شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب هدية ما يكره لبسها

          ░27▒ بَابُ هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَتَلْبَسْها(1) يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ، فَقَالَ(2): إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ في الآخِرَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ، فَأَعْطَى(3) النَّبِيُّ صلعم عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ في حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟! فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا) الحديثَ. [خ¦2612]
          وفيهِ ابنُ عُمَرَ: (أَتَى النَّبيُّ صلعم فَاطِمَةَ، فَلَمْ(4) يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ فَاطِمَةُ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا، فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِيٌّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا(5)، فقَالَتْ(6): لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَالَ: تُرْسِلِي بِهِا(7) إِلَى فُلَانٍ، أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ). [خ¦2613]
          وفيهِ عَلِيٌّ: (أُهْدِيَ إِلَى(8) النَّبيِّ صلعم حُلَّةَ سِيَرَاءَ، فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الغَضَبَ في وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي). [خ¦2614]
          هديةُ ما يُكره لبسه مباحةٌ؛ لأنَّ ملكه جائزٌ، ولصاحبه التَّصرُّفُ فيه بالبيع والهبة، مِمَّنْ(9) يجوز له(10) لباسه مثل النِّساء والصِّبيان، وإنَّما كره مِنَ الحرير لباسه للرِّجال خاصَّةً دون ملكه.
          قالَ المُهَلَّبُ: وإنَّما كره النَّبِيُّ الحرير لابنته؛ لأنَّها مِمَّن يرغب لها في الآخرةِ كما يرغب(11) لنفسه، ولا يرضى لها تعجيل طيباتها في الحياة(12) الدُّنيا, فدلَّ هذا على(13) أنَّ النَّهي عنِ الحريرِ إنَّما هو مِنْ جهةِ السَّرف.
          لأنَّ الحديث الَّذي(14) يُروى عنِ النَّبيِّ صلعم في تحريم الحرير قد سألتُ عنه أبا مُحَمَّدٍ الأَصِيْلِيَّ، وأوقفته(15) على لفظة حرامٌ، فقال لي: لا تصحُّ لفظة حرامٌ البتَّة، فإنْ(16) صحَّت فإنَّما معناها حرامٌ تحرِّمه(17) السُّنَّة، وحرامٌ دون حرامٍ، وهو كقوله ◙: ((كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ)).
          وفي ذلك الحديث حلٌّ لإناثها، فقد كرهه لابنته وهو حلالٌ، فكذلك كرهه للرِّجال مِنْ أجلِ السَّرفِ، وقوله في حديث عُمَرَ(18) (مَا لِي وللدُّنْيَا) دليلٌ قاطعٌ.
          وقوله: (إنَّما يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ في الآخِرَةِ)، فإنَّما(19) يريدُ بذلك، والله أعلم، أَنَّها لباسُ الكفار في الدُّنيا ومَنْ لا حظَّ له في الآخرة، فَنَهى ◙ عن مشابهتهم واستعمال زيِّهم، والله أعلم، وسأستقصي مذاهب العلماء في هذه المسألة في كتاب اللِّباس إن شاء الله [خ¦5840].
          وقال أبو عبدِ اللهِ أخو المُهَلَّبِ: وقول عَلِيٍّ: / (فَرَأَيْتُ الغَضَبِ في وَجْهِهِ) يدلُّ على(20) أنَّ النَّهي عنِ الحرير على غير التَّحريم، وإنَّما هو على الكراهةِ(21)، ولو كان تحريمًا لما عرَفَ عليٌّ الكراهة إلَّا مِنْ نهيه لا بدليلٍ مِنْ وجهه.
          وقوله: (لَا يَنْبَغي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ) دليلٌ آخر، ولو كان حرامًا لكان المتَّقي فيه والمسيء فيه(22) واحدًا، ولكنَّه كما قال الله تعالى في المتعة: {حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ}[البقرة:241]،{حَقًّا(23) عَلَى المُحْسِنِينَ}[البقرة:236].
          قال المؤلِّفُ: وحملت(24) طائفةٌ الآثار المرويَّة عنِ النَّبيِّ صلعم في النَّهي عن لباس الحرير على التَّحريم(25)، ولم يأتِ عنه ما يعارضها إلَّا ما يخصُّها مِنْ جوازِ لباسه في الحربِ وعند التَّداوي، وما عدا هذين الوجهين فباقٍ على التَّحريمِ ومَنْ جعلَ تحريم الحرير كتحريم كلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباع، فذلك دليلٌ على التَّحريم(26)؛ لأنَّ جمهورَ الأمَّة على أنَّ تحريم كلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباعِ على التَّحريم البيِّن الَّذي هو ضدُّ التَّحليل، فكيف يحتجُّ هذا القائل بما يخالف(27) فيه أكثر الأمَّة؟


[1] في (ز): ((فلبستها)).
[2] في (ز): ((قال)).
[3] قوله: ((فأعطى)) ليس في (ز).
[4] في (ز): ((فلما)).
[5] في (ز): ((ذلك لها)).
[6] في (ز): ((قالت)).
[7] في (ز): ((به)).
[8] في (ز): ((لي)).
[9] في المطبوع: ((فمَنْ)).
[10] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[11] في (ز): ((يرغبها)).
[12] في (ز): ((حياتها)).
[13] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[14] قوله: ((الَّذي)) ليس في (ص).
[15] في (ز): ((ووافقته)).
[16] في (ز): ((وإنْ)).
[17] في (ص): ((تحريم)).
[18] في (ز): ((ابن عمر)).
[19] في (ز): ((وإنَّما)).
[20] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[21] في (ز): ((الكراهية)) في الموضعين.
[22] قوله: ((فيه)) ليس في (ز).
[23] في (ز): ((وحقًّا)).
[24] في (ص): ((وجعلت)).
[25] قوله: ((على التَّحريم)) ليس في (ص).
[26] قوله: ((ومَنْ جَعلَ تحريم الحرير كتحريم كلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباعِ، فذلك دليلٌ على التَّحريم)) ليس في (ز).
[27] في (ز): ((يخالفه)).