التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الخذف والبندقة

          ░5▒ بابُ الْخَذْفِ وَالْبُنْدُقَةِ
          5479- ذكر فيه حديث عبدِ اللهِ بن مُغَفَّلٍ _أي بالغين المعجمة_ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: لاَ تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ _أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ_ وَقَالَ: (إِنَّهُ لاَ يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلاَ يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ). ثمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ _أَوْ كَرِهَ الْخَذْفَ_ وَأَنْتَ تَخْذِفُ! لاَ أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا.
          الشَّرح: هذا الرجل جاء في روايةٍ أخرى أنَّه قريبٌ لعبد الله، ولمسلمٍ: لا أُكَلِّمك أبدًا. وروى البُخارِيُّ في سورة الفتح مِن التفسير [خ¦4841]، مِن حديثِ عُقْبَةَ بن صَهْبَانَ عن ابن مُغَفَّلٍ: نَهَى ◙ عن الخَذْفِ، وأخرجه مُسْلمٌ وأبو داودَ والنَّسائيُّ. والخَذْف: بفتح الخاء المعجمة ثمَّ ذالٍ ساكنةٍ معجمةٍ أيضًا وهو عند أهل اللُّغة كما نقلَه ابن بطَّالٍ عنهم: الرَّميُ بالحَصَى أو النَّوى بالإبهامِ أو السَّبَّابة، والحَذْف: بالحاء المهملة بالسَّيف والعَصَا. قال ابن سِيدَه: حَذَف بالشيء يحذِفُ فارِسيٌّ، وخصَّ بعضُهم به الحَصَى، والمِخْذَفَة التي يُوضَع فيها الحَجَر ويُرمى بها الطَّير. وعن اللَّيثِ: هو رَمْيُكَ حَصَاةُ أو نَوَاةً تأخذُها بين سَبَّابيتك، أو تجعل مِخْذَفةً مِن خشبٍ ترمي بها بين إبهامك والسَّبَّابة.
          زاد في «الجمهرة»: ثمَّ يعقدُ باليمين على اليُسرى فيخذِفُ بها، والمِخْذَفةُ: التي يُسمِّيها العامَّةُ: المِقْلَاع، وهي التي يُجعل فيها الحَجَر ويُرمَى به؛ ليطرد الطَّير وغيرها. وفي «مجمع الغرائب»: هي رميُ الحَجَر بأطرافِ الأصابع. وفي «الصَّحاح»: المِخْذَفَةُ: المِقْلَاع أو شيءٌ يُرمى به.
          وقال الدَّاوديُّ: هو الرَّمْيُ على ظاهر الإصبع الوُسْطى وباطن الإبهام كالحَصَى التي يُرمَى بها الجِمَار بمِنًى. وقال اللَّيث: الخَذْفُ رَمْيُكَ بِنَوَاةٍ أو حَصَاةٍ تأخذُها بين سَبَّابتيكَ، أو تجعل مِخْذَفةً مِن خشبٍ ترمي بها بين إبهامك والسَّبَّابة. وقال ابن فارسٍ: خَذَفتَ الحَصَى رميتَها بين إصبعيكَ، وقِيل في حَصَى الخَذْف أن يجعلَها بين السَّبَّابة والإبهام مِن اليُسرى ثمَّ يَقْذِفه بالسَّبَّابة مِن اليُمنى.
          وقولُه: (وَالْبُنْدُقَةِ): هو طينٌ يُدَوَّرُ ويَيبسُ فيصيرُ كالحصى. وقال المُهَلَّب: أباح الله الصَّيد على صِفةٍ اشترطَها، فقال: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94]. فمعنى: الأيدي: الذَّبْح، ومعنى: الرِّماح: / كلُّ ما رميتَ به الصَّيد بنوعٍ مِن أنواع فِعْل اليد مِن الخَزْق لجِلْد الصَّيد وإنفاذِه مَقَاتِلَه. وليس البُنْدُقة والخَذْف بالحَجَرِ مِن ذلك المعنى وإنَّما هو وَقِيذٌ، وقد حرَّم الله الموقُوذَة وبيَّن رسولُه أنَّ الخَذْف لا يُصَاد به صيدٌ لأنَّه ليس مِن المُجْهِزَاتِ، فدلَّ أنَّ الحَجَر لا يقع به ذكاةٌ. وأئمَّةُ الفتوى بالأمصار على أنَّه لا يجوز أكلُ ما قَتَلتْهُ البُنْدُقة أو الحَجَر، واحتجَّوا بهذا الحديث.
