شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: نزل القرآن بلسان قريش والعرب

          ░2▒ بَابُ: نَزَلَ القُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالعَرَبِ وَقَوْلِ اللهِ ╡: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[يوسف:2]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ}[الشُّعراء:195]
          فيهِ: أَنَسُ بنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بنَ العَاصِ وَعَبْدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا في المَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ / قُرَيْشٍ، فَإِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا. [خ¦4984]
          وفيهِ: يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ، كَانَ يَقُولُ: (لَيْتَنِي أَرَى النَّبيَّ صلعم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَلَمَّا كَانَ النَّبيُّ صلعم بِالجِعْرَانَةِ وعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ(1)، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى في رَجُلٍ أَحْرَمَ في جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ النَّبيُّ صلعم سَاعَةً، فَجَاءَهُ الوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى أَنْ تَعَالَ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الوَجْهِ، يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي(2) عَنِ العُمْرَةِ آنِفًا؟ فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ، فَجِيءَ بِهِ إِلَى النَّبيِّ صلعم فَقَالَ: أَمَّا الطِّيْبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ في عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ في حَجِّكَ). [خ¦4985]
          قال المُهَلَّبُ: في حديث أَنَسٍ عن عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ ☺ معنى التَّرجمة. فإن قال قائلٌ: فما وجه حديث يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ في هذا الباب؟ قيل: معناه أنَّ الوحيَ كلَّه مِن قرآنٍ وسُنَّةٍ نزلَ بلسانِ العربِ قُرَيْشٍ وغيرِهم مِن طوائف العرب كلِّها، وأنَّه صلعم لم يخاطب مِن الوحيِ كلِّه إلَّا بلسانِ العربِ، وبه تكلَّم(3) صلعم إلى السَّائل(4) له عن الطِّيب للمُحْرِمِ(5)، وبيَّن هذا قولُه ╡: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ(6)}[إبراهيم:4].
          فهذا حتمٌ مِن الله تعالى لكلِّ أمَّةٍ بعث إليها رسولًا ليبيِّن لهم ما أُنزِل إليهم مِن ربِّهم، فإن عزب معناه على بعض مَن سمعَه بيَّنَه الرَّسُول له بما يفهمُه المبيَّن له، ودلَّ قول عُثْمَانَ ☺: (إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّه نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ) على تشريف قُرَيْشٍ على سائر النَّاس وتخصيصِهم بالفضيلة الباقية إلى الأبد حين اختار الله تعالى إثبات وحيِه الَّذي هدى به مِن الضَّلالة بلغتِهم وتعبيرَه بلسانهم وحسبك بهذا مِن شرفٍ باقٍ.
          قال أبو بَكْرِ بنُ الطَّيِّبِ: ومعنى قول عُثْمَانَ: فإنَّه نزل بلسان قُرَيْشٍ، يريد معظمَه وأكثرَه، ولم تقم دِلالةٌ قاطعةٌ على أنَّ القرآن بأسرِه منزلٌ بلغة قُرَيْشٍ فقط، وأنَّه لا شيءٌ فيه بلغة(7) غيرِهم، لأنَّه(8) قد ثبت أنَّ في القرآن همزًا كثيرًا وثبت أنَّ قُرَيْشًا لا تهمز وثبت فيه كلماتٌ وحروفٌ هي خلاف لغة قُرَيْشٍ، وقد قال الله تعالى(9): {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[الزُّخرف:3]ولم يقل قُرَشِيًّا، وهذا يدلُّ أنَّه منزلٌ بجميع لسان العرب، وليس لأحدٍ أن يقول أراد قُرَيْشًا مِن العرب دون غيرِها، كما أنَّه ليس له أن يقول أراد لغة عدنان(10) دون قحطان، أو رَبِيْعَة دون مُضر لأنَّ اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولًا واحدًا.
          ولو ساغ لمدَّعٍ أن يدَّعي أنَّه أراد قبيلةً مِن قبائل العرب لساغ لآخرَ أن يقول: إنَّ قولَه أنَّه مُنَزَّلٌ بلسان قُرَيْشٍ أنَّه أُرِيْدَ به قبيلةً مِن قُرَيْشٍ دون غيرِها، ومَن قال هذا فقد ظهر تخليطُه.
          وقد قال سَعِيْدُ بنُ المُسَيَّبِ: نزل القرآن بلغة هذا الحيِّ مِن لَدُن هَوازن وثَقيفٍ إلى ضَرِيَّة.
          وقال ابنُ عبَّاسٍ: نزل القرآن بلغة قُرَيْشٍ ولسان خُزَاعَةَ، وذلك أنَّ الدَّار كانت واحدةً، وقد قال(11) صلعم: ((أَنا أَفْصَحُكُمْ لَأَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وَنَشَأْتُ في بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ)) فلا يجب لذلك أن يكون القرآن مُنَزَّلًا بلغة بني سَعْدِ بنِ بَكْرٍ بل لا يمتنع أن ينزل بلغة أفصح العرب وبلغة(12) مَن هو دونهم في الفصاحة، إذا كانت فصاحتُهم غير متفاوتةٍ.
          وقد جاءت الرِّوايات بأنَّ النَّبيَّ صلعم كان يقرأ بلغة قُرَيْشٍ وغير لغتِها، فروى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن الفَضْلِ بنِ أبي خَلْدَةَ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا العَالِيَةِ يقولُ: قُرِئَ القرآنُ عَلَى النَّبيِّ صلعم مِن خمسةِ رجالٍ(13) فاختلفوا في اللُّغة فرضي قراءتَهم كلَّها.
          وكانت بنو تَمِيْمٍ أعرب القوم، فهذا يدلُّ أنَّه كان يقرأ بلغة تَمِيْمٍ وخُزَاعَةَ وأهل لغاتٍ مختلفةٍ، قد أقرَّ جميعَها ورضيَها.


[1] صورتها في (ص): ((الصحابة)).
[2] في (ت): ((يسألني)) وغير واضحة في (ص).
[3] زاد في (ص): ((النبي)).
[4] في (ص): ((للسائل)).
[5] قوله: ((للمحرم)) ليس في (ت) و(ص).
[6] قوله: (({ليبيِّن لهم})) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ت) و(ص): ((فيه من لغة)).
[8] في (ت) و (ص): ((فإنه)).
[9] في (ت) و (ص): ((قال تعالى)).
[10] قوله: ((من العرب دون...أراد لغة عدنان)) ليس في (ت) و(ص).
[11] في (ت) و(ص): ((واحدة، وقال)).
[12] في (ص): ((ولغة)).
[13] في المصنف ح (33173) طبعة الشيخ محمد عوامة: ((مِن كلِّ خمسٍ رجلٌ)).