شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المكافأة في الهبة

          ░11▒ بَابُ المُكَافَأَةِ في الهَدِيَّةِ
          فيهِ عَائِشَةُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا). [خ¦2585]
          قال المُهَلَّبُ: الهديَّةُ على ضربين: فهديَّةٌ للمكافأة، وهديَّةٌ للصِّلة والجوار، فما كان للمكافأة كان على سبيل البيع وطريقه ففيه العوض، ويُجبر المهدى إليه على سبيل العوض، وما كان لله أو للصِّلة، فلا يلزم(1) عليه مكافأةٌ، وإن فعل فقد(2) أحسن.
          وقد اختلفَ الفقهاءُ(3) فيمَنْ وهب هبةً ثُمَّ طلب ثوابها، / وقال: إنَّما أردت الثَّواب، فقال مالكٌ: ينظر فيه، فإنْ كان مثله مِمَّن يطلب الثَّواب مِنَ الموهوب له، فله ذلك، مثل الفقير للغنِّي، وهبة الغلام لصاحبه، وهبة الرَّجل لأميره، ومَنْ هو فوقه، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ، وقال أبو حنيفةَ: لا يكون له ثوابٌ إذا لم يشترطه، وهو قول الشَّافعيِّ الثَّاني، قال: والهبة للثَّواب باطلةٌ لا تنعقد؛ لأنَّها بيعٌ بثمنٍ مجهولٍ.
          واحتجَّ الكوفيُّ(4) بأنَّ موضوع(5) الهبة التَّبرُّع، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التَّبرُّع، وصار في معنى المعاوضات، والعرب قد فرَّقت بين لفظِ البيع ولفظِ الهبة، فجعلت لفظَ البيع واقعًا على ما يستحقُّ فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك.
          قال ابنُ القَصَّارِ: والحجَّة لمالكٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم كانَ يقبل الهديَّة ويثيبُ عليها، والاقتداء به واجبٌ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. ورُوِيَ أنَّ أعرابيًّا أهدى إلى النَّبِيِّ بعيرًا، فأثابه عليه فأبى، فزاده فأبى، فقال له(6) ◙: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَتَّهِبَ إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ))، فدلَّ أنَّ الهبةَ تقتضي الثَّواب، وإن لم يشترطه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم أثابه وزاده في الثَّوابِ حَتَّى بَلَغَ رضا الأعرابيِّ، ولو لم يكن واجبًا لم يثبه ولم يزده، ولو ثاب(7) تطوُّعًا لم تلزمه الزِّيادة، وكانَ ينكرُ على الأعرابيِّ طَلَبَه للثَّوابِ حَتَّى يحصل علمه هذا عند النَّاس.
          وأمَّا قوله: إنَّ الهبةَ موضوعةٌ للتَّبرُّع، ومخالفةٌ للفظ البيع، فالجواب: أنَّ الهبة لو لم تقتضي(8) العوض أصلًا(9) لكانتْ بمنزلةِ الصَّدقةِ، يقصد بها ثواب الآخرة.
          والفرقُ بينَ الهبةِ والصَّدقةِ: أنَّ الواهبَ يقصدُ المكافأة في الأغلب، وليس(10) الصَّدقةُ كذلك، والفقيرُ إذا وهبَ للغنيِّ ينبغي أن يكون بمطلقه يقتضي الثَّواب، وإنْ كانَ الثَّوابُ مجهولًا، كقطعة الحمام والشَّارب والملاح، وقد جَرَى العُرف بذلك، وأيضًا فإنَّ الواهب دخل على أخذِ(11) العوض، وإن لم ينكره(12)، فصار كأنَّه عقد معاوضةٍ، ولنا أنَّ نستدلَّ بقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النِّساء:86]، فهو عامٌّ في كلِّ هديَّةٍ وهبةٍ، فلو أُهدي له مِمَّا يتحيَّا له(13) مِنْ مسمومٍ وغيره، وطَلَبَ الثَّواب كانَ ذلك له، ووجبَ على المحيَّا أنْ يحيِّي بأحسن منها، أو يردَّها بأمرِ اللهِ تعالى له بذلك.
          فإنْ قيل: هذا ندبٌ، والوجوبُ لا يتعلَّقُ بعوضٍ زائدٍ، فالجواب: أنَّه ندبٌ إلى أحسن منها، وإلَّا فالردُّ واجبٌ لفعلِ الرَّسولِ(14) ◙، وقد رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وَعَليِّ بنِ أبي طَالِبٍ ☻ أنَّهما قالا: إذا وهبَ الرَّجلُ هبةً ولم يثب منها فهو أحقُّ بها، ولا مخالفٌ لهما في الصَّحابة(15).


[1] في (ز): ((يلزمه)).
[2] في (ز): ((فهو)).
[3] في (ز): ((واختلف العلماء)).
[4] في (ز): ((الكوفيُّون)).
[5] في المطبوع: ((موضع)).
[6] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[7] في (ز): ((أثاب)).
[8] في (ز): ((تقتض)).
[9] قوله: ((أصلًا)) ليس في (ص).
[10] في (ز): ((وليست)).
[11] في (ص): ((وقد جرى العُرف بذلك وأخذ العوض)).
[12] في (ص): ((يذكره)).
[13] في (ز): ((به)).
[14] في (ز): ((النَّبيِّ)).
[15] قوله: ((في الصَّحابة)) ليس في (ص).