شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حسن الصوت بالقراءة

          ░31▒ بَابُ: حُسْنِ الصَّوْتِ بِالقِرَاءَةِ.
          فيهِ: أَبُو مُوسَى، أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ لَهُ(1): (لَقَدْ أُوتِيْتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيْرِ آلِ دَاوُدَ). [خ¦5048]
          وروى ابنُ شِهَابٍ عن أبي سَلَمَةَ قالَ: كانَ عُمَرُ إذا رأى أبا مُوسَى قالَ: ذكِّرْنَا ربَّنا يا أبا مُوسَى. فيقرأُ عندَهُ. وقال أبو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: كانَ أبو مُوسَى يُصَلِّي بنا فلو قلت: إنِّي لم أسمع صوت صَنْجٍ قطُّ ولا صوت بَرْبَطٍ ولا شيئًا قطُّ أحسن مِن صوتِهِ.
          قال أبو عُبَيْدٍ: ومحمل الأحاديث الَّتي جاءت في حُسْنِ الصَّوت إنَّما هو(2) على طريق الحزن والتَّخويف والتَّشويق. يبيِّن ذلك حديث أبي مُوسَى أنَّ أزواج النَّبيِّ صلعم سمعوا قراءتَه فأُخْبِر بذلك فقالَ: لو علمت لشوَّقت تشويقًا وحبَّرت تحبيرًا، فهذا وجهُه، لا الألحان المطربة الملهية.
          روى سُفْيَانُ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ طَاوُسٍ عن أبيه قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ صَوْتًا بِالقُرْآنِ؟ قَالَ: الَّذِي إِذَا سَمِعْتَهُ رَأَيْتَهُ يَخْشَى اللهَ ╡)) وعنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ السَّائِبِ قالَ: قَدِمَ علينا سَعْدٌ بعدما كُفَّ بصرُهُ فأتيتُه مسلِّمًا فانتسبني فانتسبت(3) له، فقال: مرحبًا بابنِ أخي، بلغني أنَّكَ حسنُ الصَّوتِ بالقرآنِ، وسمعْتُ النَّبيَّ صلعم يقولُ: ((إِنَّ هَذَا القُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكَوا فَتَبَاكُوا)).
          وذكر أبو عُبَيْدٍ بإسناده قالَ: كنَّا على سطحٍ ومعنا رَجُلٌ من أصحاب النَّبيِّ صلعم، قال المحدِّث: ولا أعلمه إلَّا عِيسَى الغِفَارِيُّ، فرأى النَّاس يخرجون في الطَّاعون يفرُّون فقال: يا طاعون، خذني إليك، فقيل: أتتمنَّى الموت وقد نهى النَّبيُّ صلَّى الله علييه وسلَّم عن ذلك؟ قال: إنِّي أبادر خصالًا، سمعت النَّبيَّ صلعم يَتَخَوَّفَهُنَّ على أمَّتِهِ: بَيْعَ الحُكْمِ، والاستخفافُ بالدَّمِ، وقطيعةُ الرِّحِمِ، وقومٌ(4) يتَّخذونَ القرآنَ مزاميرَ يقدِّمون أحدهم ليس بأفقهِهم ولا أفضلِهم إلَّا ليغنِّيهم به غناءً.
          وقال أبو سُلَيْمَانَ الخَطَّابِيُّ: قولُه: (آلِ دَاوُدَ) فإنَّه أراد داودَ نفسَه لأنَّا لا نعلم أحدًا مِن آله أُعْطِيَ مِن حُسْنِ الصَّوت ما أُعْطِيَ داودَ ◙. قال غيرُه: والآلُ عند العرب الشَّخْصُ. قال أبو سُلَيْمَانَ: وسُئِلَ أبو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بنُ المُثَنَّى عن رَجُلٍ أوصى لآلِ فلانٍ: ألفلانٍ نفسِه المُسَمَّى مِن هذا شيءٌ؟ قالَ: نَعَمْ. قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ}[غافر:46]، ففِرْعَوْنُ أوَّلَهم وأنشد:
وَلَا تَبْكِ مَيِّتًا بَعْدَ مَيِّتٍ أَجَنَّهُ                      عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ وَآلُ أبي بَكْرٍ /
          يُرِيدُ أبا بَكْرٍ نفسَه، وقال ابنُ عَوْنٍ: كان الحَسَنُ إذا صلَّى على النَّبيِّ صلعم قال: اللَّهُمَّ اجعل صلواتك على آلِ أحمد كما جعلتَها على آلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ. يُرِيدُ بآلِ أحمد(5) نفسَه، لأنَّ الأمر مِن الله بالصَّلاة إنَّما يتوجَّه إليه بقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ}[الأحزاب:56]الآيةَ. وقد يكون آل الرَّجُل أهل بيته الأدنين، وقال زَيْدُ بنُ أَرْقَمَ: آلُ مُحَمَّدٍ آلُ عَبَّاسٍ وآلُ عَقِيْلٍ وآلُ جَعْفَرٍ وآلُ عَلِيٍّ. وقال أبو عُبَيْدٍ في قولِه تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}[البقرة:49]، قال: هم أهل دينِه قال: ولا يجوز ذلك إلَّا في الرَّئيس الَّذي الباقون له تبعٌ، وكذلك آلُ مُحَمَّدٍ إنَّما هم أمَّتُه وأهل دينِه قال: فإذا جاوزت هذا فآل الرَّجُل: أهل بيتِه خاصةً. وقال بعض النَّاس: قول أبي عُبَيْدَةَ خطأٌ عند الفقهاء لم يقل به أَحَدٌ منهم.


[1] قوله: ((له)) ليس في (ت).
[2] في (ت) و(ص): ((هي)).
[3] في (ت): ((وانتسبني وانتسبت)).
[4] في (ص): ((قوم)).
[5] في (ص): ((محمد)) في الموضعين.