شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف

          ░5▒ بَابُ: أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
          فيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَقْرَأَنِي جِبْرِيْلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيْدُهُ وَيَزِيْدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ). [خ¦4991]
          وفيهِ: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: (سَمِعْتُ هِشَامَ بنَ حَكِيْمٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُوْلِ اللهِ صلعم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ على حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيْهَا رَسُولُ اللهِ صلعم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ التي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ صلعم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ(1) أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: كَذَلِكَ / أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ). [خ¦4992]
          قالَ المؤلِّفُ: قد أكثر النَّاس في تأويل هذا الحديث ولم أجد فيه قولًا يسلم مِن(2) المعارضة، وأحسن ما رأيت فيه ما نقلَه أبو عَمرٍو عثمان بنُ سَعِيدٍ المُقْرِئُ في بعض كتبِه ولم يُسَمِّ قائلَه(3)، قال: إنِّي تدبَّرت معنى هذا الحديث وأمعنت(4) النَّظر فيه بعد وقوفي على أقاويل السَّلف والخلف فوجدتُه مُتَعَلِّقًا بخمسة أوجهٍ، هي محيطةٌ بجميع معانيه:
          فأوَّلُها: أن يُقال: ما معنى الأحرف الَّتي أرادها النَّبيُّ صلعم؟ وكيف تأويلُها؟ والثَّاني: ما وجه إنزال(5) القرآن على هذه السَّبعة الأحرف، وما المراد بذلك؟ والثَّالث: في أيِّ شيءٍ يكون اختلاف هذه السَّبعة الأحرف؟ والرَّابع: على كم معنًى تشتمل هذه السَّبعة الأحرف؟ والخامس(6): هل هذه السَّبعة الأحرف كلُّها مُتَفَرِّقةٌ في القرآن موجودةٌ فيه في ختمةٍ واحدةٍ، حتَّى إذا قرأ القارئ بأيِّ حرفٍ مِن حُرُوف أئمَّة القُرَّاء بالأمصار المجتمع على إمامتِهم فقد قرأ بها كلَّها(7)؟ أم(8) ليست كلُّها مُتَفَرِّقةٌ فيه وموجودةٌ في ختمةٍ واحدةٍ؟ وأنا مُبَيِّنٌ ذلك إن شاء الله تعالى.
          فأمَّا معنى الأحرف الَّتي أرادها النَّبيُّ صلعم هاهنا فإنَّه يتوجَّه إلى وجهين: أحدُهما: أن يكون أراد سبعة أوجهٍ مِن اللُّغات بدليل قولِه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ(9)}[الحجُّ:11]فالمراد بالحرف هاهنا الوجه الَّذي تقع عليه العبادة. والمعنى: ومِن النَّاس مَن يعبد الله على النِّعمة تصيبُه والخيرِ ينالُه مِن تثمير المال وعافية البدن وإعطاء السُّؤل، ويطمئنُّ إلى ذلك ما دامت له هذه الأمور واستقامت، فإن تغيَّرت حالُه، وامتحنَه الله بالشِّدَّة في عيشِه والضُّرِّ في بدنِه ترك عبادة ربِّه وكفر به، فهذا عَبَدَ اللهَ ╡(10) على وجهٍ واحدٍ، وذلك معنى الحرف والوجه.
          الثَّاني: أن يكون النَّبيُّ صلعم سمَّى القراءات أحرفًا على طريق السِّعة كنحو ما جرت عليه عادة العرب في تسميتِهم الشَّيء باسم ما هو منه وما قاربَه وما جاورَه(11) وتعلَّق به ضربًا مِن التَّعَلُّقِ وتسميتِهم الجملة باسم البعض منها، فسمَّى النَّبيُّ صلعم القراءة حرفًا، وإن كان كلامًا كثيرًا مِن أجل أنَّ منها حرفًا قد غُيِّرَ بضَمَّةٍ أو كسر أو قلب إلى غيرِه، أو أُمِيْلَ أو زِيْدَ فيه أو نُقِص منه على ما جاء في المختلِّف فيه مِن القراءات، فنسب النَّبيُّ القراءة والكلمة التَّامَّة إلى ذلك الحرف المُغَيَّر، فسمَّى القراءة به؛ إذ كان ذلك الحرف منها على عادة العرب في ذلك كما يُسَمُّونَ القصيدة قافيةً، إذ كانت القافية منها كقول الخَنْسَاءَ:
وَقَافِيَةٌ مِثْلُ حدِّ السِّنانِ                      تَبْقَى وَيَهْلِكُ مَنْ قالَهَا
          تعني: قصيدةٌ، فسُمِّيَتْ قافية على طريق الاتِّساع، كما يُسَمُّون الرِّسالة والخُطْبَة: كلمةٌ(12)، إذ كانت الكلمة منها. قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ بِمَا صَبَرُوا(13)}[الأعراف:137]وقيل: إنَّه ╡ عَنَى بالكلمة هاهنا قولَه في سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِيْنَ(14)}[القصص:5]الآيةَ. وقال مجاهدٌ في(15) قولُه تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}[الفتح:26]قال: لَا إله إلَّا الله، فخاطبَهم صلعم بما جرى تعارفُهم عليه في خطابِهم.
