شرح الجامع الصحيح لابن بطال

بابُ فاتحة الكتاب

          ░9▒ بَابُ: فَضْلِ فَاتِحَةِ الكِتَابِ.
          فيهِ: أَبُو سَعِيدِ بنِ المُعَلَّى: (كُنْتُ أُصَلِّي، فَدَعَانِي النَّبيُّ صلعم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ(1): يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ(2): أَلَمْ يَقُلِ اللهُ تَعَالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}[الأنفال:24]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ قُلْتَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ(3) أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ(4) القُرْآنِ، قَالَ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيْتُهُ). [خ¦5006]
          وفيهِ: أَبُو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ: كُنَّا في مَسِيرٍ لَنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غُيَّبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ، فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَنَا(5) بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ، قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ قَالَ: لَا(6)، مَا رَقَيْتُهُ(7) إِلَّا بِأُمِّ الكِتَابِ، قُلْنَا: لا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى نَسْأَلَ النَّبيَّ صلعم / فقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صلعم قَالَ: (وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ). [خ¦5007]
          قال المؤلِّفُ: إن قال قائلٌ: قولُه صلعم: (لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُوْرَةٍ مِنَ القُرْآنِ) يدلُّ على تفاضل القرآن، قيل له: ليس كما توهَّمت، لأنَّه يحتمل أن يكون معنى قولُه صلعم: (أَعْظَمُ سُوْرَةٍ في القُرْآنِ) أي أعظم نفعًا للمتعبِّدين لأنَّ أُمَّ القرآن لا تُجزئ الصَّلاة إلَّا بها، وليس ذلك لغيرها مِن السُّور، ولذلك قيل لها: السَّبع المثاني لأنَّها تثنَّى في كلِّ صلاةٍ، هذا قول عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأبي هريرةَ وغيرهما، ويشهد لهذا قولُه صلعم: ((لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ)).
          وفي(8) قوله صلعم: (هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي) تفسير لقولِه ╡: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي}[الحجر:87]، أنَّ المراد بها فاتحة الكتاب، وقد رُوِيَ عن السَّلف أقوالٌ أخرُ في تفسير السَّبع المثاني، فرُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ وابنِ مَسْعُودٍ أنَّها السَّبع الطِّوال لأنَّ الفرائض والقصص تثنَّى فيها، ويجوز أن يكون المثاني القرآن كلُّه كما قال تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}[الزُّمر:23]لأنَّ الأخبار تثنَّى فيه.
          ومما يدلُّ أنَّ قولَه صلعم: (لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُوْرَةٍ) لا يوجب تفاضل القرآن بعضَه على بعض في ذاتِه. قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة:106]، ولم يختلف أهل التَّأويل في أنَّ الله تعالى لم يرد بقولِه: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}[البقرة:106]تفضيل بعض الآيات على بعضٍ، وإنَّما المراد بخيرٍ منها لعباده المؤمنين التَّالين لها، إمَّا بتخفيفٍ وعفوٍ، أو بثوابٍ على عملٍ، ولو قال قائلٌ: أيُّما أفضل: آية رحمةٍ، أو آية عذابٍ، أو آية وعدٍ(9)، أو آية وعيدٍ؟ لم يكن لهذا جوابٌ. ومَن أجازَ(10) التَّفاضل في القرآن فقد أوجب فيه النَّقص، وأسماء الله تعالى وصفاتُه وكلامُه لا نقصَ في شيءٍ منها فيكون بعضُه أفضل مِن بعضٍ، وكيف يجوز أن يكون شيءٌ مِن صفاتِه منقوصًا غير كاملٍ وهو القادرٌ تعالى(11) على أن يتمَّ المنقوص حتَّى يكون في غاية الكمال، فلا يلحقُه في شيءٍ مِن صفاتِه نقصٌ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا(12)، وسأزيد في بيان هذا المعنى في فضل {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1][خ¦5015] إن شاء الله تعالى(13).
          ويحتمل قولَه: لأُعلِّمنَّك أعظَمَ سورةٍ وجهًا آخر، وهو أن يكون أعظم بمعنى سورةٍ عظيمةٍ كما قيل: الله أكبر، بمعنى كبيرٍ، وكما قيل في اسم الله الأعظم: بمعنى عظيمٍ، وقد تقدَّم الكلام في حديث أبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ في كتاب الإجازة في باب ما يُعطى في(14) الرُّقية بفاتحة الكتاب ومعنى قولِه: (مَا يُدْرِيْكَ أنَّها رُقْيةٌ) فتأمَّله هناك(15) [خ¦2276].
          وقولُه: (مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ) قال صاحب «الأفعال»: أَبَنْتُ الرَّجُلَ بخيرٍ أو شرٍّ نسبتُهما إليه، آبُنُهُ أَبْنًا.


[1] في (ت) و(ص): ((قلت)).
[2] في (ت) و (ص): ((قال)).
[3] في (ص): ((لأعلمك)).
[4] في (ت) و(ص): ((في)).
[5] في (ت) و(ص): ((لنا)).
[6] قوله: ((لا)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ت) و (ص): ((رقيت)).
[8] في المطبوع: ((وفيه)).
[9] قوله: ((أو آية وعدٍ)) ليس في (ت).
[10] في (ص): ((اختار)).
[11] في (ت) و (ص): ((وهو قادر)).
[12] قوله: ((علوا كبيرا)) ليس في (ت) و(ص).
[13] قوله: ((إن شاء الله تعالى)) ليس في (ت) و(ص).
[14] قوله: ((ما يعطى في)) ليس في (ت) و(ص).
[15] قوله: ((ومعنى قوله: (ما يدريك أنَّها رقيةٌ) فتأمَّله هناك)) ليس في (ت) و(ص).