شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تأليف القرآن

          ░6▒ بَابُ: تَأْلِيْفِ القُرْآنِ.
          فيهِ: عَائِشَةُ، جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ، فَقَالَ: أَيُّ الكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ، وَمَا يَضُرُّكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، أَرِينِي مُصْحَفَكِ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُؤلِّفُ القُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ، قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ نَزَلَ الحَلالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر:46]وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ المُصْحَفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ. [خ¦4993]
          وفيهِ: ابنُ مَسْعُودٍ، قَالَ في بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطَهَ وَالأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُنَّ مِنَ العِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ(1) مِنْ تِلَادِي. [خ¦4994]
          وفيهِ: البَرَاءُ، قَالَ: تَعَلَّمْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبيُّ ◙. [خ¦4995]
          وفيهِ: ابنُ مَسْعُودٌ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ(2) النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبيُّ ◙ يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ في رَكْعَةٍ، فَسَأَلْنَا عَلْقَمَةَ، فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ المُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ مِنَ الحَوَامِيمُ (حم الدُّخَانِ)، و(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ). [خ¦4996]
          قال أبو بَكْرِ بنُ الطَّيِّبِ: إن قال قائلٌ: قد اختلف السَّلف في ترتيب سور القرآن فمنهم مَن كتب في مصحفِه السُّور على تاريخ نُزُولِها وقدَّم المكِّيَّ على المدنيِّ، ومنهم مَن جعل في أوَّل مصحفِه {الحَمْدُ للّهِ}[الفاتحة:2]، ومنهم مَن جعل في أوَّلِهِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[العلق:1]، وهذا أوَّل مصحف عليٍّ. وأمَّا مصحف ابنِ مَسْعُودٍ فإنَّ أوَّله {مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ}[الفاتحة:4]، ثمَّ البقرة ثمَّ النِّساء على ترتيبٍ يختلف. روى ذلك طَلْحَةُ بنُ مُصَرِّفٍ أنَّه قرأه على يحيى بنِ وَثَّابٍ، وقرأ يحيى بنُ وَثَّابٍ على عَلْقَمَةَ، وقرأ عَلْقَمَةُ على عبدِ اللهِ، ومصحف أُبَيٍّ كان أوَّله: {الحمد لله}، ثمَّ البقرة، ثمَّ النِّساء ثمَّ آل عِمْرَانَ، ثمَّ الأنعام ثمَّ الأعراف، ثمَّ المائدة، ثمَّ كذلك على اختلافٍ شديدٍ.
          قال أبو بَكْرٍ: فالجواب: أنَّه يحتمل أن يكون ترتيب السُّور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد مِن الصَّحابة، وقد قال قومٌ مِن أهل العلم: إنَّ تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان على توقيفٍ مِنَ النَّبيِّ ◙ لهم على ذلك وأمرٍ به.
          وأمَّا ما رُوِيَ مِن اختلاف مصحف أُبَيٍّ وعليٍّ وعبدِ اللهِ إنَّما كان قبل العرض الأخير، وأنَّ رَسُولَ اللهِ ◙ رتَّب لهم تأليف السُّور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يُونُسُ عن ابنِ وَهْبٍ قال: سمعت مالكًا يقول: إنَّما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونَه مِن قراءة رَسُولِ اللهِ، ومَن قال هذا القول لا يقول: إنَّ تلاوة القرآن في الصَّلاة والدَّرس يجب أن يكون مُرَتَّبًا(3) على حسب التَّرتيب الموقف عليه في المصحف؛ بل إنَّما يجب(4) تأليف سُوَره في الرَّسم والكتابة خَاصَّةً.
          ولا نعلم أنَّ أحدًا منهم قال: إنَّ ترتيب ذلك واجبٌ في الصَّلاة، وفي قراءة القرآن ودرسِه وإنَّه لا يحلُّ لأحدٍ أن يتلقَّن الكهف قبل البقرة، ولا الحجَّ بعد الكهف، ألا ترى قول عائشةَ للَّذي سألها أن تُرِيَه مصحفَها ليكتب مصحفًا على تأليفِه: (لَا يَضُرُّكَ أيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟!).
          وأنَّ ما رُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عُمَرَ أنَّهما كرها أن يُقرأ القرآن منكوسًا، وقالا: ذلك منكوس القلب. فإنَّما عَنَيَا بذلك مَن يقرأ السُّورة منكوسةً ويبتدئ مِن آخرها إلى أوَّلها لأنَّ ذلك حرامٌ محظورٌ، ومِن(5) النَّاس مَن يتعاطى هذا في القرآن والشِّعر ليُذَلِّلَ لسانَه بذلك، ويقتدر على الحفظ وهذا مما(6) حظرَه الله ومنعَه في قراءة القرآن لأنَّه إفسادٌ لسُوَرِه، ومخالفةٌ لما قصد بها، ومما يدلُّ أنَّه لا يجب إثبات القرآن في المصاحف على تاريخ نُزُولِه، لأنَّهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يجعلوا بعض آيةِ سورةٍ في سورةٍ أخرى وأن ينقصوا ما وقفوا عليه مِن سياقِه ترتيبَ السُّوَر(7) ونظامَها لأنَّه قد صحَّ / وثبت أنَّ الآيات كانت تنزل بالمدينة فيؤمروا بإثباتِها في السُّورة المكِّيَّة، ويُقال لهم: ضعوا هذه الآية في السُّورة الَّتي يذكر فيها كذا. ألا ترى قول عَائِشَةَ: (وَمَا نَزَلَتْ سُوَرْةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ) يعني بالمدينة، وقد قُدِّمَتَا في المصحف على ما نزل قبلَهما مِن القرآن بمكَّة، ولو أَلَّفُوه على تاريخ النُّزُول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السُّور، وقد كان النَّبيُّ ◙ يقرأ بالنَّاس في الصَّلاة السُّورة في الرَّكعة ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السُّورة الَّتي تليها، وقول ابنِ مَسْعُودٍ في بني إسرائيلَ والكهفِ ومريمَ وطه والأنبياء: (هِيَ مِنَ العِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي) يعني هنَّ(8) ممَّا نزل مِن القرآن أَوَّلًا.
          قال صاحب «العين»: العتيق القديم مِن كلِّ شيءٍ، والتِّلَاد: ما كسب مِن المال قديمًا فيُرِيدُ أنَّهنَّ مِن(9) أوَّل ما حفظَه مِن القرآن.
          وقولُه: (ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ) رجعوا إليه. قال صاحب «العين»: ثَابَ الشَّيء يَثُوبُ ثؤوبًا رَجَعَ. ومنه قولُه تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}[البقرة:125]، أي يرجعون إليه.


[1] في (ت) و(ص): ((وهو)).
[2] في (ت) و(ص): ((علمت)).
[3] في (ت) و(ص): ((مترتلًا)).
[4] قوله: ((يجب)) ليس في (ص).
[5] في (ت): ((في)).
[6] قوله: ((مما)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((وأن ينقصوا ما وقفوا عليه من سياقه ترتيب السُّور)) ليس في (ت) و(ص).
[8] قوله: ((هن)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((من)) ليس في (ص).