شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة والمقسومة وغير المقسومة

          ░23▒ بَابُ الهِبَةِ المَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ المَقْبُوضَةِ وَالمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ المَقْسُومَةِ
          (وَقَدْ وَهَبَ النَّبيُّ صلعم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ(1)، وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ).
          فيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبيِّ صلعم دَيْنٌ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: لَا نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ(2): أَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً). [خ¦2606]
          وفيهِ جَابِرٌ: (أَتَيْتُ النَّبيَّ صلعم في المَسْجِدِ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي). [خ¦2603]
          وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ: (فَوَزَنَ فَأَرْجَحَ(3) فَمَا زَالَ(4) مِنْهَا شَيْءٌ، حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الحَرَّةِ).
          وفيهِ أَنَسٌ(5): (أُتِيَ النَّبيَّ صلعم بِشَرَابٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ)(6) الحديثَ. [خ¦2605]
          وقد(7) تقدَّمَ القولُ في قبضِ الهِبَات، وما للعلماءِ في ذلكَ فأغنى عَنْ إِعَادتِه(8) [خ¦2599].
          وأمَّا الهبةُ غير المقسومةِ، فهي هبةُ المشاعِ، واختلفَ العلماءُ فيها، فقالَ مالكٌ وأبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ: هبة المشاع جائزةٌ، ويتأتَّى فيها القبضُ كما يجوزُ فيها البيعُ، وسواءٌ كانَ المشاعُ ممَّا ينقسمُ كالدُّوُرِ والأَرَضين، أو ممَّا لا ينقسمُ كالعبدِ(9) والثِّيابِ والجواهرِ، وسواءٌ كان ممَّا يُقبضُ بالتَّخليةِ، أو ممَّا يُقبضُ بالنَّقلِ(10) والتَّحويلِ.
          وقالَ أبو حنيفةَ: إنَّ كانَ المشاعُ ممَّا ينقسمُ لمْ يجز هبة شيءٍ منه مشاعًا، وإِنَّ كانَ(11) ممَّا لا ينقسمُ كالعبدِ واللُّؤلؤِ والثَّوبِ، فإنَّه تجوز هبتهُ، وحجَّةُ أصحابِ أبي حنيفةَ أنَّ الهباتِ لا تصحُّ عندَهم(12) إلَّا بالقبضِ، والمشاعِ لا يتأتَّى فيه القبضُ إلَّا بقبضِ الجميعِ، ومتَّى كلف الشَّريكُ هذا أضرَّ بهِ، ولهُ أنْ يمتنعَ مِنْ ذلك، واحتَجُّوا بأنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ☺ وَهَبَ لابنته جِدَادَ عشرينَ وسقًا فلم تَقبِضَهُ، وقالَ(13): لها لو كُنْتِ حُزْتِيهِ لكَان لكِ، وهذا كان(14) بحضرةِ الصَّحابةِ مِنْ غيرِ خلافٍ.
          وحجَّةُ مَنْ أجازَ هبةَ المشاعِ أنَّ الرَّسولَ صلعم وهبَ حقَّه مِنْ غنائمِ حُنينٍ لهَوَازِنَ، وحقُّه مِنْ ذلكَ مشاعٌ لم يتعيَّن، وأيضًا حديثُ أبي هريرةَ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم قَضَى للَّذِي أَسْلَفَهُ الجَمَلَ بِأَفْضَلِ مِنْ سِنِّهِ))، ووجهُ الدَّلالةِ منه أنَّ ثمنَ ذلكَ الفضل مشاعٌ في ثمنِ السِّنِّ الَّتي كانت تلزمه، وقد وهبَ ذلك ◙ وكذلك قولُ جابرٍ: (فقَضَاني وزَادْني).
          وقولهُ: (فَوَزَنَ / لِي فَأَرْجَحَ)، فعلمَ(15) أنَّ تلك الزِّيادةَ وذلك الرُّجحانَ لم يكُنْ مِنَ الثَّمنِ، وإنَّما كانَ هبةً، ولم يكن متميِّزًا بل كانَ مشاعًا، وهبةُ النَّبيِّ صلعم وحديثُ الغلام ِوالأشياخِ بيِّنٌ في ذلك أيضًا(16) لأنَّه ◙ استوهبَ الغلام نصيبُه مِنَ الشَّرابِ وكانَ ذلك مشاعًا(17) غير متَميِّزٍ ولا مقسومٍ، ولا يُعرف ما كان يشرب ممَّا كانَ(18) يُتْرَك للأشياخِ.
          قالَ ابنُ القَصَّارِ: ومَن أجَازَ هبةَ ما لا ينقسمُ فبأن(19) يجيز هبةَ ما ينقسمُ أولى، وأمَّا احِتَجاجُهم بقولِ أبي بَكْرٍ لابنته: لو كنتِ حُزْتِيه لكانَ لكَ، فهو(20) حُجَّةٌ عَلَيْهمُ؛ لأنَّه وهبَ لها جِدَادَ عشرينَ وسقًا مِنْ أوساقٍ كثيرةٍ، وهذا مشاعٌ بينهم، فدلَّ هذا على جوازِ هبةِ المشاعِ؛ لأنَّه لو لمْ يجزْ لمْ يَفعله.
          وقولهُ: (لَوْ كُنْتِ حُزْتِيْهِ لَكَانَ(21) لَكِ) لا يدلُّ على أنَّ ما عقده مِنَ الهبةِ لمْ يجز، وإنَّما قال ذلك لئلَّا يقتدي به مَنْ يريدُ الهروبَ بمالهِ مِنَ الميراثِ، ولمَّا لم تحزه عائشةُ في صحَّته لمْ ينَفذهُ لها في مرضهِ؛ لأنَّ عطايا المريضِ المقبوضةِ هي في ثلثه(22) كالوصايا، والوصيَّةُ للوارثِ لا تجوزُ، ولم يختلف مالكٌ وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ أنَّ عطايا المريضِ للأجنبيِّ جائزةٌ في ثُلثه، فلم يخالف مالكٌ مِنْ حديث أبي بَكْرٍ شيئًا، وأبو حنيفةَ خالف أوَّله، وتأوَّل في آخره ما لم يُجامع عليه.


[1] قولهُ: ((منهم)) ليس في (ز).
[2] في (ز): ((قالَ)).
[3] في (ز): ((فوزن لي فأرجح لي)).
[4] في (ز): ((وما زالَ)).
[5] في (ز): ((سهل)).
[6] قوله: ((فقالَ للغلامِ أتأذن لي أنْ أعطي هؤلاء)) ليس في (ز).
[7] في (ز): ((قد)).
[8] قولهُ: ((وما للعلماءِ في ذلك فأغنى عن إعادته)) ليس في (ص).
[9] في (ز): ((كالعبيدِ)).
[10] في (ص) صوَّرتها: ((بالبعضِ)).
[11] زاد في (ز): ((المشاعِ)).
[12] في (ز): ((عنده)).
[13] في (ز): ((فقالَ)).
[14] في (ز): ((وكان هذا)).
[15] في (ز): ((وأرجح فقد علم)).
[16] قولهُ: ((أيضًا)) ليس في (ص).
[17] في (ز): ((مِنَ الشَّرب، وكان مشاعًا)).
[18] قولهُ: ((كان)) ليس في (ز).
[19] في (ز): ((فلا)).
[20] في المطبوع: ((لكان ذلك فهو))، وفي (ز): ((في)).
[21] في (ص) تحتمل: ((كان)).
[22] في (ز): ((ثلاثه)).