شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب هبة المرأة لغير زوجها

          ░15▒ بَابُ هِبَةِ المَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ
          فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}[النساء:5].
          فيهِ أَسْمَاءُ قَالَتْ(1): (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لي مَالٌ إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ(2)؟ قَالَ: تَصَدَّقِي، وَلَا تُوعِي فَيُوعيَ اللهُ عَلَيْكِ(3)). [خ¦2590]
          وَقَالَ مَرَّةً: (أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي، فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ). [خ¦2591]
          وفيهِ مَيْمُونَةُ زوجُ النَّبيِّ صلعم: (أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً، وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِيَّ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قَالَ: أَوَ فَعَلْتِ؟ قَالَتْ(4): نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ(5) كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ). [خ¦2592]
          وفيهِ عَائِشَةُ: (أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم(6)، تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رسولِ اللهِ صلعم). [خ¦2593]
          اختلفَ العلماءُ في المرأةِ المالكةِ لنفسِها الرَّشيدةِ ذاتِ الزَّوجِ، فقالت طائفةٌ: لا فرقَ بينها وبينَ البالغِ مِنَ الرِّجالِ، فما جَازَ مِنَ عطايا الرَّجُلِ البالغِ الرَّشيدِ جازَ مِنْ عطائِها، هذا قولُ سُفْيَانَ(7) الثَّوْرِيِّ(8) وأبي ثَوْرٍ وأصحابِ الرَّأي ورُوِّينا معنى ذلك عن عَطَاءٍ، قالَ ابنُ المُنْذِرِ: وبه نقولُ(9).
          وقالت طائفةٌ: لا يجوزُ لها أنْ تعطيَ مِنْ مالها شيئًا بغير إذنِ زوجِها، رُوِيَ هذا القولُ عن أَنَسِ بنِ مالكٍ، وهو قولُ طَاوُسٍ والحَسَنِ البَصْرِيِّ، وقال مالكٌ: لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها إلَّا ثلث مالها خاصَّةً، قياسًا على الوصيَّة، وقال الَّليْثُ: لا يجوز عتق المرأة ذاتِ الزَّوجِ ولا صدقتها إلَّا في الشَّيء اليسير الَّذي لا بدَّ(10) منه في صِلة الرَّحم أو غيره، مِمَّا يُتقرَّب به إلى اللهِ ╡.
          وحجَّةُ القول الأوَّل: أنَّ الله تعالى سوَّى بين الرِّجال والنِّساء عندَ بلوغِ الحُلم وظهورِ الرُّشد، فقالَ ╡: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النِّساء:6]، فأمرَ بِدْفعِ أموالهم إليهم، ولم يخصَّ رجلًا مِنِ امرأةٍ، فثبت أنَّ مَنْ صَحَّ رُشْدُه صَحَّ تصرُّفه في ماله بما شاءَ، وقالَ ╡: {وَآتُوا النَّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} الآية(11)[النِّساء:4]، فأباحَ ╡ للزَّوج ما طابت له به نفسُ امرأته، وقال ╡: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} إلى {إِلَّا أَنْ يَعْفُوْنَ}(12)[البقرة:237].
          فأجازَ عفوها عن مالها بعد طلاقِ زوجها إيَّاها بغير استئمارٍ مِنْ أحدٍ، فدلَّ ذلك على جواز أمر المرأة في مالها، وعلى أنَّها فيهِ كالرَّجل سواءٌ، واحتجُّوا بأمرِ الرَّسولِ صلعم أسماءَ بالصَّدقةِ، ولم يأمرها باستئذانِ الزُّبَيْرِ، وإنَّ(13) ميمونةَ أَعْتَقَتْ وَليدة لها ولم تستأذنِ النَّبيَّ صلعم، وبحديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه ◙ خطب النِّساء يومَ عيدٍ، وقال(14): ((تَصَدَّقْنَ وَلَو مِنْ حُلِيِّكُنَّ))، ولا(15) في شيءٍ مِنَ الأخبار أنَّهنَّ استأذنَّ أزواجهنَّ، ولا أنَّه ◙ أمرهنَّ باستئذانهم.
          ولا يختلفون في أنَّ وصاياها مِنْ ثُلُثِ مالها جائزةٌ كوصايا الرَّجل، ولم يكن لزوجها عليها في ذلك سبيلٌ ولا أمرٌ، وبذلك نطقَ الكتابُ، وهو قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ(16) بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النِّساء:12]، فإذا كانت وصاياها في ثُلُثِ مالها جائزةٌ بعد وفاتها، فأفعالها في مالها في حياتها أجوزُ، والحجَّةُ لطَاوُسٍ حديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبيه عن جدِّه عنِ(17) النَّبِيِّ صلعم قال: ((لَا تَجُوزُ عَطِيَّةُ اِمْرِأَةٍ فِي مَالِها إلَّا بِإذْنِ زَوْجِهَا))، فأحاديث(18) هذا الباب أصحُّ مِنْ حديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ.
