شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القائف

          ░31▒ باب: الْقَائِفِ
          فيه: عَائِشَةُ: (إِنَّ النَّبيَّ صلعم دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إلى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأقْدَامَ بَعْضُهَا لَمِنْ بَعْضٍ). [خ¦6770]
          وقال مَرَّةً: (عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ). [خ¦6771]
          في هذا الحديث إثبات الحكم بالقافة، وممَّن قال بذلك أنس بن مالكٍ، وهذا أصحُّ الروايتين عن عمر، وبه قال عطاءٌ، وإليه ذهب مالكٌ والأوزاعيُّ والليث والشافعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ.
          وقال الثوريُّ وأبو حنيفة وأصحابه: الحكم بالقافة باطلٌ وذلك تخرُّصٌ وحدسٌ لا يجوز ذلك في الشريعة، قالوا وليس في حديث أسامة حجَّةٌ في إثبات الحكم بالقافة؛ لأنَّ أسامة قد كان ثبت نسبه قبل فلم يحتج النبيُّ صلعم في ذلك إلى قول أحدٍ، ولولا ذلك لما كان دعا أسامة فيما تقدَّم إلى زيدٍ.
          وإنَّما تعجَّب من إصابة مجزِّزٍ كما يتعجَّب من ظنَّ الرجل الذي يصيب بظنِّه حقيقة الشيء ولا يجب الحكم بذلك، وترك الإنكار عليه؛ لأنَّه لم يتعاط بقوله إثبات ما لم يكن ثابتًا فيما تقدَّم. هذا وجه الحديث، قاله الطحاويُّ.
          وقال أهل المقالة الأولى: لو كان قول مجزِّزٍ على جهة الظنِّ والحدس وعلى غير سبيل الحقِّ والقطع بالصحَّة لأنكر ذلك النبيُّ صلعم على مجزِّزٍ، ولقال له وما يدريك، ولم يسرَّ النبيُّ صلعم بذلك؛ لأنَّه ليس من صفته أن يسرَّ بأمرٍ باطلٍ عنده لا يسوغ في شريعته، وكان أسامة أسود وكان زيد أبيض فكان المشركون يطعنون في نسبه، وكان يشقُّ ذلك على النبيِّ صلعم فسرَّ بذلك لمكانهما منه.
          وقد كانت العرب تعرف من صحَّة القافة في بني مدلجٍ وبني أسدٍ ما قد شهر عنهما ثمَّ وردت السنَّة بتصحيح ذلك، فصار أصلًا، والشيء إنَّما يصير شرعًا للنبيِّ صلعم إمَّا بقوله أو بفعله أو بأن يقرَّ عليه، فلو كان إثبات النسب من جهته باطلًا لم يجز أن يقرَّ عليه مجزِّزًا بل كان ينكره عليه ويقول له: هذا باطلٌ في شريعتي، فلمَّا لم ينكره وسرَّ به كان سنَّةً.
          وذهب مالكٌ في المشهور عنه إلى أنَّ الحكم بالقافة في أولاد الإماء دون الحرائر، وروى ابن وهبٍ عنه أنَّ الحكم بالقافة في ولد الزوجة وولد الأمة، وبهذا قال الشافعيُّ.
          قال ابن القصَّار: وصورة الولد الذي يدَّعيه الرجلان من الأمة هو أن يطأ إنسانٌ أمته ثمَّ يبيعها من آخر فيطؤها الثاني قبل الاستبراء من الأوَّل فتأتي بولدٍ لأكثر من ستَّة أشهرٍ من وطء الثاني؛ فإنَّ الحكم بالقافة هاهنا واجبٌ، ولو أتت به لأقلَّ من ستَّة أشهرٍ من وطء الثاني فالولد للأوَّل.
          فوجه قول مالكٍ أنَّ القافة في ولد الإماء؛ لأنَّه يصحُّ ملك جماعة رجالٍ الأمة في وقتٍ واحدٍ ووطؤهم لها وإن كان وطء جميعهم غير مباحٍ، وإذا كان ذلك فقد تساووا كلُّهم فليس أحدٌ أولى بالولد من صاحبه إذا تنازعوه لاستوائهم في شبهة الفراش بالملك، وأمَّا الحرَّة فإنَّ الواطىء الثاني لا يساوي الأوَّّل في الحرمة والقوَّة فلم يطأ وطأً صحيحًا من قبل أنَّه إمَّا أن يطأ زوجة زيدٍ مثل أن يتزوَّجها وهو لا يعلم أنَّ لها زوجًا فقد فرَّط؛ لأنَّه كان يمكن أن يتعرَّف ذلك ولا يقدم على وطء زوجةٍ وهي فراشٌ لغيره، أو يتزوَّجها في عدَّتها فهو في التقصير كذلك، أو يجد امرأةً على فراشه ويطأها وهولا يعلم فالولد لاحقٌ بصاحب الفراش الصحيح بقوَّته.
          وأمَّا وجه رواية ابن وهبٍ أنَّ القافة تكون في ولدٍ للزوجات ولاجتماع الواطئين في شبهة النكاح والملك؛ لأنَّ الولد يلحق بالنكاح الصحيح وشبهته وبالملك الصحيح وشبهته؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما لو انفرد بالوطء للحقه النسب، فكذلك إذا اشتركا فيه وجب أن يستويا في الدعوى، فوجب أن يحكم بالولد لأقربهما شبهًا به لقوَّة سببه؛ لأنَّ شبه الولد ممَّن هو منه من أدلِّ أدلَّة الله تعالى فوجبت القافة.
          وروى أشهب وابن نافعٍ عن مالكٍ أنَّه لا يؤخذ إلَّا بقول قائفين، وهو قول الشافعيِّ، وقال ابن القاسم: إنَّ القائف الواحد يجزئ.
          وقال الزبير بن بكَّارٍ: إنَّما قيل له مجزِّزًا؛ لأنَّه كان إذا أخذ أسيرًا حلق لحيته.
          و(أَسَارِيرُ وَجْهِهِ): هي خطوطٌ بين الحاجبين وقصاص الشعر.
          وروي عن عائشة أنَّها قالت: ((دخل عليَّ رسول الله صلعم تبرق أكاليل وجهه)) جمع إكليلٍ، وهي ناحية الجبهة وما يتَّصل بها من الجبين. وذلك أنَّ الإكليل إنَّما يوضع هناك، وكلُّ ما أحاط بالشيء وتكلَّله من جوانبه فهو إكليلٌ. عن الخطَّابيِّ.