شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الهدية للمشركين

          ░29▒ بَابُ الهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ
          وَقَالَ ╡: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّيْنِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ(1)}الآية[الممتحنة:8].
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ سِيَرَاءَ، فَقَالَ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ، قَالَ: إِنِّي لَمْ(2) أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ). [خ¦2619]
          وفيهِ أَسْمَاءُ: (قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم قُلْتُ: إنَّ أمِّي أَتَتْنِي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: صِلِي أُمَّكِ). [خ¦2620]
          وروى الطَّبَرِيُّ عن ابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّ قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}[الممتحنة:8]، نزلت في أمِّ أسماءَ بنتِ أبي بَكْرٍ، وكان اسمها قَتِيْلَةَ بنتَ عبدِ العزيزِ(3). وقالت طائفةٌ: نزلت في مشركي مكَّة مَنْ لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم مِنْ ديارهم، وقال مُجَاهِدٌ: هو خِطَابٌ للمؤمنين الَّذين بقوا بمكَّة ولم يهاجروا، وقال السُّدِّيُّ: كانَ هذا قبل أنْ يُؤْمرَ بقتالِ المشركين كافَّةً، فاستشار المسلمون(4) النَّبيَّ صلعم في قراباتهم مِنَ المشركين أنْ يبرُّوهم ويصلوهم، فأنزل الله ╡ هذه الآية.
          في تفسير الحَسَنِ قال قَتَادَةُ وابنُ زَيْدٍ: ثُمَّ(5) نسخَ ذلك، ولا يجوز اليوم مهاداة المشركين ولا متاحفتهم إلَّا للأبوين خاصَّةً؛ لأنَّ الهديَّةَ فيها تأنيسٌ للمهدى إليه وإلطافٌ له، وتثبيتٌ لمودَّته، وقد نهى الله ╡ عنِ التَّودُّدِ للمشركين بقوله ╡: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ(6)}الآية[المجادلة:22]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا(7)} الآية.[الممتحنة:1].
          وإنَّما بعث عُمَرُ الحلَّة(8) إلى أخيه المشرك بمكَّة على وجه التَّأليف له على الإسلام؛ لأنَّه كان طمع بإسلامه، وكان التَّألُّف على الإسلام حينئذٍ مباحًا، وقد تألَّف رسولُ اللهِ صلعم صناديد قُرَيْشٍ، وجعل الله للمؤَلَّفة قلوبهم سهمًا في الصَّدقات، وكذلك فعلت أسماءُ في أمِّها؛ لأنَّ اللهَ قد أمر بصلة الآباء الكفار وبرِّهما بقوله ╡: / {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا(9)}[لقمان:15]، فأمر ╡ َّبمصاحبة الأبوين المشركين في الدُّنيا بالمعروف، وبترك طاعتهما في معصية الله ╡.
          وروى البخاريُّ في حديث أسماءَ: (إِنَّ أُمِّي أَتَتْنِي وَهِيَ رَاغِبَةٌ)، _بالباء_ مِنَ الرَّغبة في العطاء، ورواه أبو دَاوُدَ قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ أبي شُعَيْبٍ حدَّثنا عِيسَى بنُ يُونُسَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ: راغمةٌ، بالميم.
          وفسَّره الخَطَّابيُّ قال: راغمةٌ أي(10) كارهةٌ لإسلامي وهجرتي، وقال بعض أصحابنا(11): معناه هاربةٌ مِنْ قومها، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النِّساء:100]، وأنشد للجَعْدِيِّ يمدح رجلًا:
كَطَوْدٍ يَلُوْذُ بِأَكْتَافِهِ                      عَزِيْزُ المُرَاغَمِ والمَهْرَبِ
          فلو كانت(12) أرادت به المضيَّ لقالت: مراغمةٌ، لا راغمةٌ، وكان(13) أبو عَمْرِو بنِ العلاءِ يتأوَّل في قوله تعالى: {مُرَاغَمًا كَثِيرًا}[النِّساء:100]، قال: الخروج مِنَ(14) العدوِّ برغم أنفه، وراغبةٌ _بالباء_ أظهر في معنى الحديث.


[1] قوله: ((وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((الآخرة. وقال لم)).
[3] قوله: ((بنت عبد العزيز)) ليس في (ز).
[4] في (ص): ((المسلمين)).
[5] في (ص): ((هو)).
[6] قوله: ((مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ)) ليس في (ص).
[8] في (ز): ((بالحلَّة)).
[9] في المطبوع: ((به علم الآية))، وقوله: ((عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((أو)).
[11] في المطبوع: ((أصحابه)).
[12] في (ص): ((كان)).
[13] في (ص): ((وقال)).
[14] في (ز): ((عن)).