شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القراء من أصحاب النبي

          ░8▒ بَابُ: القُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ ◙.
          فيهِ: عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو: ذَكَرَ ابنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النَّبيَّ ◙ يَقُولُ: (خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللهِ وَسَالِمٍ وَمُعَاذٍ وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ). [خ¦5382]
          وَقَالَ فيهِ مَسْرُوْقٌ: خَطَبَنَا ابنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ صلعم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُوْرَةً، وَاللهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابِي أَنِّي مِنْ(1) أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ في الحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ غَيْرَ(2) ذَلِكَ. [خ¦5000]
          وَقَالَ فيهِ عَلْقَمَةُ: كُنَّا بِحِمْصَ، فَقَرَأَ ابنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ(3)، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ: (أَحْسَنْتَ)، وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللهِ وَتَشْرَبَ الخَمْرَ؟ فَضَرَبَهُ الحَدَّ. [خ¦5001]
          وفيهِ: مَسْرُوقٌ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ(4) مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ، أَيْنَ أُنْزِلَتْ؟ وَلَا(5) أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تُبَلِّغُهُ الإبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ. [خ¦5002]
          وفيهِ: أَنَسٌ، جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ الرَّسُوْلِ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصَارِ: أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. [خ¦5003]
          وَقَالَ أَنَسٌ مَرَّةً: مَاتَ النَّبيُّ صلعم وَلَمْ يَجْمَعِ القُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو زَيْدٍ. وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ. [خ¦5004]
          وفيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ، قَالَ عُمَرُ: أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَيٍّ، وَأُبَيٌّ يَقُولُ: أَخَذْتُهُ مِنْ في رَسُولِ اللهِ ◙ فَلَا أَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة:106]. [خ¦5005]
          قال أبو بَكْرِ بنُ الطَّيِّبِ: لا تدلُّ هذه الآثار على أنَّ القرآن لم يحفظْه في حياة النَّبيِّ صلعم غيرُ عبدِ اللهِ وسالمٍ ومُعَاذٍ وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وأنَّه لم يجمعْه غير أربعةٍ مِن الأنصار كما قال أَنَسُ بنُ مالكٍ، فقد ثبت بالطُّرُق المتواترة أنَّه جمع القرآن عثمانُ وعليٌّ وتَمِيْمٌ الدَّارِيُّ وعُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ وعبدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ، وثبت أنَّه سأل النَّبيَّ صلعم في كم يقرأ القرآن؟ فقال: (في شَهْرٍ). فقال: إنِّي أُطِيْقُ أكثر مِن ذلك. الحديثَ. فجمعَه عَمْرُو بنُ العَاصِ وغيرُه.
          رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ صلعم أقرأَه(6) خمس عشرة سجدةً في القرآن، منها ثلاثٌ في المفصَّل، وفي الحجِّ سجدتان. ذكر الأسانيد بذلك أبو بَكْرِ بنُ الطَّيِّبِ في كتاب ((الانتصار)). فقول أَنَسٍ: (لم يجمع القرآن غيرُ أربعةٍ) قول يتعذَّر العلم بحقيقة ظاهرِه، وله وجوهٌ مِن التَّأويل:
          أحدها: أنَّه لم يجمعْه على جميع الوجوه والأحرف والقراءات الَّتي نزل بها إلَّا أولئك النَّفر فقط، وهذا غير بعيدٍ لأنَّه لا يجب على سائرهم ولا على أولئك النَّفر أيضًا أن يجمعوا(7) القرآن على جميع حُرُوفِه ووجوهِه السَّبعة. والثَّاني: أنَّه لم يجمع القرآن ويأخذه تلقينًا(8) مِن فِي النَّبيِّ ◙ غيرُ تلك الجماعة فإنَّ أكثرَهم أخذ بعضَه عنه وبعضَه عن غيرِه. والثَّالث: أن يكون لم يجمع القرآن على عهد النَّبيِّ مَن انتصب لتلقينِه وإقراء النَّاس له غيرُ تلك الطَّبقة / المذكورة.
          وقد تظاهرت الرِّوايات بأنَّ الأئمَّة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النَّبيِّ ◙ لأجل سَبْقِهم إلى الإسلام وإعظام الرَّسُولِ صلعم لهم، وقد ثبت عن الصِّدِّيْقِ ☺ بقراءتِه في المحراب بطوال(9) السُّور الَّتي لا يتهيَّأ حفظُها إلَّا لأهل القدرة على الحفظ والإتقان، فروى ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عن أَنَسٍ أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ قرأ في الصُّبح بالبقرة فقال عُمَرُ: كادت الشَّمس أن تطلع(10) فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، وقد علم أنَّ كثيرًا مِن الحُفَّاظ وأهل الدُّربة بالقرآن يتهيَّبون الصَّلاة بالنَّاس بمثل هذه السُّور الطِّوال وما هو دونَها، وهذا يقتضي أنَّ أبا بَكْرٍ كان حافظًا للقرآن، وقد صحَّ الخبر أنَّه بنى مسجدًا بفناء دارِه بمكَّة قبل الهجرة، وأنَّه كان يقوم فيه بالقرآن ويكثر بكاؤُه ونشيجُه عند قراءتِه فتقف عليه نساء المشركين وولدانُهم يسمعون قراءتَه، ولولا(11) علم النَّبيِّ صلعم بذلك(12) مِن أمرِه لم يُقدِّمْه لإمامة المسلمين مع قولِه: ((يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ)).