          وأمَّا وجه إنزال القرآن على هذه السَّبعة الأحرف وما أراد الله ╡ بذلك فإنَّما ذلك توسعة مِن الله تعالى على عبادِه ورحمة لهم وتخفيفا(16) عنهم لما هم عليه مِن اختلاف اللُّغات واستصعاب(17) مفارقة كلِّ فريقٍ منهم لطبعِه وعادتِه في الكلام إلى غيرِه، فخفَّف الله تعالى عنهم بأن أقرأهم(18) على مألوف طبعِهم وعادتِهم في كلامِهم، يدلُّ على ذلك ما روى أبو عُبَيْدَةَ مِن حديث حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبيِّ صلعم قالَ: ((لَقِيْتُ جِبْرِيْلَ عِنْدَ أَحْجَارِ المِرِاءِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيْلُ، إِنِّي أُرْسِلْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ: الرَّجُلُ وَالمَرْأَةُ وَالغُلَامُ وَالجَارِيَةُ وَالشَّيْخُ الفَانِي الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ. قَالَ: إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ)).
          وروى(19) حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ مِن حديث أبي بَكْرَةَ: ((أَنَّ جِبْرِيْلَ أَتَى النَّبيَّ صلعم فَقَالَ: اقْرَأِ القُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقَالَ مِيْكَائِيْلُ: اسْتَزِدْهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقَالَ مِيْكَائِيْلُ: اسْتَزِدْهُ، / حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ كُلٌّ كَافٍ شَافٍ)).
          ويمكن أن تكون هذه السَّبعةُ أوجه مِن اللُّغات هي أفصح اللُّغات، فلذلك أُنزل القرآن عليها. ذكر ثَابِتٌ السَّرَقُسْطِيُّ في هذا المعنى: قولُه: (سَبْعَةَ أَحْرُفٍ) يُرِيدُ والله أعلم على لغات شُعُوبٍ مِن العربِ سبعةٍ أو جماهيرِها كما قال الكَلْبِيُّ: خمسةٌ منها لهَوَازِنَ وحرفان لسائر النَّاس. وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: نزلَ القرآنُ على سبعةِ أحرفٍ صَارَتْ في عَجُزِ هَوَازِنَ منها خمسةٌ. وقال أبو حَاتِمٍ: عَجُزُ هَوَازِنَ ثَقِيْف وبنو سَعْد بن بَكْر وبنو جُشْم وبنو نَصْر(20)، قال أبو حَاتِمٍ: خصَّ هؤلاء دون رَبِيْعَةَ وسائر العرب لقرب جوارهم مِن مولدِ النَّبيِّ صلعم ومنزلِ الوحيِ، وإنَّما مُضَرٌ ورَبِيْعَةُ أخوان. قال قَتَادَةُ عن سَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ: نزل القرآن على لغة هذا الحي مِن لَدُنِ هَوَازِنَ وثَقِيْفٍ إلى ضَرِيَّة.
