التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب لحوم الخيل

          ░27▒ بابُ لُحُومِ الْخَيْلِ
          5519- ذكر فيه حديث أسماءَ السَّالف قريبًا [خ¦5510]: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَأَكَلْنَاهُ.
          5520- وحديث حمَّاد، عن عَمْرِو بن دِيْنَارٍ، عن مُحَمَّد بن عليٍّ، عن جَابِرٍ ☺: نَهَى النَّبِيُّ صلعم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. وقد سلف في غزوة خَيْبرَ [خ¦4198].
          ومُحَمَّدٌ هذا هو أبو جَعْفَرٍ الباقرُ مُحَمَّد بن عليِّ بن حُسينِ بن عليٍّ مات سنة ثمَّاني عشرة ومئةٍ. قال النَّسائيُّ: ما أعلم أحدًا وافقَ حمَّاد بن زَيْدٍ عن مُحَمَّد بن عليٍّ؛ فقال التِّرْمِذيُّ لَمَّا رواه مِن حديثِ ابن عُيَيْنَة، عن عَمْرو بن دِيْنَارٍ، عن جَابِرٍ: كذا رواه غير واحدٍ، ورواية ابن عُيَيْنَة أصحُّ مِن روايةِ حمَّادٍ، وسمعتُ مُحَمَّد بن إسماعيلَ يقول: ابن عُيَيْنَة أحفظُ مِن حمَّاد بن زَيْدٍ. ورواه ابن حزمٍ مِن طريق عِكْرِمَةَ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كثِيرٍ، عن أبي سَلَمَة بن جابرٍ: نهى رسول الله صلعم عن لحومِ الحُمُرِ الأهليَّة والخيلِ والبغالِ، وحرَّم المجثَّمة. ثمَّ قال: عِكْرِمَةُ ضعيفٌ.
          قلت: لا تُعَلُّ رواية عَمْرو عن جَابِرٍ برواية أبي داودَ مِن / حديثِ ابن جُرَيْجٍ، عن عَمْرٍو قال: أخبرني رجلٌ عن جَابِرٍ لأنَّ هذا الرجل هو مُحَمَّد بن عليٍّ السَّالف.
          وقال الطَّحَاويُّ: أهل الحديث يُضَعِّفُون حديث عِكْرِمَة عن يحيى ولا يجعلون فيه حُجَّةً، ولو كان حديث مُحَمَّد بن عليٍّ وَعَطَاءٍ وأبي الزُّبَير عن جَابِرٍ أَوْلَى؛ لأنَّ ثلاثةً أَوْلَى بالحفظ مِن واحدٍ. وقد اختلف النَّاسُ في أكل لحوم الخيل، فكرهه مالكٌ وأبو حنيفَةَ والأوْزَاعِيُّ، ونُقلَ عن مُجَاهِدٍ وأبي بَكْرٍ الأصمِّ والحسنِ البَصْريِّ. وفي روايةٍ: تركُهُ أحبُّ إليَّ. وحرَّمه الحكمُ بن عُتَيبةَ. وقال أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ: إنَّه حلالٌ أكلُها. واحتجَّ مَن كره أكلَها بما رواه ثورُ بن يَزِيدَ، عن صالحِ بن يحيى بن المقْدَام بن معَدِي كَرْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ، عن خالد بن الوليد أنَّ رسول الله صلعم نهى عن لحوم الخيلِ والبِغَال والحَمِيرِ، أخرجهُ أبو داودَ وقال: حرامٌ عليكم لحُومُ الحُمُرِ الأهليَّةِ وخيلِها، ثمَّ قال: هذا منسوخٌ.
          وقد أكل الخيلَ جماعةٌ مِن الصَّحابة: ابن الزُّبَير، وفَضَالةُ بن عُبَيدٍ، وأنسُ بن مالكٍ، وأسماءُ، وسُويَدُ بن غَفَلةَ، وكانت قُرَيْشٌ في عهد رسول الله صلعم تَذْبَحُها.
          وقال النَّسائيُّ: حديث جَابر في أكل لُحُوم الخيل أصحُّ مِن هذا، ويشبهُ إن كان هذا صحيحًا أن يكون منسوخًا؛ لأنَّ قولَه: ((وأَذِنَ فِي لُحُومِ الخَيلِ)) دليلٌ على ذلك، ولا أعلمُ روى حديث خالدٍ هذا غير بقيَّةَ، عن ثور بن يَزِيدَ، عن صالحٍ.
