شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول النبي: «لا نورث ما تركنا صدقة »

          ░3▒ باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلعم: لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ
          فيه: عَائِشَةُ: أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا(1) بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُمَا مِنْ فَدَكَ، وَسَهْمَيهِمَا مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ(2) صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلَّا صَنَعْتُهُ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ. وذكر الحديث بطوله. [خ¦6725] [خ¦2726]
          وفيه: أَبو هُرَيْرَة قال النَّبيُّ صلعم: (لا يَقْتسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ). [خ¦6729]
          قال المهلب(3): قوله صلعم: (لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) هو في معنى قوله: ((إنَّ آل محمَّدٍ لا تحلُّ لهم الصدقة)) ووجه ذلك _والله أعلم_أن لمَّا بعثه الله ╡ إلى عباده، ووعده على التبليغ لدينه والصدع بأمره الجنَّة، وأمره ألَّا يأخذ منهم على ذلك أجرًا ولا شيئًا من / متاع الدنيا بقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}[الفرقان:57]وكذلك سائر الرسل في كتاب الله كلُّهم يقول: لا أسألكم عليه مالًا ولا أجرًا إن أجري إلَّا على الله. وهو الجنَّة.
          أراد النبيُّ صلعم(4) ألَّا يُنسب إليه من متاع الدنيا شيءٌ يكون عند الناس في معنى الأجر والثَّمن.
          فلم يحلَّ له شيءٌ منها؛ لأنَّ ما وصل إلى المرء وأهله فهو واصلٌ إليه، فلذلك _والله أعلم_ حَرَّم الميراث على أهله لئلَّا يظنَّ به أنَّه جمع المال لورثته، كما حرمهم الصدقات الجارية على يديه في الدنيا لئلَّا يُنسب إلى ما تبرَّأ منه في الدنيا، وفي هذا وجوب قطع الذرائع.
          وقد روى ابن عيينة عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ(5) صلعم قال: ((إنَّا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقةٌ)). فهذا عامٌّ في جميع الأنبياء وظاهر هذا يعارض قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}[النمل:16]قيل: لا معارضة بينهما بحمد الله؛ لأنَّ أهل التأويل قالوا: ورث منه النبوَّة والعلم والحكمة.
          وكذلك قالوا في(6) قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي} الآية[مريم:5]فدعا زكريَّا الله تعالى أن يهب له ولدًا يرث النبوَّة والعلم؛ لأنَّ ذلك إذا صار إلى ولده لحقه من الفضل أكثر ممَّا يلحقه إذا صار ذلك إلى غير ولده(7) لقوله صلعم: ((إنَّ الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده))، فرغب زكريَّا أن يرث علمَه ولده الذي يخرج من صلبه، فيكون تقدير الآية على هذا: {وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِي(8)} هم بنو العمِّ والعصبة، أن يصير إليهم العلم والحكمة من بعدي، ومصير ذلك إلى ولدي أحبُّ إليَّ، فأضمر ذلك. وقال أبو عليٍّ الفسوي في قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي}[مريم:5]فإنَّ الخوف لا يكون من الأعيان وإنَّما يكون ممَّا يؤول منها، فإذا قال القائل: خفت الله ╡ وخفت الناس فالمعنى في ذلك خفت عقاب الله ومؤاخذته، وخفت ملامة الناس، فكذلك قوله: {خِفْتُ(9) الْمَوَالِيَ}[مريم:5]أي خفت بني عمِّي فحذف المضاف، والمعنى: خفت تضييعهم الدين وكيدهم إيَّاه، فسأل ربَّه ╡ وليًّا يرث نبوَّته وعلمه لئلَّا يضيع الدين.
          ويقوِّي ذلك ما روي عن الحسن البصريِّ في قوله(10): {يَرِثُنِي}[مريم:5]يعني: يرث نبوَّتي.
          وقوله صلعم: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقةٌ))، يدلُّ على أنَّ الذي سأل ربَّه أن يرث ولده النبوَّة لا المال، ولا يجوز على نبيِّ الله(11) أن يقول أخاف أن يرثني(12) بنو عمِّي وعصبتي ما فرض الله لهم من مالي، وكان الذي حملهم على ذلك ما شاهدوه من تبديلهم(13) الدين وقتلهم الأنبياء، وقد تقدَّم سائر معاني هذه الأحاديث(14) في كتاب الخمس، [خ¦3096] فأغنى عن إعادة ذلك والحمد الله(15).


[1] في (ص): ((إلى أبي)).
[2] في (ص): ((ماتركنا)).
[3] في (ص): ((المؤلف)).
[4] في (ص): ((أراد ◙)).
[5] في (ص): ((رسول الله)).
[6] زاد في (ص): ((تأويل)).
[7] في (ص): ((ذلك لغير ولده)).
[8] زاد في (ص): ((من ورائي)).
[9] قوله: ((خفت)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((أنه قال)).
[11] في (ص): ((على النبي)).
[12] في (ص): ((أخاف يرثني)).
[13] في (ص): ((تبديل)).
[14] في (ص): ((الأخبار)).
[15] قوله: ((فأغنى عن إعادة ذلك والحمد الله)) ليس في (ص).