شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قبول الهدية

          ░7▒ بَابُ قَبُولِ الهَدِيَّةِ
          فيهِ عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللهِ صلعم). [خ¦2574]
          وفيهِ ابنُ عَبَّاسٍ: (أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ _خَالَةُ ابنِ عَبَّاسٍ_ إِلَى النَّبِيِّ صلعم، أَقِطًا وَسَمْنًا وَضَبًّا(1)، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلعم مِنَ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ(2) تَقَذُّرًا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ)(3). [خ¦2575]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا أُتِي بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ، قَالَ لأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ، ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ). [خ¦2576]
          وفيهِ أَنَسٌ: (أُتِيَ النَّبِيُّ صلعم بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ). [خ¦2577]
          وفيهِ أُمُّ عَطِيَّةَ: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلعم عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: عِنْدَكُمْ(4) شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لاَ، إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ التي بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ: إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا). [خ¦2579]
          قد رُوِيَ عن مالكٍ(5) في حديث الضَّبِّ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَ ابنَ عبَّاسٍ وَخَالدَ بنَ الوَلِيْدِ بأكلِ الضَّبِّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَقَالَا لَهُ: أَلَا(6) تَأْكُلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَال: إِنِّي َيْحُضُرُني مِنَ اللهِ حَاضِرَةٌ _يَعْنِي المَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُنَاجِيْهِمْ_ وَرَائِحَةُ الضَّبِّ ثَقِيلَةٌ))، فلذلك تقذَّره ◙ خَشْية أنْ يؤذي الملائكة بريحه، في(7) هذا مِنَ الفقه أنَّه يجوز للإنسان أنْ يتقذَّر ما ليس بحرامٍ عليه لقلَّة عادته بأكله ولذمِّه(8)، وإنَّما كانَ النَّبِيُّ صلعم لا يأكلُ الصَّدقةَ؛ لأنَّها أوساخُ النَّاسِ، وأخذُ الصَّدقةِ منزلةُ ضِعةٍ لقوله ◙: ((اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى))، والأنبياء ‰ منزَّهون عن مواضع(9) الضِّعةِ والذِّلَّة، وأيضًا فلا تحلُّ الصَّدقةُ للأغنياء، وقد عدَّد الله تعالى على نبيه ◙ أنَّه وجدَه عائلًا فأغناه، فلهذا كلِّه حُرِّمت عليه الصَّدقةُ.
          وقوله ◙ في لحمِ بَرِيْرَةَ: (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ)، وقوله: (قَدْ بَلَغَت مَحِلَّهَا)، فإنَّ الصَّدقةَ يجوز فيها تصرُّف الفقير بالبيع والهديَّة وغير ذلك لصحَّة ملكه لها، فلمَّا أهدتها بَرِيْرَةَ إلى بيت مولاتها عائشةَ حلَّت لها وللنَّبِيِّ صلعم، وتحوَّلت عن معنى الصَّدقة لملك المتصدِّق عليه بها، ولذلك قال ◙: ((وَهِيَ لَنَا مِنْ قِبَلِها هَديَّةٌ، وقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا))، أي(10) صارت حلالًا بانتقالها(11) مِنْ بابِ الصَّدقةِ إلى باب الهديَّةِ؛ لأنَّ الهديَّةَ جائزٌ أنْ يثيب عليها بمثلها وأضعافها على المعهود منه ◙، وليس ذلك شأن الصَّدقةِ، وقد تقدَّمت هذه المعاني في موضع(12) آخر [خ¦1446] [خ¦1494].


[1] في (ز): ((وأضبًّا)).
[2] في (ز): ((الأضبُّ)).
[3] في (ز): ((وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا. الحديث)).
[4] في (ز): ((وقال أعندكم)).
[5] في (ز): ((قد رَوَى مالك)).
[6] في (ز): ((ولا)).
[7] في (ز): ((وفي)).
[8] في (ز): ((أو لوهمه)).
[9] في (ز): ((منازل)).
[10] زاد في (ز): ((قد)).
[11] في (ص): ((بأنَّها لها)).
[12] في (ز): ((مواضع)).