          وتأوَّل مالكٌ في الأحاديث الَّتي جاءت عن النَّبيِّ صلعم أنَّه أمر النِّساء بالصَّدقة، إنَّما أمرهنَّ بإعطاء ما ليس بالكثير المُجْحِف بغير إذن أزواجهنَّ لقوله ◙: / ((تُنْكَحُ المرأَةُ لِمَالِهَا وَدِيْنِها(19) وَجَمَالِها))، فسوَّى بين ذلك، فكان لزوجها في مالها حقٌّ، فلمْ يكنْ لها أنْ تُتْلِفَهُ إلَّا بإذنه.
          وعلى هذا يصحُّ الجمعُ بينَ حديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ وسائر الأحاديث المعارضة له، فيكون حديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ واردًا في النَّهي عن إعطاءِ الكثير المُجْحِف، وتكون الأحاديث الواردة بحضِّ النِّساء على الصَّدقة فيما(20) ليس بالكثير المُجْحِف، واللهُ الموفِّقُ.
          وأمَّا حديثُ هبةِ سَوْدَةَ يومها لعائشةَ، فليس مِنْ هذا البابِ في شيءٍ؛ لأنَّ للمرأة الشَّفيقة(21) أن تهبَ يومها لضرَّتها، وإنَّما السَّفه في إفسادِ المالِ خاصَّةً.
          واختلفوا في البكر إذا تزوَّجت متى تكون في حال مَنْ تجوز لها العطاء، فقالت طائفةٌ: ليس لها في مالها أمرٌ حتَّى تلد، أو يحول عليها الحول، رُوِيَ هذا عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وعن شُرَيْحٍ والشَّعْبِيِّ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ، وفرَّق أصحابُ مالكٍ بين البِكْر ذاتِ الأبِ والوصيِّ، وبين الَّتي لا أبَ لها ولا وَصِيَّ، قال(22) ابنُ القَاسِمِ: أمَّا البِكْرُ الَّتي لا أبَ لها، فلا يجوز قضاؤها في مالها وإن عنست حَتَّى تدخل بيتها وترضى حالها، واختلفوا في حدِّ تعنيسِ البِكْرِ(23)، فقال ابنُ وَهْبٍ: الثَّلاثين سنةً إلى خمس وثلاثين. وقال ابنُ القَاسِمِ: الأربعين سَنَةً إلى الخمس(24) والأربعين.
          وقالَ ابنُ المَاجِشُونِ ومُطَرِّفٌ في اليتيمة(25) لا أبَ لها ولا وصيَّ تختلع مِنْ زوجها بشيءٍ تهبُ له(26) الخُلع ماضٍ، ويَرُدُّ الزَّوج ما أخذ؛ لأنَّه لا يجوز لها عَطَاءٌ حَتَّى تملك نفسها ومالها، وذلك بعد سَنةٍ مِن ابتناءِ زوجها بها، أو تلد ولدًا، وخالفَ هذا سُحْنُونٌ، فقال في البِكر تُعطي زوجها بعض مالها، وذلك قبلَ الدُّخول فيملِّكُها(27) أمرها، أو تباريه بشيءٍ مِنْ مالها، فقال: إنْ كانَ لها أبٌ أو وصيٌّ، فلا يجوز ذلك، ويلزم الزُّوج الطَّلاقَ، ويردُّ عليها ما أخذَ منها، وإنْ كانتْ لا أبَ لها ولا وصيَّ جازَ ذلك، وهي عندي بمنزلة السَّفيه الَّذي لا وصيَّ له، أنَّ أموره جائزةٌ، بيوعه وصدقته وهبته، ما لم يحجر عليه الإمام.


[1] قوله: ((قالت)) ليس في (ز).
[2] في (ز): ((أفأتصدَّق)).
[3] في (ص): ((فيوعى عليك)).
[4] في (ز): ((قلت)).
[5] في (ص): ((لأخوالك)).
[6] قوله: ((زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم)) ليس في (ص).
[7] في (ز): ((فقالت طائفةٌ: يجوزُ لها أنْ تُعطيَ مالها كلَّهُ بغيرِ إذنِ زوجِها إذا كانَتْ رشيدةً، كما يُعطي الرَّجل، هذا قول)).
[8] زاد في (ز): ((والكوفيِّين والشَّافعيِّ)).
[9] قوله: ((وأصحاب الرَّأي وروينا معنى ذلك عن عطاء. قال ابن المنذر: وبه نقول)) ليس في (ز).
[10] زاد في (ز): ((لها)).
[11] في (ز): ((نِحْلةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)).
[12] في (ز): ((وقال ╡: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ})).
[13] في (ز): ((فإن)).
[14] زاد في (ز): ((له)).
[15] في (ز): ((وليس)).
[16] في (ص): ((يوصي)).
[17] في (ز): ((أنَّ)).
[18] في (ز): ((وأحاديث)).
[19] قوله: ((ودينها)) ليس في (ز).
[20] في (ز): ((بما)).
[21] في (ز): ((السَّفيهة)).
[22] في (ز): ((فقال)).
[23] في (ز): ((حدِّ تعنيسها)).
[24] في (ز): ((الخمسين)).
[25] زاد في (ز): ((الَّتي)).
[26] زاد في (ز): ((له)).
[27] في (ز): ((ليملِّكها)).