شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ذوي الأرحام

          ░16▒ باب: ذَوِي الأرْحَامِ
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:33]قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الأنْصَارِيُّ الْمُهَاجِرِيَّ(1) دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأخُوَّةِ التي آخَى النَّبيُّ صلعم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}(2)[النساء:33]، قَالَ نَسَخَتْهَا: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:33].
          قال المؤلِّف: هكذا وقع في جميع النسخ فلمَّا نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}[النساء:33]نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ(3)}[النساء:33]والصواب أنَّ المنسوخة: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:33]وقد بيَّن ذلك الطبريُّ في روايته. [خ¦6747]
          قال: حدَّثنا أبو أسامة، قال: حدَّثنا إدريس بن زيدٍ، قال: حدَّثنا طلحة بن مصرِّفٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاريُّ المهاجريَّ دون ذوي رحمه للأخوة التي آخا(4) رسول الله صلعم بينهم فلمَّا نزلت هذه الآية {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت.
          فدلَّت هذه الرواية أنَّ الآية الناسخة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} والمنسوخة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}. وروي عن جمهور السلف أنَّ الآية الناسخة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قوله تعالى في الأنفال: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}(5)[الأنفال:75]روي هذا عن ابن عبَّاسٍ وقَتادة والحسن البصريِّ وهو الذي أثبت أبو عبيدٍ في كتاب «الناسخ والمنسوخ».
          وفيها قولٌ آخر روى الزهريُّ عن سعيد بن المسيِّب قال: أمر الله الذين تبنَّوا غير أبنائهم في الجاهليَّة وورثهم في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبًا في الوصيَّة، وردَّ الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة.
          وقالت طائفةٌ: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} محكمةٌ وليست منسوخةً، وإنَّما أمر الله المؤمنين أن يعطى الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك دون الميراث، ذكره الطبريُّ عن ابن عبَّاسٍ {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والنصيحة / والرفادة ويوصى لهم وقد ذهب الميراث، وهو قول مجاهدٍ والسدِّيِّ.
          واختلف(6) السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الأرحام وهم من لا سهم لهم(7) في الكتاب والسنَّة من قرابة الميِّت، وليس بعصبةٍ كأولاد البنات وأولاد الأخوات وأولاد الأخوة(8) للأمِّ، وبنات الأخ، والعمَّة والخالة وعمَّة الأب، والعمِّ أخي(9) الأب لأمِّه، والجدِّ أبي(10) الأمِّ، والجدَّة أمِّ أبي الأمِّ، ومن أدلى بهم.
          فقالت طائفةٌ: إذا لم يكن للميِّت وارثٌ له فرضٌ مسمًّى فماله لموالي العتاقة الذين أعتقوه، فإن لم يكن موالي عتاقه فماله لبيت مال المسلمين، ولا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام، وروي(11) هذا عن أبي بكرٍ الصدِّيق وزيد بن ثابتٍ وابن عمر، وروايةً عن عليٍّ، وهو قول أهل المدينة، الزهريِّ(12) وأبي الزناد وربيعة ومالكٍ، وروي عن مكحولٍ والأوزاعيِّ، وبه قال الشافعيُّ.
          وكان عُمَر بن الخطَّاب وابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ ومعاذٌ وأبو الدرداء يورِّثون ذوي الأرحام ولا يعطون الولاء مع الرحم شيئًا.
          واختلف في ذلك عن عليٍّ، وبتوريث ذوي الأرحام قال ابن أبي ليلى والنخعيُّ وعطاءٌ وجماعة من التابعين، وهو قول الكوفيِّين وأحمد وإسحاق، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأنفال:75]
          وقالوا: قد اجتمع في ذوي الأرحام سببان: القرابة والإسلام فهو أولى ممَّن له سببٌ واحدٌ وهو الإسلام، وقاسوا(13) ابنة الابن على الجدَّة التي وردت فيها السنَّة؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ يدلي بأبي وارثه.
          وحجَّة من لم يورِّث ذوي الأرحام أنَّ الله تعالى قد نسخ الموارثة بالحلف والمؤاخاة والهجرة بقوله تعالى: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأنفال:75]. وإنَّما عني بهذه الآية من ذوي الأرحام من ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل الفرائض المسمَّاة لا جميع ذوي الأرحام؛ لأنَّ هذه الآية مجملةٌ جامعةٌ، والظاهر لكلِّ ذي رحمٍ قرب أو(14) بعد، وآيات المواريث مفسَّرةٌ، والمفسَّر قاضٍ على المجمل ومبيِّنٌ له، فلا يرث من ذوي الأرحام إلَّا من ذكر الله تعالى في آيات المواريث.
          قالوا: وقد جعل النبيُّ صلعم الولاء نسبًا ثابتًا أقام المولى(15) مقام العصبة فقال: ((الوَلاءُ لِمَنْ أَعتَقَ))، ونهى عن بيع الولاء وعن(16) هبته.
          وأجمعت الأمَّة أنَّ المولى المعتق يعقل عن مولاهُ الجنايات التي تحملها العاقلة، فأقاموه مقام العصبة، فثبت بذلك أنَّ حكم(17) المولى حكم ابن العمِّ والرجل من العشيرة، فكان أحقَّ بالمال(18) من ذوي الأرحام الذين ليسوا بعصبةٍ ولا أصحاب فرائض؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قال: ((من ترك مالًا فلعصبته)).
          وأجمعوا أنَّ ما فضل من المال عن أصحاب الفرائض فهو للعصبة وأنَّ من لا سهم له في كتاب الله من ذوي الأرحام لا ميراث له مع العصبة، ثمَّ حكموا للمولى بحكم العصبة فثبت بذلك أنَّ ما فضل عن(19) الفرائض يكون له؛ لأنَّه عصبةٌ.
          وأجمعت الأمَّة أنَّ الميِّت إذا ترك مولاه الذي أعتقه ولم يخلِّف ذا رحمٍ أنَّ الميراث له، فأقاموه مقام العصبة، فصار هذا أصلًا متَّفقًا عليه.
          واختلفوا في توريث من لا سهم له في كتاب الله وليس بعصبةٍ من ذوي الأرحام فيكتفي بما أجمع عليه(20) ممَّا اختلف فيه. عن ابن المنذر.


[1] في (ص): ((المهاجر)).
[2] زاد في (ص): ((مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ)).
[3] قوله: ((قال المؤلف: هكذا وقع.... {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ})) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((آخاها)).
[5] زاد في (ص):((فِي كِتَابِ اللهِ)).
[6] في (ص): ((وقد اختلف)).
[7] في (ص): ((له)).
[8] قوله: ((وأولاد الأخوة)) زيادة في (ص).
[9] في (ز) و(ص): ((أخي)) والمثبت هو الجادة.
[10] في (ز): ((أبي))، وفي (ص): ((أب)) والمثبت هو الجادة.
[11] في (ص): ((روي)).
[12] في (ص)((والزهري)).
[13] في (ص): ((وقالوا)).
[14] في (ص) ((أم)).
[15] في (ص): ((أقام الولاء)).
[16] قوله: ((عن)) ليس في (ص).
[17] في (ص): ((لحكم)).
[18] في (ص): ((بالميراث)).
[19] زاد في (ص): ((أصحاب)).
[20] زاد في (ص): ((أولى)).