شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته

          ░30▒ بَابُ لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ
          فيهِ ابنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ في هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ). [خ¦2622]
          وفيهِ عُمَرُ: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ في سَبِيلِ اللهِ، فَأَبَاعَهُ(1) الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ(2)، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلعم فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ(3)، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ العَائِدَ في صَدَقَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ). [خ¦2623]
          اختلف العلماء في هذا الحديث(4)، فقالت طائفةٌ: ليس لأحدٍ أن يهب هبةً ويرجع فيها على ظاهر حديث ابنِ عبَّاسٍ وعُمَرَ، رُوِيَ ذلك عن طَاوُسٍ والحَسَنِ وهو قول الشَّافعيِّ وأحمدَ بنِ حنبلٍ وأبي ثَوْرٍ، وفيها قولٌ آخر، رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ(5): أنَّ مَنْ وهبَ لذي رحمٍ فلا رجوعَ له، ومَنْ وهبَ لغير ذي رحمٍ فله الرُّجوع إنْ لم يثب منها(6)، وعن عليِّ بنِ أبي طَالِبٍ ☺ أنَّه مَنْ وهبَ لذي رحمٍ فله الرُّجوع إنْ لم يثب منها خلاف قول عُمَرَ(7).
          وقال الثَّوْرِيُّ والكوفيُّون: يرجع فيما وهبه لذي رحمٍ غير محرمٍ إذا كانت الهبة قائمةً لم تُستَهلك، ولم تزد في بدنها أو لم يثب منها مثل: ابن عمِّه(8) وخاله، وأمَّا إنْ وهبَ لذي رحمٍ محرمٍ وقبضوا الهبة، فليس له الرُّجوع في شيءٍ منها وهم: ابنته أو أخوه لأمِّه(9) أو جدُّه أبو أمِّه أو خاله أو عمُّه أو ابن أخيه أو ابنُ أخته أو بنوهما.
          وتفسير الرِّحم المحرم هو مَنْ لو كانَ الموهوب له امرأةٌ لم يحلَّ للواهب نكاحها، وحكم الزَّوجين عندهم حكم ذي الرَّحم المحرم، ولا(10) رجوع لواحدٍ منهما في هبته.
          وقال مالكٌ: يجوز الرُّجوع فيما وهبه للثَّواب، وسواءٌ وهبَه لذي رحمٍ محرمٍ أو غير محرمٍ(11)، ولا يجوز له الرُّجوع فيما وهبه لله(12) ولا لصلة الرَّحم(13).
          قال الطَّحَاوِيُّ(14): واحتجَّ أهلُ المقالة الأولى بما رَوى شُعْبَةُ وهِشَامٌ قالا(15): حدَّثنا قَتَادَةُ عن سَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلعم قال: ((العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ))، قالوا: فبَانَ بهذا الحديث أنَّ المرادَ العائد في قيئه(16) الرَّجلُ لا الكلب(17)، قالوا(18) ولمَّا كان رسولُ اللهِ صلعم قد جعلَ الرُّجوع في الهبة، كالرُّجوع في القيء، وكان رجوعُ الرَّجل في قيئه حرامًا(19) عليه، كان(20) كذلك رجوعه في هبته.
          وحجَّة الكوفيِّين قوله ◙: ((كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ))، فبان بهذا الحديث أنَّ العائدَ(21) في قيئه هو الكلبُ، والكلبُ غيرُ متعبَّد بتحليلٍ ولا تحريمٍ(22)، فيكون المعنى العائد في هبته كالعائد في قدرٍ كالقدر(23) الَّذي يعود فيه الكلب، فلا يثبت بذلك منع الواهب مِنَ الرُّجوع في هبته، فدلَّ هذا أنَّه ◙ أرادَ تنزيه أُمَّته عن أمثالِ الكلاب؛ لأنَّه أبطلَ أنْ يكونَ لهم الرُّجوع في هباتهم، ويصلح الاحتجاج بهذه الحجَّة لمالكٍ.
          قال الطَّحَاوِيُّ: واحتجَّ أهلُ المقالة الأولى بحديث طَاوُسٍ عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ، أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلَّا الوَالِدُ / لِوَلَدِهِ))، ولا دليلَ لهم فيه على تحريم الرُّجوع في الهبة، فقد يجوز أنْ يكونَ النَّبِيُّ صلعم وصف ذلك الرُّجوع بأنَّه لا يحلُّ لتغليظِهِ إيَّاه لكراهتِهِ أنْ يكون أحدٌ مِنْ أُمَّته له مثل السُّوء.
          وقد قال النَّبِيُّ صلعم(24): ((لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي(25) مِرَّةٍ سَوِيٍّ))، فلم يكن ذلك على معنى أنَّها تحرم عليه كما تحرم على الغنيِّ، ولكنَّها لا تحلُّ له مِنْ حيث تحلُّ لغيره مِنْ ذوي الحاجة والزَّمانة، وكذلك(26) قوله: ((لَا يَحِلُّ لِلوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ))، إنَّما هو على أنَّه لا يحلُّ له ذلك، كما تحلُّ له الأشياء الَّتي(27) أحلَّها اللهُ له.
          وقال الطَّبَرِيُّ: قوله ◙: ((العَائِدُ فِي هِبَتِهِ))، معناه الخصوص، وذلك لو أنَّ قائلًا قال: العائدُ في هبته كالكلبِ يعودُ في قيئه، إلَّا أنْ يكونَ والدًا للموهوب له(28)، أو تكون هبته لثوابٍ يلتمسه، فإنَّه ليس له مثل السَّوء، لم يكن مختلًا في كلامه، ولا مخطئًا في منطقه.
