّ: وكان فينا رَجُلٌ، فلمَّا اشتدَّ بنا الجوع نَحَر ثلاثَ جَزَائرَ.. إلى آخرِه.
          فَصْلٌ: مِن الأحاديث الضَّعيفة ما أخرجه الدَّارقُطْنِيُّ وضَعَّفه عن جَابِرٍ ☺ مرفوعًا: / ((كُلُوا ما حُسِر عنه البحر وما ألقاهُ، وما وجدتموه طافيًا فوق الماء أو مَيِّتًا فلا تأكلوه))، ثمَّ رواه مِن حديثِ أبي الزُّبَير عنه مرفوعًا ((إذا طَفَا فلا تأكله، وإذا جَزَرَ عنه فَكُلْهُ، وإذا كان على حَافَتيِّهِ فَكُلْه)) ثمَّ صوَّبَ وَقْفه، وقال عبد الحقِّ: إنَّما يرويه الثِّقاتُ مِن قول جابرٍ وإنَّما أسندَهُ مِن وجهٍ ضعيفٍ.
          فَصْلٌ مُلْحَقٌ بالطَّافي:
          قال ابن حزمٍ: بقي قولٌ لبعضٍ في تحريم الطَّافي مِن السَّمَك، رُوِّينا عن جَابِرٍ ومِن طريق سعيد بن مَنْصُورٍ، حَدَّثَنا ابن فُضَيلٍ، أخبرنا عطاءُ بن السَّائِب، عن مَيْسَرةَ، عن عليٍّ ☺ قال: ما طَفَا مِن صيد البحر فلا تأكلوه. ولا يصحُّ لأنَّ ابن فُضَيلٍ لم يسمع مِن عَطَاءٍ إلَّا بعد اختلاطِهِ، ومِن طريق عبد الرَّزَّاق، عن الثَّوريِّ، عن الأَجْلَح، عن عبد الله بن أبي الهُذَيْل سمَعَ ابن عبَّاسٍ وذكر صيد البحر لا تأكل منه طافيًا. قال: والأجْلَحُ ليس بالقَويِّ _قلت: قد وُثِّق أيضًا_ ومِن طريق يحيى بن سَعِيدٍ القطَّان، عن ابن أبي عَرُوْبَة، عن قَتَادَةَ، عن ابن المسيِّب: ما طَفَا فلا تأكل. وصحَّ عن الحسَنِ ومُحَمَّدٍ وجابر بن زَيْدٍ والنَّخَعيِّ: أنَّهم كرهوا الطَّافي مِن السَّمَك، وبتحريمِه يقول الحسنُ بن حَيٍّ.
          ورُوي عن سُفْيَانَ بن سَعِيدٍ فيما في البحر ممَّا عدا السَّمَك قولان: يؤكل، لا يُؤكَل حتَّى يُذبَح. يُبْطِلهما حديث العَنْبَرِ وليس سمكًا وهو مَيْتَتهُ.
          قلتُ: في نفْسِ الحديث: (فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ) ولا يقدِرُ أحدٌ أن يقول: الحوتُ ليس سمكًا، وعند سعيد بن مَنْصُورٍ: حَدَّثَنا إسماعيلُ بن عيَّاشٍ، حَدَّثَني عبد العزيز بن عُبَيْد الله بن حَمْزَة بن صُهَيْبٍ، عن وَهْب بن كَيْسَانَ، عن نُعيمٍ الْمُجْمِر، عن جَابِرٍ مثله، قال ابن حزمٍ: هذا ضعيفٌ. لأنَّ في إسناده ابن عيَّاشٍ وهو ضعيفٌ، وللدَّارَقُطنيِّ بإسنادٍ جَيِّدٍ أنَّ أبا أيُّوب سُئِل عن سمكةٍ طافيةٍ على الماء فقال: أطيِّبَةٌ هي لم تتغيَّر؟ قالوا: نعم، قال: فَكُلُوها وارفعوا لي نَصِيبي وكان صائمًا، وبنحوه قال أبو طَلْحَةَ الأنصاريُّ، وفي سندِه ضعْفٌ.
          وسلكَ الطَّحَاويُّ مسلكًا ليس بجيِّدٍ فطعَنَ في حديث أبي هُرَيْرَةَ السَّالف ((الحِلُّ مَيْتَتُهُ)) فقال: ذهب الشَّافِعِيُّ ومالكٌ إليه وهو حديثٌ قد اضطربَ في إسنادِه اضطرابًا لا يصلُحُ الاحتجاجُ به.
          كذا قال، وقد بيَّنتُ في تخريجي لأحاديث الرَّافعيِّ أنَّه لا يقدَحُ، قال: ولو صحَّحناهُ لم يكن فيه ما يُخَالف حديث جابرٍ، لأنَّ الذي فيه مِن المَيْتة يحتمل أن يكون مِن المَيْتَة التي أباحها في حديث جابِرٍ، فيلتئمُ الحديثان فيكون ما في حديث جابرٍ مِن الطافي زِيَادةً على ما في الحديث الآخر مِن تحليل المَيْتة، وأمَّا ما سلف عن أبي طَلْحَة وغيرِه فقد خالفَهما فيه عليٌّ وجابرٌ، والأولى بما اختلف مِن الصَّحابة ما وافقَ ما رُوي عن رسول الله صلعم وهو النَّهيُ لا الإباحةُ.
          قلت: لا نُسلِّمهُ. قال: وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ: آتي البحر فأجِدُهُ قد حمل سمكًا ميِّتًا؟ فقال: لا تأكل المَيْتَة. فقد عاد قول ابن عبَّاسٍ إلى كراهة أكل طافي السَّمَك.
          قال ابن رُشدٍ: والصَّواب في هذا ما ذهب إليه مالكٌ، ويُحمَل ما رُوي عن رسول الله صلعم مِن النَّهي عن أكل الطَّافي وعمَّن روى ذلك عنه مِن الصَّحابة على الكراهة دون التحريم، فَتَتَّفقُ الأقوال.
          قلت: الحقُّ حِلُّهُ فإنَّ الله تعالى قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] وقد فسَّر عُمَر بن الخطَّاب وابن عبَّاسٍ بأنَّ طعامَهُ: ما رمى به، وهما مِن أهل اللِّسان، وقال رسولُه: ((الحِلُّ مَيْتَتُه)) وأقرَّهم على أكل العَنْبرِ، وأكل منه بالمدينة ولا مَعْدِلَ عن ذلك، واسم الْمَيْتَة شرعًا: ما زالَ عنه الحياةُ لا بِذَكَاةٍ شرعيَّةٍ، وقد قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] ومِن القياس: سمكٌ لو ماتَ في البرِّ حلَّ، وكذا البحر أصلُهُ إذا مات بسبب حرٍّ أو بردٍ أو نَضَب الماء عنه أو قتلتْهُ سمكةٌ أخرى أو يُؤخَذ فيموت، وقد وافق أبو حنيفة على كلِّ ذلك.
          فَصْلٌ: قولُه في حديث جابرٍ (نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْش) هو بفتح النون مِن نَرْصُدُ أي: نَرْقُبُ، وأرصد: رُبَاعيٌّ إذا أعدَّ شيئًا.
          وقولُه: ((نَحَر ثلاثَ جَزَائرَ)) هو جمع جَزُورٍ.