          قلتُ: قد رواه سُلَيْمَانُ بن سُليمٍ، عن صالحٍ، أخرجه أحمد في «مُسنده» عن أحمدَ بن عبد الملك، حَدَّثَنا مُحَمَّد بن حَرْبٍ، حَدَّثَنا سُلَيْمَان به. وأخرجه أيضًا كذلك الطَّبَرَانيُّ. وأخرجه ابن شَاهينٍ في «ناسخه» مِن حديثِ سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ عن ثور بن يَزِيدَ، عن أبي غَزْوانَ الجُهَنيِّ، عن يحيى بن جَرِيرٍ، عن خالد ابن الوليدِ مرفوعًا: ((أنهاكم عن أكلِ خَيْلِها وحُمُرها وبِغَالها)).
          وقال الدَّارِمِيُّ في كتاب «الأطعمة»: ثبتَ عن النَّبِيِّ صلعم الرُّخْصةَ في أكل لحوم الخيل مِن غير معارضٍ له قَويٍّ، والذي يُعَارضُه حديث خالدٍ، وليس إسنادُه كإسناد الرُّخْصَة فيه، قال مُوسَى بن هَارُونَ: لا يُعرَف صالحُ بن يحيى ولا أبوه إلَّا بجدِّهِ. وقال الخطَّابيُّ: لا يُعرَف سماع بعضهم مِن بعضٍ.
          وقال الدَّارقُطْنِيُّ: حديث خالدٍ ضعيفٌ، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث أنَّه ◙ حرَّمها يوم خَيْبرَ. وقد قال الوَاقِديُّ أنَّ خالدًا أسلَمَ بعد خَيْبرَ. وقال أبو عُمَر: لا يصحُّ لخالدٍ مشهدٌ مع رسول الله صلعم قبل الفتحِ.
          وقال البَيْهَقِيُّ: إسنادٌ مُضطرِّبٌ، ومع اضطرابهِ مُخَالِفٌ للثِّقات. وقال ابن حزمٍ: صالح بن يحيى بن المِقْدَامِ مجهولون كلُّهم، وفيه دليلُ الوضع لأنَّه لم يُسلِم خالدٌ إلَّا بعد خَيْبرَ بلا خِلافٍ.
          قلت: لعلَّه يريد بجهالتِهم كلِّهم ما عدا جدَّ المِقْدَام فإنَّه ثابتُ الصُّحبة قطعًا، وبقيَّةُ الخِلاف في إسلام خالدٍ ليس كما ذكر، فالخِلافُ فيه موجودٌ في كتاب أبي داودَ والطَّبَرَانيِّ وغيرهما.
          وقال الطَّحَاويُّ: أمَّا الآثار المرويَّةُ في لحوم الخيل فالصَّحيح منها ما رُوي في إباحة أكل لحومِها، وأمَّا الذي يُوجِب النَّظر فالنَّهي عنه أنَّا وجدنا الأنعامَ المباحَ أكلُها ذواتَ أخفافٍ وذواتَ أظلافٍ، ووجدنا الحُمُرَ الأهليَّةَ والبِغَال المنهيَّ عن أكل لحومِها ذوات حَوَافرَ وكانت الخيلُ أشبهَ بذوات الحوافرِ المنهيِّ عن أكل لحومِها بذوات الأظلافِ المباحِ أكلُها.
