شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما قيل في العمرى والرقبى

          ░32▒ بَابُ مَا قِيلَ في العُمْرَى وَالرُّقْبَى
          فيهِ جَابِرٌ: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم قَضَى بِالعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ). [خ¦2625]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (العُمْرَى جَائِزَةٌ)، وَجَابِرٌ مثله. [خ¦2626]
          قال أبو عُبَيْدٍ: تأويل العُمْرَى أن يقول الرَّجل للرَّجل: هذه الدَّار لك عمرك، أو يقول: / هذه الدَّار لك عُمْرَى، وأصله(1) مأخوذٌ مِنَ العمر.
          اختلف(2) العلماء في العُمْرَى(3)، فقال مالكٌ: إذا قال: أعمرتك داري أو ضيعتي، فإنَّه قد وهب له الانتفاع بذلك مدَّة حياته، فإذا مات رجعت الرَّقبة إلى المالك وهو المعمر، وإذا(4) قال: قد أعمرتك وعقبك، فإنَّه قد وهبَ له ولعقبه الانتفاع ما بقي منهم إنسانٌ، فإذا انقضوا(5) رجعت الرَّقبة إلى المالك المعمر؛ لأنَّه وهب له المنفعة، ولم يهب له الرَّقبة، ورُوِيَ مثله عن القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ ويَزِيْدَ بنِ قُسَيْطٍ، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ، وقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ في أحد قوليه وأحمدُ بنُ حنبلٍ: العُمْرى تصير ملكًا للمعمر ولورثته، ولا تعود ملكًا إلى المعطي أبدًا. واحتجُّوا بما رواه مالكٌ عن ابنِ شِهَابٍ عن أبي سَلَمَةَ عن جابرٍ، أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ ولِعَقِبِهِ، فإنَّها للَّذِي يُعْطَاهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذي أَعْطَاهَا أَبَدًا(6)؛ لأنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيْهِ المَوَارِيْثُ)).
          وقالوا: إنَّ مالكًا روى هذا الحديث وخالفه، وقال(7): ليس عليه العمل ووددت أنَّه مُحي(8)، واحتجَّ أصحاب مالكٍ بأنَّ(9) الإعمار عند العرب والإفقار والإسكان والمنحة والعاريَّة والإعراء، إنَّما هو تمليك المنافع لا تمليك الرِّقاب، وللإنسان أنْ ينقل منفعة الشَّيء الَّذي يملك إلى غيره مدَّةً معلومةً ومجهولةً إذا كان ذلك على غير العوض(10)؛ لأنَّ ذلك فعل خيرٍ ومعروفٍ، ولا يجوز أنْ يخرج شيءٌ مِنْ(11) ملك مالكه إلَّا بيقينٍ ودليلٍ على صحَّته.
          وقد قال القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ: ما أدركت النَّاس إلَّا على شروطهم فيما أعطوا، والدَّليل على أنَّ العُمْرى لا تقتضي نقل الملك عن الرَّقبة أنَّه لو قال:(12) بعتك شهرًا أو تصدَّقت بها عليك شهرًا، وأراد نقل ملك الرَّقبة لم يصحَّ، وكذلك(13) إذا قال: أعمرتك(14)؛ لأنَّه علَّقه بوقتٍ مقيَّدٍ، وهو عمره.
          وأمَّا حديث أبي سَلَمَةَ الَّذي احتجُّوا به، فهو حجَّةٌ عليهم، وذلك أنَّ المعمِّر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أنْ يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والكوفيُّ خالف هذا الحديث، ولم يقل بظاهره كما زعم لأنَّه يقول: إنَّ للمعمِّر بيع الشَّيء الَّذي أعمره، ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمِّر؛ لأنَّه أعطى عقبه كما أعطاه، وليس هو بأولى بالعطيَّة مِنْ عقبه، وهو معنى قوله ◙: ((لأنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيْهِ المَوَارِيْثُ))، يعني: التَّداول للمنفعة(15) لا ميراث الرَّقبة.
          وقد قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}[الأحزاب:27]، فلم يملكوها بالمواريث الَّتي فرض الله تعالى، وإنَّما أخذوا منهم ما كان في أيديهم، فكذلك العقب في العُمْرَى يأخذ ما كان لأبيه بعطيَّة المالك.
          واختلفوا في الرُّقبى، فأجازها أبو يُوسُفَ والشَّافعيُّ كأنَّها وصيَّةٌ عندهم، وقال مالكٌ والكوفيُّون ومُحَمَّدٌ(16): لا تجوز، واحتجُّوا بما رواه حَبِيْبُ بنُ أبي ثابتٍ عن ابنِ عُمَرَ ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنِ الرُّقْبَى، وَقَالَ: مَنْ أَرْقَبَ رُقْبَى فَهِيَ لَهُ))؟ والرُّقبى عند مالكٍ: أنْ يقول الرَّجل(17): إنْ متُّ قبلك فداري لك، وإنْ مِتَّ قبلي فدارك لي، فكأنَّ كلَّ واحدٍ منهما(18) يقصد إلى عوضٍ لا يدري هل يحصل له، ويتمنَّى كلُّ واحدٍ منهما موت صاحبه، وليس كذلك العُمْرى؛ لأنَّ المعمِّر لا يقصد عوضًا عنِ الَّذي أخرج عن يده.


[1] في (ز): ((الدَّار عمرى أصله)).
[2] في (ز): ((واختلف)).
[3] في (ص): ((العمر)).
[4] في المطبوع: ((فإذا))، وفي (ز): ((وإن)).
[5] في (ز): ((انقرضوا)).
[6] قوله: ((أبدًا)) ليس في (ص).
[7] في المطبوع: ((قال)).
[8] قوله: ((ووددت أنَّه محي)) ليس في (ص).
[9] في (ز): ((أنَّ)).
[10] في (ز): ((عوض)).
[11] في (ز): ((عن)).
[12] قد في (ز): ((قد)).
[13] في (ز): ((كذلك)).
[14] في (ص): ((عمرتك)).
[15] قوله: ((للمنفعة)) ليس في (ز).
[16] قوله: ((ومحمَّد)) ليس في (ص).
[17] في (ز): ((للرَّجل)).
[18] في (ص): ((منهم)).