شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إثم من تبرأ من مواليه

          ░21▒ باب: إِثْمِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ مَوَالِيهِ
          فيه: عَلِيٌّ قَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: فَأَخْرَجَهَا فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الإبِلِ.. الحديثَ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ. [خ¦6755]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ). [خ¦6756]
          في نهيه صلعم عن بيع الولاء وعن هبته دليلٌ أنَّه لا يجوز للمولى التبرُّؤ من ولاء مواليه، وأنَّ مَنْ تبرَّأ منه وأنكره كمن باعه أو وهبه في الإثم.
          فإن قال قائلٌ قوله صلعم: (مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ) يدلُّ أنَّه يجوز أن يوالي قومًا بإذن مواليه. وبه قال عطاء بن أبي رَبَاحٍ، قال: إن أذن الرجل لمولاه أن يوالي من شاء جاز ذلك استدلالًا بهذا الحديث. ذكره عبد الرزَّاق، وهذا يوافق ما روي عن ميمونة بنت الحارث أنَّها وهبت ولاء مواليها للعبَّاس وولاؤهم اليوم لهم(1).
          وقد ذكرنا ذلك في باب بيع الولاء وهبته في كتاب(2) المدبَّر. [خ¦2535]
          قيل: جماعة الفقهاء لا يجيزون ما قال(3) عطاءٌ ولا ما روي عن ميمونة، وقد احتجَّ مالكٌ في منع ذلك.
          قيل له: الرجل يبتاع نفسه من سيِّده على أنَّه يوالي من شاء. قال: لا يجوز ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قال: ((الولاء لمن أعتق))، ونهى عن بيع الولاء وهبته، فإذا جاز لسيِّده أن يشترط ذلك له فإن يأذن له أن يوالي من شاء، فتلك الهبة التي نهى النبيُّ صلعم عنها. رواه ابن وهبٍ.
          فإن قال قائلٌ: فما تأويل حديث عليٍّ على هذا القول؟
          قيل: يحتمل أن يكون منسوخًا بنهيه صلعم عن بيع الولاء وعن هبته، ويحتمل ألَّا يكون منسوخًا ويكون تأويله كتأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}[الإسراء:31]ودلَّ(4) ظاهر هذا الخطاب أنَّ النهي عن قتل الأولاد لمَّا اقترن بخشية الإملاق كان قتلهم مباحًا إذا لم يخش الإملاق، وأجمعت الأمَّة على أنَّ النهي عن قتلهم عامٌّ في كلِّ حالٍ وإن لم يخش إملاق. وكقوله تعالى(5): {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ}[النساء:23]ودلَّ ظاهر هذا الخطاب أنَّ شرط التحريم في الربائب لمَّا اقترن بكونهنَّ في الحجر دلَّ على زوال تحريمهنَّ إذا لم يكنَّ في الحجر(6)، وأجمع أئمَّة الأمصار على أنَّ الربيبة حرامٌ على زوج أمِّها وإن لم تكن في حجره، فلمَّا لم يكن الحجر شرطًا في التحريم ولا ارتفاع خشية الإملاق مبيحةً لقتل الأولاد فكذلك لا يكون ترك إذن الموالي في موالاة غيرهم شرطًا في وجوب لعنة متولِّي غير مواليه، بل اللعنة متوجِّهة إليهم في تولِّي غيرهم بإذنهم وبغير إذنهم لعموم نهيه صلعم عن بيع الولاء وهبته، والله الموفق.
          وفيه من الفقه: أنَّه لا يجوز أن يكتب المولى فلان بن فلانٍ وهو مولاه حتَّى يقول فلانٌ مولى فلانٍ، وجائزٌ أن ينتسب إلى نسبه؛ لأنه انتمى إليه؛ لأنَّ الولاء لحمةٌ كلحمة النسب ومن تبرَّأ من ولاء مواليه لم تجز شهادته وعليه التوبة والاستغفار؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قد لعنه، وكلُّ من لعنه فهو فاسقٌ.
          وفيه: جواز لعنة أهل الفسق من المسلمين، ومعنى اللعنة في اللغة الإبعاد عن الخير، وسيأتي في كتاب الحدود معنى نهيه صلعم عن لعن الذي كان يؤتى به كثيرًا ليجلد في الخمر، وأنَّ ذلك ليس بمعارضٍ اللعنة لشارب الخمر وكثيرٍ من أهل المعاصي إن شاء الله تعالى. [خ¦6780]
          وقد تقدَّم تفسير الصرف والعدل في آخر كتاب الحجِّ في باب حرم المدينة(7). [خ¦1870]


[1] في (ص): ((له)).
[2] زاد في (ص): ((بيع)).
[3] في (ص): ((لايجيزون قول)).
[4] في (ص): ((دل)).
[5] في (ص): ((وقوله)).
[6] قوله: ((دل على زوال تحريمهن إذا لم يكن في الحجر)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((معنى نهيه صلعم ..... حرم المدينة.)) ليس في (ص).