          وقال الحازِميُّ: قالوا: وأمَّا حديث خالدٍ فإنَّه وردَ في قضيَّةٍ مُعيَّنةٍ، وليس هو مطلقًا دالًّا على الحَصْر بعُمُومِه، ليكون الحُكم الثَّاني تابعًا للحكم الأوَّل، بل سبب تحريمِه مُغَايرٌ تحريمَ الحِمَارِ الإِنْسيِّ والبغل؛ لأنَّ تحريم البغال والحُمُرِ كان مُسْتَمرًّا على التَّأييد وتحريم أكل الخيل كان إضافيًّا فزال لزوال سببهِ، وذلك إنَّما نهى عن أكل لحومِها يوم خَيْبرَ؛ لأنَّهم تسارعوا في طبخِها قبل أن تُخَمَّس، فأمرهم ◙ بإكفاءِ القُدُور تشديدًا عليهم وإنكارًا لصنيعِهم، وكذلك أمرَ بكسرِ القُدُور أوَّلًا ثمَّ تركَها، ورُوِّينا نحو هذا المعنى عن عبد الله بن أبي أَوْفَى، فلمَّا رأوا إنكارَه ونهيَه عن تناول لُحُوم الخيلِ والبغالِ والحميرِ اعتقدوا أنَّ سبب التحريم في الكلِّ واحدٌ، حتَّى نادى مناديه: إنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لُحُوم الحُمُر الأهليَّةِ. فحينئذٍ فهموا أنَّ سبب التحريم مُختلِفٌ، وأنَّ الحُكم بتحريم الحمار الأهليِّ على التَّأييد. وأنَّ الخيل إنَّما نُهِي عن تناولِ ما لم يُخَمَّس كما ذكرنا، فيكون قولُه رَخَّص أو أَذِن دفعًا لهذه الشُّبهة، والذي دلَّ عليه أنَّ حديث خالدٍ وردَ في قضيَّةٍ مخصوصُةٍ حديث مُحَمَّد بن حَرْبٍ السَّالف، ثُمَّ ساقها؛ قال: وهذا حديثٌ غريبٌ وله أصلٌ مِن حديثِ الشَّاميِّين.
          واستدلَّوا أيضًا بقولِه تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] وهو عطفٌ على الضَّمير العائد على الأنعام في {خَلَقَهَا} أي: خَلَقَها للرُكوب {وَزِينَةً} قالوا: والتمسُّك مِن هذه الآية مِن وجوهٍ:
          أحدُها: إنَّ اللَّام للتَّعليل، فدلَّ على أنَّها ما خُلِقت إلَّا لذلك إذ العِلَّة المنصوصُ عليها تفيدُ الحَصْرَ.
          ثانيها: إنَّ فيها عَطْف البغال والحمير على الخيل، فلا تُفرد عن المعطوفين في الحُكم إلَّا بدليل وكذا ذكره ابن عبَّاسٍ فقال: هذه الآية للرُّكوب والزِّينة والتي قبلَها للأكل.
          ثالثُها: إنَّ الله تعالى قد منَّ على عبادِهِ بما جعل لهم مِن منفعة الرُّكوب والزِّينة في الخيل، فلو كانت الخيل مأكولةَ اللَّحم لكان الأَوْلَى الامتنانَ عليهم بمنفعة الأكل؛ لأنَّه أعظم وجوه المنفعة، وفيه بقاءُ النُّفُوس والحاجة تتجدَّدُ إليه بُكرةً وأَصِيلًا، والحكم لا يتركُ أعظم وجوه المنفعة عند إظهار المنَّةِ ويَذْكرُ ما دونَهُ.
          أَلَا ترى كيف ذكر المِنَّة بالأكل في الأنعام التي هي الإبل قبلَها مع سائر منافعِها، فقال: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] ولو كان أكلها مباحًا لنبَّه عليه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] فإن قلت: كما لم يذكر فيها الانتفاع بها بالأكل لم يذكر الانتفاع بها في حمْلِ الأثقال عليها، أجابَ الحَنَفيُّ بأنَّ / حَمْل الأثقال على الخيل لا يُعرف عندهم، ولم يكن لهم به عادةٌ ولا في ذلك حاجةٌ لكثرة الإبل المغنيَةِ عن ذلك ولقلَّةِ الخيل؛ ولأنَّها مُعَدَّةٌ لإرهاب العَدُوِّ، فلا يتطرَّق إلى ذبحِها لكرامتِها، ولهذا سوَّى بين الآدميِّ وفَرَسهِ في الغنيمة على رأي أبي حنيفة. وعند غيرِه له سَهْمانِ أكثرَ مِن فارسه ولا سهمَ لغير الفرسِ مِن الإبل والبقر والغنم والبغال والحمير لو قاتلوا عليها.
          وقد أجمعت الأُمَّةِ على جواز التَّضْحية بالإبل والبقر والغنم، ولم يُجيزوا التَّضحية بها، فلو كانت مأكولةَ اللَّحم وهي أهليَّةٌ لوردَتِ السُّنَّة بها كما وردت بسائرِ الأنعامِ الأهليَّةِ.