          وأجاز ذلك الشاميُّون فخالفوه ولا حُجَّةَ لمَن خالف السُّنَّة، وإنَّما الحُجَّة العمل بها، وقد أسلفنا ذلك قريبًا.
          وفيه: أيضًا دِلالةٌ أنه لا باسَ بهِجْرانِ مَن خالَفَ السُّنَّة وقطع الكلام عنه، وليس داخلًا تحت النَّهي عن الهِجْران فوق ثلاثٍ، يُؤيَّد ذلك أمرُه ◙ بذلك في كعْبِ بن مالكٍ وصاحبيه.
          وفيه: وجوبُ تغيير العالِم ما خالفَ العِلْم.
          وفيه: منعُ الاصطياد بالبُنْدُق إمَّا تحرُّمًا وإمَّا كراهةً، وبه قال بعض مُصَنِّفي الشَّافِعيَّة، وفي بعض المتأخِّرين جوازُه، واستدلَّ على ذلك بحديث الاصطياد بالكلْبِ غير المعلَّم؛ لأنَّ فيه وفي الاصطياد بقَوسِ البُنْدُق تعرُّضُ الحيوان للموت مِن غير مأكلِةٍ، ومقتضى حديث ابن مُغَفَّلٍ جواز الاصطياد به وكأنَّه أخذَها مِن أنَّ العِلَّة في النَّهي على مقتضى الحديث أنَّه لا يُنْكأ به العَدُوُّ ولا يُقتل الصَّيد. فمقتضى مفهوم هذا أنَّ ما يَنْكأ العَدُوَّ ويقتلُ الصَّيد لا نهي فيه لزوال عِلَّة النَّهي، وهذا دليلٌ مفهومٌ.
          ولصيد المِعْرِاضِ ثلاثة أحوالٍ: اثنان: ما يُبَاح بهما الأكل وهما: إذا أصاب بحدِّهِ ولم يُدرِك ذَكَاتهُ، أو أصاب بِعَرْضِهِ وأُدْركَت ذَكَاتُه، والثالث: لا يُبَاح، وهو ما إذا أصاب بِعَرْضِهِ ولم يُدرك ذَكَاته.
          والصَّيد بقوس البُنْدُق ليس فيه إلَّا حالتان: الإباحةُ: وهي إدراكُ ذَكَاتِهِ، والمنع: وهو عدمُها؛ إذ لا محدَّد فيه، ووقوع واحدٍ مِن ثلاثةٍ أقربُ مِن وقوع واحدٍ مِن اثنين، فكان صيدُ المِعْرَاض أَوْلَى بالجواز مِن الصَّيد بالقوس المذكور.
          فائِدَةٌ: قال عِيَاضٌ في «مَشَارقه»: قولُه: (لَا يُنْكَأ بِهِ عَدُوٌّ) كذا الرواية بفتح الكاف مهموزُ الآخر، وهي لغةٌ، والأشهر: يُنكِي، في هذا، ومعناه المبالغة في أذاه، وقال في «إكماله»: رُوِّيناه مهموزًا، قال: وفي بعض الروايات: يَنكِي بفتح الياء وكسر الكاف غير مهموزٍ وهو أوجَهُ هنا؛ لأنَّ المهموز إنَّما هو مِن نَكَأتُ القَرْحَةَ، وليس هذا موضعَهُ إلَّا على تجوُّزٍ، وإنَّما هذا مِن النِّكاية يقال: نَكَيْتُ العَدُوَّ أَنْكِيهِ.
          قال صاحب «العين»: ونَكَأْتُ بالهمز لغةٌ فيه. وقال ابن التِّين: قولُه: (لَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ). هو غير مهموز يقال: نَكَيْتُ في العَدُوِّ وأَنْكِي إذا قَتَلت وجَرحَت، ونَكَأْتُ القَرْحَةَ؛ بالهمز.