          وكذلك تظاهرت الرِّوايات عن عُمَرَ أنَّه كان يؤمُّ النَّاس بالسُّور الطِّوال، وقد أَمَّهُمْ بسورة يُوسُفَ في الصُّبح(13) فبلغ إلى قولِه: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[يوسف:84]، فنشج حتَّى سُمِعَ بكاؤُه مِن وراء الصُّفُوف. وقرأ مرَّةً سورة الحجِّ فسجد فيها سجدتين. وروى عبدُ الملكِ بنُ عُمِيْرٍ عن زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عن ابنِ مَسْعُوٍد قال: كان عُمَرُ أعلمَنَا باللهِ وأقرأَنَا لكتابِ اللهِ وأفقهَنَا في دِيْنِ اللهِ، ولولا أنَّ هذه كانت حالتُه وأنَّه مِن أقرأ النَّاس لكتاب الله لم يكن أبو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ بالَّذي يضمُّ إليه زَيْدَ بنَ ثابتٍ ويأمرُهما بجمع القرآن واعتراض ما عند النَّاس، ويجعل زَيْدًا تبعًا له، لأنَّه لا يجوز أن ينصب لجمع القرآن واعتراضِه مَن ليس بحافظٍ.
          وأمَّا عُثْمَانُ فقد اشتهر أنَّه كان ممَّن جمع القرآن على عهد النَّبيِّ ◙ وأنَّه كان مِن أهل القيام به، وقد قال حين أرادوا قتلَه فضربوه بالسَّيف على يده فمدَّها وقال: والله إنَّها لأوَّل يدٍ خطَّت المفصَّل، وقالت نَائِلَةُ زوجتُه: إنَّ(14) تقتلوه فإنَّه كان يُحيي اللَّيل بجميع القرآن في ركعةٍ.
          وكذلك عليُّ بنُ أبي طالبٍ، قد عرفت حاله في فضلِه وثاقب فهمِه، وسعة علمِه ومشاورة الصَّحابة له، وإقرارِهم لفضلِه(15) وتربية النَّبيِّ صلعم له وأخذه له بفضائل الأخلاق، وترغيبِه ◙ في تخريجِه وتعليمِه، وما كان يرشِّحه له ويثيبُه عليه مِن أمرِه نحو قولِه: ((أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ)) ومِن البعيد أن يقول هذا فيه وليس مِن قُرَّاء الأمَّة، وقد كان يقرأ القرآن، وقرأ عليه أبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَمِيُّ وغيرُه، وروى هَمَّامٌ عن ابنِ(16) أبي نَجِيْحٍ عن عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ أنَّ أبا عبدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ حدَّثَه قال: ما رأيت رَجُلًا أقرأ للقرآن مِن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، صلَّى بنا الصُّبح فقرأ سورة الأنبياء فأسقط آيةً، فقرأ ثمَّ رجع إلى الآية الَّتي أسقطَها فقرأها، ثمَّ رجع إلى مكانِه الَّذي انتهى إليه لا يتتعتع(17).
          فإذا صحَّ ما قلناه مع ما ثبت مِن تقدِّمِهم وتقدمة الرَّسُولِ لهم وجب أن يكونوا حُفَاظًا للقرآن، وأن يكون ذلك أولى مِن الأخبار الَّتي ذكر فيها أنَّ الحُفَاظ كانوا على عهد رَسُولِ اللهِ ◙ أربعةً ليس منهم(18) أحدٌ مِن هؤلاء الأئمَّة القادة الَّذين هم عُمْدَةُ الدِّين وفقهاء المسلمين.


[1] في (ت) و(ص): ((لمن)).
[2] قوله: ((غير)) ليس في (ت).
[3] قوله: ((يوسف)) ليس في (ت) و(ص).
[4] في (ت) و(ص): ((لا إله إلَّا هو)).
[5] زاد في (ص): ((أعلم)).
[6] قوله: ((أقرأه)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ز) و (ت): ((يحفظوا)) والمثبت من (ص).
[8] قوله: ((تلقَّينا)) ليس في (ت) و(ص).
[9] في (ت): ((بطول)).
[10] قوله: ((أن تطلع)) ليس في (ت).
[11] في (ص) و(ت): ((ولو)).
[12] في (ص): ((ذلك)).
[13] قوله: ((في الصبح)) ليس في (ص).
[14] قوله: ((إن)) ليس في (ص).
[15] في (ص): ((بفضله)).
[16] قوله: ((ابن)) ليس في (ت) و(ص).
[17] في (ص): ((لا يتعتع)).
[18] في (ص): ((فيهم)).