          وأمَّا في أيِّ شيءٍ يكون اختلاف هذه السَّبعة أحرفٍ فإنَّه يكون في أوجهٍ كثيرةٍ:
          منها تغيُّر اللَّفظ نفسِه وتحويلِه إلى لفظٍ آخرَ كقولِه تعالى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ}[الفاتحة:4]بغير ألف، و{مَالِكِ} بألف، والسِّراط بالسِّين والصَّاد والزَّاي، ومنها الإثبات والحذف كقولِه تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا}[البقرة:116]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[آل عِمْرَان:133]، {وَالَّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا}[التَّوبة:107]بالواو وبغير واو، ومنها تبديل الأدوات كقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيْمِ}[الشُّعراء:217]في الشُّعراء بالفاء، وتوكَّل بالواو {فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} بالفاء، {وَلَا يَخَافُ(21)}[الشمس:15]بالواو(22)، ومنها التَّوحيد والجمع كقولِه تعالى: {الرِّيْحُ} و{الرِّيَاحُ}، ومنها(23) {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67]، و{رِسَالَاتِهِ} و{آيَةٌ لِلَسَّائِلِيْنَ} و{آيَاتٌ}[يوسف:7].
          ومنها: التَّذكير والتَّأنيث كقولِه تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}[البقرة:48]بالياء والتَّاء، و{فَنَادَاهُ المَلَائِكَةُ} و{فَنَادَتْهُ}[آل عِمْرَان:39]، و{اسْتَهَوَاهُ الشَّيَاطِيْنُ} و{اسْتَهْوَتْهُ}[الأنعام:71]، ومِنها التَّشديد والتَّخفيف كقولِه تعالى: {بِمَا كَانُوا يَكْذِّبُونَ}[البقرة:10]بتشديد الذَّال وتخفيفِها، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِيْنَ}[البقرة:102]{وَلَكِنَّ البرَّ}[البقرة:177]بتشديد النُّون وتخفيفِها(24)، ومنها(25) الخطاب والإخبار كقولِه تعالى: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة:144]و{أَفَلَا يَعْقِلُونَ}[يس:68]، {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}[البقرة:13]، وشبه ذلك بالتَّاء على الخطاب وبالياء على الإخبار، ومنها الإخبار عن النَّفس والإخبار عن غير النَّفس، كقولِه تعالى: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ(26) حَيْثُ نَشَاءُ}[الزُّمر:74]بالنُّون وبالياء، {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ}[يُونُس:100]بالنُّون والياء، ومنها التَّقديم والتَّأخير كقولِه تعالى: {وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا}، {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا}[آل عِمْرَان:195]و{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[التَّوبة:111]، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيْرٍ مِنَ المشركين قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَائِهِمْ} و{قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ}[الأنعام:137]وشبهه.
          ومنها: النَّهي والنَّفي كقولِه تعالى: {وَلَا تَسْئَلْ عَنْ أَصْحَابِ الجَحِيْمِ} بالجزم على النَّهي {وَلَا تُسْأَلُ}[البقرة:119]بالرَّفع على النَّفي {وَلَا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} بالتَّاء والجزم على النَّهي {وَلَا يُشْرِكُ}[الكهف:26]بالياء والرَّفع على النَّفي.
          ومنها: الأمر والإخبار كقولِه تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيْمَ مُصَلًّى}[البقرة:125]بكسر الخاء على الأمر {واتَّخَذُوا} بالفتح على الإخبار، و{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي}[الإسراء:93]و{قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ}[الأنبياء:40]على الأمر، و{قال} على الخبر، وشبهه.
          ومنها: تَغَيُّرِ الإعراب وحدَه كقوله تعالى: {وَصِيَّةًٌ لأَزْوَاجِهِمْ}[البقرة:240]بالنَّصب والرَّفع(27) و{تِجَارَةًٌ حَاضِرَةً}[البقرة:282]بالرَّفع والنَّصب، {وَأَرْجُلَـِكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ}[المائدة:6]بالنَّصب والجرِّ، وما أشبهه.
          ومنها: تغيير الحركات اللَّوازم كقولِه: {وَلَا تَحْسـَِبَنَّ}[آل عِمْرَان:169]بكسر السِّين وفتحِها {وَمَنْ يَقْنَـِطُ}[الحجر:56]، و{يَقْنَـِطُونَ}[الرُّوم:36]بكسر النُّون وفتحِها، و{يَعْرُِشُوْنَ}[الأعراف:137]و{يَعْكُـِفُوْنَ}[الأعراف:138]بكسر الرَّاء والكاف وضمِّها و{الوَِلَايَةُ}[الكهف:44]بكسر الواو وفتحِها.
