شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب البكاء عند قراءة القرآن

          ░35▒ بَابُ: البُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ.
          فيهِ: ابنُ مَسْعُودٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى بَلَغْتُ: {وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النِّساء:41]قَالَ لِي: كُفَّ(1)، أَوْ أَمْسِكْ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ). [خ¦5056]
          قالَ المؤلِّفُ: البكاء عند قراءة القرآن حسنٌ، قد فعلَه النَّبيُّ صلعم وكبار الصَّحابة، وإنَّما بكى النَّبيُّ صلعم والله أعلم عند هذه الآية لأنَّه(2) مثل لنفسِه أهوال يوم القيامة، وشدَّة الحال الدَّاعية له إلى شهادتِه لأمَّتِه بتصديقِه والإيمان به، وسؤالِه الشَّفاعة لهم ليريحهم مِن طول الموقف وأهوالِه، وهذا أمر يحقُّ له طول البكاء والحزن.
          ذكر أبو عُبَيْدٍ عن مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيْرِ عن أبيهِ قالَ: انْتَهَيْتُ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم وهوَ يُصَلِّي ولجوفِهِ أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ منَ البكاءِ.
          وعن الأَعْمَشِ عن أبي صَالحٍ قال: لما قَدِمَ أهل اليمن في زمن أبي بَكْرٍ سمعوا القرآن فجعلوا يبكون فقال(3) أبو بَكْرٍ: هكذا كنا ثم قست القلوب.
          وقال الحَسَنُ: قرأ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ☺: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. مَا لَهُ مِن دَافِعٍ}[الطور:7-8]فرَبَا(4) رَبْوَةً عِيْدَ منها عشرين يومًا.
          وقال عُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ: صَلَّى بنا عُمَرُ صلاة الفجر فقرأ سورة يُوسُفَ حتَّى إذا بلغ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[يوسف:84]بكى حتَّى انقطع فركع.
          وفي حديثٍ آخرَ لمَّا قرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [يوسف:86]، بكى حتَّى سُمِع نشيجُه مِن وراء الصُّفُوف.
          وعن ابنِ المُبَارَكِ عن مِسْعَرٍ عن عبدِ الأَعْلَى التَّيْمِيِّ قالَ: مَن أُوتي مِن العلم ما لا يُبكيه فليس بخليقٍ أن يكون أُوتي علمًا ينفعُه، لأنَّ الله تعالى نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}[الإسراء:107]الآيتين.
          وقرأ عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي لَيْلَى سورة مَرْيَمَ فلمَّا انتهى إلى قولِه: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:58]، فسجد(5) بها، فلمَّا رفع رأسَه قال: هذه السَّجدة فأين البكاء؟ وكرِه السَّلف الصَّعق والغشي عند قراءة القرآن. ذكر أبو عُبَيْدٍ بإسنادِه عن أبي حازِمٍ قال: مرَّ ابنُ عُمَرَ برَجُلٍ مِن أهل العِرَاقِ ساقطٌ والنَّاس حولَه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: إذا قرئ عليه القرآن أو سمع الله يُذْكَرُ خرَّ مِن خشية الله، فقال ابنُ عُمَرَ: واللهِ إنَّا(6) لنخشى اللهَ وما نسقط.
          وعن عِكْرِمَةَ قالَ: سُئِلَتْ أَسْمَاءُ: هل كان أَحَدٌ مِنَ السَّلف يُغْشَى / عليهِ مِنَ القراءةِ؟ فقالَتْ: لَا، ولكنَّهم كانوا يبكون.
          وقال هِشَامُ بنُ حَسَّانَ: سُئِلَتْ(7) عائشةُ عمَّن يُصْعَقُ عندَ قراءةِ القرآنِ فقالَتْ: القرآنُ أكرمُ مِنْ أَنْ تنزفَ عنهُ عُقُولُ الرِّجَالِ، ولكنَّه كما قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُوْدُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِيْنُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللهِ}[الزمر:23].
          وسُئِلَ ابنُ سِيرِينَ عن ذلك، فقال: ميعادٌ بيننا وبينَه أن يجلس على حائطٍ ثمَّ يَقْرَأُ عليه القرآنَ كلَّه، فإن وقع فهو كما قال.


[1] في (ص): ((كفى)).
[2] في (ت): ((وإنما بكى ◙ عند هذه الآية لأنه والله أعلم مثل لنفسه أهوال)) وفي (ص): ((وإنما بكى ◙ عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال)).
[3] في (ت) و (ص): ((قال)).
[4] في (ص): ((وربا)).
[5] في (ت) و(ص): ((سجد)).
[6] في (ص): ((إني)).
[7] في (ص): ((سألت)).