          قلت: ولا عِبرَةَ بخِلاف أهل الظَّاهر في ذلك أنَّ التَّضحية بها جائزةٌ.
          قالوا: ولو أحلَّ أكلَ لحمِها لغابت منفعة الرُّكوب والزِّينة التي خُلِقت له، وأمَّا اعتراض الحَنَفيِّ على أنَّ أسماءَ لم تَقُل أنَّهم أعلموا بذلك رسول الله صلعم فأقرَّهم عليه، وأنَّها واقعةُ حالٍ فلم تكن حُجَّةً فغير شيءٍ؛ لأنَّ الخيل لم تكن عندهم بحال [...] أن تُذبَح في المدينة مع صغيرِها حينئذٍ ولا يَعلَم بها أو لا يُعلَم بها رسول الله صلعم، فلمَّا تطرَّقَ إليه الاحتمال سقط بها الاستدلَّال، ونظرنا في غيره مِن الأحاديث فوجدنا في بعض طُرُقِه أنَّ الدَّارقُطْنِيَّ ذكر عنها مِن حديثِ أبي خُلَيدٍ عُتْبةَ بن حمَّادٍ المقرئِ، حَدَّثَنا ابن ثَوْبَانَ، عن هِشَامٍ، عن أبيه، عن أسماءَ: ذَبَحْنا فَرَسًا على عهد رسول الله صلعم فأكلنا نحنُ وأهلُ بيتِه. قلتُ: وأخرجها أيضًا في «مسنده»: وأكلناه نحنُ وأهلُ بيتِه. فدلَّت هذه اللَّفظة على اطلاعه على ذلك، ولأنَّ أهل بيته لا يأكلون شيئًا يَخْفَى عليه.
          وأمَّا قولُهم: واقعةُ حالٍ فغير جيِّدٍ، لأنَّ أكثر السُّنَّة واقعة حالٍ فمَن ترك ذلك ترك مُعظمَ السُّنَّة الشَّريفة، قال ابن حزمٍ: ولا نَعلم عن أحد مِن السَّلَف كراهة أكل لحم الخيل، إلَّا رواية عن ابن عبَّاسٍ لا تصحُّ لأنَّها عن مولى عَلْقمةَ بن نافِعٍ وهو مجهولٌ.
          قلت: قد أسندها ابن أبي شَيْبَةَ عن وكيعٍ وعليِّ بن هِشَامٍ، عن ابن أبي ليلى، عن الْمِنْهَالِ، عن سَعِيد بن جُبَيْرٍ. وذكره الإسماعيليُّ في «جمعه» حديث يحيى بن أبي كَثِيرٍ عن نافعِ بن عَلْقمةَ أنَّ ابن عبَّاسٍ كان يكره لُحُوم الخيل... الحديثَ.
          فَصْلٌ: واحتجَّ مَن كَرِه أكلها أيضًا مِن وجه النَّظر: أنَّه لو كانت لوجبَ أن يؤكل أولادُها، فلمَّا اتَّفقنا على أنَّ الأمَّ إذا كانت مِن الخيل والأب حمارٌ لم يُؤكَل ما يُولَد منهما، علمنا أنَّ الخيلَ لا تُؤكَل، أَلَا ترى أنَّ ولدَ البقرة يَتْبَع أُمَّه في جواز الأُضْحِيَّة به، وإن كان أبوه وحشيًّا فلو كانت الخيلُ تُؤكَل تَبِعَ الولد أُمَّهُ في ذلك.
          فَصْلٌ: واحتجَّ مَن جوَّزَه بتواتر الأخبار في ذلك، وأنَّ أحاديث الإباحة أصحُّ مِن أحاديث النَّهي.
          قالوا: ولو كان ذلك مأخوذًا مِن طريق النَّظر لَمَا كان بين الخيل الأهليَّةِ والحُمُر الأهليَّة فُرْقَانٌ، ولكنَّ الآثار عن رسول الله صلعم إذا صحَّت أَوْلَى أن يُقال بها مِن النَّظر، ولا سيَّما وقد أخبر جابِرٌ في حديثِه أنَّه ◙ أباحَ لهم لُحُوم الخيل في وقت منعِهِ إيَّاهم لُحُوم الحُمُر، فدلَّ ذلك على اختلاف حُكم لحومِها، قاله الطَّحَاويُّ.