          ومنها: التَّحريك والتَّسكين كقولِه: {خُطُـْوَاتِ الشَّيْطَانِ}[البقرة:168]بضمِّ الطَّاء وإسكانِها، و{عَلَى المُوْسِعِ قَدَْرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَْرُهُ}[البقرة:236]بفتح الدَّال وإسكانِها.
          ومنها: الإتباع وتركُه كقولِه تعالى: {فَمَنُِ اضْطُرَّ}[البقرة:173]، و{أَنُِ اعْبُدُوا اللّهَ}[المائدة:117]، {وَلَقَدُِ اسْتُهْزِئَ}[الأنعام:10]، بالضَّمِّ والكسر؛ فالضَّمُّ(28) لالتقاء السَّاكنين اتِّبَاعًا لضَّمِّ ما بعدهنَّ، وبالكسر للساكنين مِن غير اتِّباع، ومنها الصَّرف وتركُه كقولِه: {وَعَادًا وَثَمُودَاً}[الفرقان:38]، و{أَلَا بُعْدًا لِثَمُوْدٍَ}[هود:68]بالتَّنوين وتركِه.
          ومنها: اختلاف اللُّغات كقوله: {جِبْرِيلَ} بكسر الجيم مِن غير همزٍ، وبفتحها كذلك، {وجَبْرَئِيْلَ} بفتح الجيم والرَّاء مع الهمز من غير مدٍّ، وبالهمز والمدِّ.
          ومنها: التَّصرُّف في اللُّغات نحو الإظهار والإدغام، والمدِّ(29) والقصر والإمالة والفتح وبين بين، والهمز وتخفيفُه / بالحذف والبدل وبين بين، والإسكان والرَّوْمِ والإِشْمَامِ عند الوقف على أواخر الكَلِمِ، والسُّكُون على السَّاكن قبل الهمزة وما أشبهَه.
          وقد وَرَدَ التَّوقيف عَنِ النَّبيِّ ◙ بهذا الضَّرب مِن الاختلاف وأذن فيه لأمَّتِه بالأخبار الثَّابتة، وفيما روى أبو عُبَيْدٍ قال: حدَّثنا نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ حدَّثنا بَقِيْةُ بنُ الوَلِيْدِ عن حُصَيْنِ بنِ مَالِكٍ قال: سمعت شيخًا يُكنى أبا مُحَمَّدٍ، عن حُذَيْفَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ◙: ((اقْرَؤُوا القُرْآنَ بِلَحْنِ العَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا)) ولحونُها وأصواتُها: مذاهبُها وطباعُها.
          ووجه هذا الاختلاف في القرآن أنَّ رَسُوْلَ اللهِ ◙ كان يعرض القرآن على جِبْرِيْلَ في كلِّ عامٍ عرضةً، فلمَّا كانَ العامُ الَّذي تُوُفِّي فيه عرضه عليه عرضتين(30)، فكان جِبْرِيْلُ يأخذ عليه في كلِّ عرضةٍ بوجهٍ مِن هذه الوجوه والقراءات(31) المختلفة، ولذلك قال ◙: ((إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا كُلُّهَا كَافٍ شَافٍ)) وأباح لأمُّتِه القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعِها؛ إذ كانت كلُّها مِن عند الله مُنَزَّلَةً، ومنه(32) ◙ مأخوذةٌ، ولم يُلزم أمَّتَه حفظَها كلَّها ولا القراءة بأجمعِها(33)، بل هي مخيَّرةٌ في القراءة بأيِّ حرفٍ شاءت منها كتخييرِها إذا حنثت في يمينٍ أن تُكفِّر إن شاءت بعتقٍ أو بإطعامٍ أو بكسوةٍ، وكالمأمور في الفدية بالصِّيام أو الصَّدقة أو النُّسك، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ ◙ صوَّب مَن قرأ ببعضِها كما صوَّب قراءة هِشَامِ بنِ حَكِيْمٍ وقراءة عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ حين تناكرا القراءة وأقرَّ أنَّه كذلك قُرِئ عليه، وكذلك أنزل عليه.