          فإن قيل: فبيِّن لنا مَنْ يجوز له الرُّجوع في هبته ومَنْ لا يجوز، ومَنِ المعنيُّ بالذَّمِّ في ذلك؟ قيل: قد بيَّن(29) طلب ثوابٍ إمَّا باشتراط ذلك أو غير(30) اشتراطٍ بعد أن يكون الأغلب مِنْ أمر الواهب والموهوب له أنَّ مثله يهب مثله طلب الثَّواب منه، فله الرُّجوع(31).
          وأمَّا الواهب للهِ ╡ يطلب الأجر كالواهب الغنيِّ للفقير المحتاج، أو طلب صلة رحمٍ كالواهب يهب لأحد أبويه أو أخيه أو أخته، أو قريبٍ له قريب القرابة يريد بذلك صلة رحمه، فلا رجوع له(32)، فهذا المعنيُّ بالذَّمِّ بقوله ◙: (كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ).
          وقد أشارَ المُهَلَّبُ إلى قريبٍ مِنْ هذا المعنى، وقال: وعلى هذا التَّأويل لا تتعارضُ الأحاديثُ، فيكون معنى قوله في حديثِ عُمَرَ: ((العَائِدُ فِي صَدَقَتِهِ))، مفسِّرًا لقوله في حديث ابنِ عبَّاسٍ: (العَائِدُ فِي هِبَتِهِ)، إلى(33) الهبة الَّتي تجري مَجرى الصَّدقة والصِّلة، لا يجوز الرُّجوع فيها، وإنَّما يرجع فيما خرج مِنْ هذا المعنى وأريد به الثَّواب، وقد تقدَّم في كتاب الزَّكاة اختلاف أهل العلم في شراء الرَّجل صدقته في باب هل يشتري الرَّجل صدقته [خ¦1489] [خ¦1490].
          قال الطَّحَاوِيُّ: وقد رُوِيَ(34) عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ☺، رَوَى ذلك(35) مالكٌ عن دَاوُدَ بنِ الحُصَيْنِ عن أبي غَطَفَانَ بنِ ظَرِيْفٍ عن مروانَ بنِ الحَكَمِ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قال: مَنْ وهبَ لصلة رحمٍ أو على وجه(36) صدقةٍ، فإنَّه لا يرجع فيها، ومَنْ وهبَ هبةً يرى أنَّه إنَّما أراَد بها الثَّواب، فهو على هبته يرجع بها(37) إنْ لم يرضَ منها، فهذا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فرَّق بين الهبات والصَّدقات، فجعل الصَّدقاتِ لله لا يرجع فيها، وجعل الهبات على ضربين: فضربٌ منها لصلة الأرحام، فردَّ ذلك إلى حكم الصِّدقات لله، ومنع الواهب مِنَ الرُّجوع فيها، وضربٌ منها جعل فيها(38) الرُّجوع للواهب ما لم يرضَ منه(39).


[1] في (ز): ((فأضاعه)).
[2] في (ص): ((الَّذي اشتراه)).
[3] في (ص): ((لا تشتريه)).
[4] في (ز): ((الباب)).
[5] قوله: ((رُوي عن عُمَر بن الخطَّاب)) ليس في (ص).
[6] في (ز): ((فله أنْ يرجع إلَّا إنْ يثاب منها)).
[7] قوله: ((وعن عليٍّ بن أبي طالب ☺ أنَّه مَنْ وهبَ لذي رحم فله الرجوع إنْ لم يثبْ منها خلاف قول عمر)) ليس في (ص). وبدله قوله: ((خلاف)).
[8] في المطبوع: ((ابن عمِّه أو ابن خاله))، وفي (ص): ((وابن خاله)).
[9] في المطبوع: ((إخوته لأمِّه)).
[10] في (ز): ((لا)).
[11] في (ز): ((أو غيرهم)).
[12] في المطبوع: ((فيما وهبه الله)).
[13] في (ز): ((رحم)).
[14] قوله: ((قال الطَّحاويُّ)) ليس في (ص).
[15] في (ص): ((قال)).
[16] قوله: ((قالوا: فبان بهذا الحديث أنَّ المراد العائد في قيئه)) ليس في (ز).
[17] في (ص): ((الرَّجل كالكلب)).
[18] قوله: ((قالوا)) ليس في (ص).
[19] في (ص): ((حرام)).
[20] قوله: ((كان)) ليس في (ص).
[21] في (ز): ((الرَّاجع)).
[22] في المطبوع: ((بتحريم)).
[23] في (ص): ((كالقذر)).
[24] في (ص): ((قال ◙)).
[25] في (ز): ((لذي)).
[26] في (ز): ((فكذلك)).
[27] زاد في (ز): ((قد)).
[28] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[29] في (ز): ((قيل من وهب)).
[30] في (ز): ((بغير)).
[31] قوله: ((فله الرُّجوع)) ليس في (ص).
[32] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[33] في (ز): ((أنَّ)).
[34] في (ز): ((وقال الطَّحاويُّ وقد بيَّن ما روي)).
[35] قوله: ((ذلك)) ليس في (ص).
[36] قوله: ((وجه)) ليس في (ص).
[37] قوله: ((ومن وهب هبة يرى أنَّه إنَّما أراد بها الثَّواب، فهو على هبته يرجع بها)) ليس في (ز).
[38] في (ز): ((فيه)).
[39] قوله: ((ما لم يرضَ عنه)) ليس في (ص).