          وأمَّا على كم وجهٍ يشتمل اختلاف هذه السَّبعة الأحرف فإنَّه يشتمل على ثلاثة معانٍ:
          أحدها: اختلاف اللَّفظ والمعنى واحدٌ، نحو قولِه(34) تعالى: {الصِّرَاطَ}[الفاتحة:6]بالصَّاد والسِّين والزَّاي و{عَلَيْهِـُمُْ} و{إِلَيْهِـُمُْ}[آل عمران:77]بضمِّ الهاء مع إسكان الميم، وبكسر الهاء مع ضمِّ الميم وإسكانها وشبه ذلك.
          والثَّاني: اختلاف اللَّفظ والمعنى(35) جميعًا مع جواز أن يجتمعا في شيءٍ واحدٍ، لعدم تضادِّ اجتماعِهما فيه، نحو قولِه: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ} بغير الألف، و{مَالِكِ}[الفاتحة:4]بالألف(36) لأنَّ المراد بهاتين القراءتين هو الله سبحانه، وذلك أنَّه مالك يوم الدِّين ومَلِكُه، فقد اجتمع له الوصفان جميعًا فأخبر بذلك في القراءتين ونحو ذلك: {بِمَا كَانُوا يَكْذِِّبُونَ}[البقرة:10]، بتخفيف الذَّال وتشديدها لأنَّ المراد بهاتين القراءتين جميعًا هم(37) المنافقون، وذلك أنَّهم كانوا يكذِبون في أخبارهم ويكذِّبون النَّبيَّ ◙.
          والثَّالث: اختلاف اللَّفظ والمعنى جميعًا مع امتناع جواز اجتماعِهما في شيءٍ واحدٍ كقولِه تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِِّبُوا}[يوسف:110]بالتَّشديد لأنَّ المعنى: وتيقُّن الرُّسل أنَّ قومَهم قد كذَّبوهم فيما أخبروهم به مِن أنَّه إن لم يؤمنوا بهم نزل(38) العذاب بهم، فالظَّنُّ في القراءة الأولى يقين والضَّمير الأوَّل للرُّسل، والثَّاني للمرسل إليهم، والظَّنُّ في القراءة الثَّانية شكٌّ، والضَّمير الأوَّل للمرسل إليهم والثَّاني للرُّسل، ويشبه ذلك مِن اختلاف القراءتين الَّلتين لا يصحُّ أن تجتمعا في شيءٍ واحدٍ لتضادِّ المعنى، وكلُّ قراءةٍ منهما بمنزلة آيةٍ قائمةٍ بنفسِها.
          وأمَّا هذه(39) السَّبعة الأحرف فإنَّه لا يُتَمَكَّن(40) القراءة بها في ختمةٍ واحدةٍ، فإذا قرأ القارئ بروايةٍ مِن رواية القُرَّاء فإنَّما قرأ ببعضِها لا بكلِّها، لأنَّا(41) قد أوضحنا قبل أنَّ المراد بالسَّبعة أحرفٍ سبعة أوجهٍ مِن اللُّغات كنحو اختلاف الإعراب والحركات والسُّكون(42)، والإظهار والإدغام، والمدِّ والقصر، وغير ذلك مما قدَّمناه(43).
          وإذا كان كذلك فمعلومٌ أنَّه مَن قرأ بوجهٍ مِن هذه الأوجه فإنَّه لا يمكنه أن يُحَرِّكَ الحرف ويُسكِّنَه في حالةٍ واحدةٍ أو يقدِّمَه ويؤخِّرَه(44)، أو يظهرَه ويدغمَه، أو يمدَّه ويقصرَه، أو يفتحَه ويميلَه وشبه ذلك، غير أنَّا لا ندري أيُّ هذه السَّبعة أحرفٍ كان آخر العرض، وأنَّ جميع هذه الأحرف قد ظهر واستفاض عَنِ النَّبيِّ(45) ◙ وضبطتْها الأمَّة على اختلافِها عنه، وأنَّ معنى إضافة كلِّ حرفٍ إلى مَن أضيف إليه كأُبَيٍّ وزَيْدٍ وغيرهم مِن قِبَلِ أنَّه كان أضبط له وأكثر قراءةً وأقرأ به، وكذلك إضافة القراءات(46) إلى أئمَّة القُرَّاء بالأمصار، على معنى أنَّ ذلك الإمام اختار القراءة بذلك الحرف، وآثرَه على غيرِه، ولزمَه وأخذ عنه فلذلك أُضيف إليه، وهذه إضافة اختيارٍ لا إضافة اختراعٍ.
          قال أبو جَعْفَرَ الدَّاوُدِيُّ: والسَّبع المقارئ(47) الَّتي يتعلَّمُها النَّاس اليوم ليس كلُّ حرفٍ منها هو أحد السَّبعة الَّتي أُنزلت على رَسُولِ اللهِ ◙، قد يكون في حرفٍ مِن هذه / شيءٌ مِن إحدى أولئك السَّبع، وشيءٌ مِن الأخرى. وقال أبو عبدِ اللهِ بنُ أبي صُفْرَةَ: وهذه السَّبع القراءات الَّتي بأيدي النَّاس إنَّما تفرَّعت مِن حرفٍ واحدٍ مِن السَّبعة الَّتي في الحديث وهو الحرف الَّذي جمع عليه عثمان المصحف، ذكر ذلك ابنُ النَّحَّاسِ وغيرُه(48).


[1] قوله: ((به)) ليس في (ت) و(ص).
[2] في (ص): ((عن)).
[3] قوله: ((قائلة)) ليس في (ت) و(ص).
[4] في (ص): ((وأنعمت)).
[5] في (ت) و(ص): ((تأويل)).
[6] قوله: ((الأحرف)) ليس في (ص)، وقوله: ((الخامس)) ليس في (ت).
[7] في (ص): ((بكلها)).
[8] في (ت) و (ص): ((أو)).
[9] قوله: ((وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه)) ليس في (ت) و (ص).
[10] زاد في (ص): ((لا)).
[11] في (ت) و(ص): ((وما قاربه وجاوره)).
[12] في (ت): ((والكلمة خطبة)).
[13] قوله: ((عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ بِمَا صَبَرُوا)) ليس في (ت) و (ص).
[14] قوله: ((وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِيْنَ)) ليس في (ت) و (ص).
[15] قوله: ((في)) ليس في (ت) و (ص).
[16] في (ت) و(ص): ((تخفيفًا)).
[17] في (ت) و(ص): ((الاختلاف واستصعاب)).
[18] في (ص): ((أقرهم)).
[19] في (ص): ((روى)).
[20] في (ز) و (ت): ((مضر)) والمثبت من (ص).
[21] في المطبوع: ((ولا يخاف عقباها)).
[22] في (ص): ((بالفاء والواو)).
[23] قوله: ((منها)) زيادة من (ص).
[24] قوله: (({وَلَكِنَّ الشَّيَاطِيْنَ} {وَلَكِنَّ البرَّ} بتشديد النُّون وتخفيفها)) ليس في المطبوع.
[25] في (ت) و(ص): ((ومنه)).
[26] في نسخنا والمطبوع: ((منها)) والمثبت التلاوة.
[27] في المطبوع: ((وبالرَّفع)).
[28] في (ت): ((والضَّمُّ)).
[29] قوله: ((والمدِّ)) ليس في (ت) و(ص).
[30] في المطبوع: ((مرتين)).
[31] في (ص): ((والقراءة)).
[32] في (ص): ((منه)).
[33] في (ت) و(ص): ((القراءة بها)).
[34] في (ت): ((واحد لقوله)).
[35] قوله: ((واحد نحو قوله... اختلاف اللفظ والمعنى)) ليس في (ص).
[36] في (ت) و(ص): ((يوم الدِّين بغير ألف وبألف)).
[37] قوله: ((هم)) ليس في (ت) و(ص).
[38] في (ص): ((يؤمنوا نزل بهم)).
[39] قوله: ((هذه)) ليس في (ت).
[40] في (ت): ((أنَّه لا تمكن)) في المطبوع: ((لا يمكن)).
[41] في (ت): ((فإنَّا)) وفي (ص): ((وإنَّا)).
[42] صورتها في (ز): ((والسكوت)) والمثبت من (ت) و (ص).
[43] قوله: ((مما قدَّمناه)) ليس في (ت) و(ص).
[44] في (ص): ((أو يؤخره)).
[45] في (ص): ((الرسول)).
[46] في (ص): ((القراءة)).
[47] قوله: ((المقارئ)) ليس في (ص).
[48] قوله: ((ذكر ذلك ابن النحاس وغيره)) ليس في (ص).