شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها

          ░14▒ بَابُ هِبَةِ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ، وَالمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا
          وقَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا(1)}[النِّساء:4](2).
          قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ، وَقَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: لَا يَرْجِعَانِ. (وَاسْتَأْذَنَ النَّبيَّ صلعم نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِ عَائِشَةَ).
          وَقَالَ(3): (العَائِدُ في هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ)، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: هَبِي لي بَعْضَ صَدَاقِكِ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا، فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ: يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ غَلَبَها(4)، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيْبِ نَفْسٍ لَيْسَ في شيءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ} الآيةَ(5)[النِّساء:4].
          فيهِ عَائِشَةُ: (لَمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ صلعم فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ) الحديثَ. [خ¦2588]
          وفيهِ ابنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (العَائِدُ في هِبَتِهِ، كَالكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ في قَيْئِهِ). [خ¦2589]
          اختلف العلماءُ في الزَّوجين يهبُ كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه، فقال جمهور العلماء: ليس لواحد منهما أنْ يرجعَ فيما يعطيه الآخر(6)، هذا قول عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ والنَّخَعِيِّ وعَطَاءٍ ورَبِيْعَةَ، وبه(7) قال مالكٌ والَّليْثُ والثَّوْرِيُّ والكوفيُّون والشَّافعيُّ وأبو ثَوْرٍ، وفيها قولٌ آخر، وهو أنَّ لها أن ترجع فيما أعطته، وليس له أنْ يرجع فيما أعطاها، رُوِيَ هذا عن شُرَيْحٍ والشَّعْبِيِّ والزُّهْرِيِّ.
          قال الزُّهْرِيُّ: ما رأيت القضاة إلَّا يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها، ولا يقيلون الرَّجل فيما وهب لامرأته.
          وروى عبدُ الرَّزَّاقِ عنِ الثَّوْرِيِّ، عن سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانيِّ قال: كتبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أنَّ النِّساءَ يعطينَ رغبةً ورهبةً، فأيَّما امرأةٍ أعطت زوجها فشاءَت أنْ ترجِع رجَعت، والقول الأوَّل أحسن لقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} الآية(8)[النِّساء:4]، ورُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طَالِبٍ ☺ أنَّه قال: إذا اشتكى أحدُكم فَلْيَسأل امرأته ثلاثةَ دراهمٍ، ويشتري بها عسلًا، ويأخذ مِنْ ماءِ السَّماءِ فيتداوى به، فيجمع هنيئًا مريئًا وماءً مباركًا، فلو كان لهنَّ فيه رجوعٌ لم يكن هنيئًا مريئًا، ألا ترى(9) ما وهبه أزواج النَّبيِّ صلعم له مِنْ أيَّامهن ولياليهنَّ، وأنَّه(10) يمرض في بيت عائشةَ، لم يكن لهنَّ فيه رجوعٌ؛ لأنَّه كانَ عن طيبِ نفسٍ منهنَّ، لا عن عوضٍ.
          واختلفوا فيما وهبَ(11) أحد الزَّوجين لصاحبه، هل يحتاج إلى حيازةٍ وقبضٍ؟ فقال ابنُ أبي ليلى والحَسَنُ البَصْرِيِّ: الصَّدقة جائزةٌ وإنْ لم يقبضها، وقال النَّخَعِيُّ وقَتَادَةُ: ليس بين الزَّوجين حيازةٌ. وقالَ ابنُ سِيرِينَ وشُرَيْحٌ ومَسْرُوقٌ والشَّعْبِيُّ: لا بدَّ في ذلك مِنَ القبضِ، وهو قول الثَّوْرِيِّ، والكوفيِّين والشَّافعيِّ ورواية(12) أَشْهَبُ عن مالكٍ.
          قال مالكٌ: إنَّ ما وهب الرَّجل لامرأته، والمرأة لزوجها وهو في أيديهما كما كان، إنَّه حوزٌ ضعيفٌ لا يصحُّ، وله قولٌ آخر، روى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ في «العتبية» في الرَّجلِ يهب لامرأته خادمًا ولا يخرجها عن البيت الَّذي هما فيه، ويهبها(13) دارًا يسكناها(14)، أو تهب له(15)، أنَّ ذلك جائزٌ للمرأة.
          وروى عيسى عن ابنِ القَاسِمِ في الرَّجل يهب لامرأته دارًا سكناها(16)، ثمَّ يسكنان بعد ذلك فيها، أنَّ للمرأة أن تفعل(17) مثل ذلك، / ففرق بينهما، قال: إذا كان الزَّوج الواهب فالصَّدقة غير تامَّةٍ؛ لأنَّ عليه أن يسكن زوجته، فكأنَّه هو مسكنها، فإذا(18) كانت المرأة الواهبة فالصَّدقة جائزةٌ؛ لأنَّه يسكن ما حوزه(19) لنفسه.


[1] زاد في (ز): ((فكلوه هنيئًا مريئًا)).
[2] قوله: ((وقَالَ اللهُ تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شيء مِنْهُ نَفْسًا})) جاء في (ز) بعد قوله ((وَاسْتَأْذَنَ النَّبيَّ صلعم نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِ عَائِشَةَ)).
[3] في (ز): ((وقال النَّبيُّ صلعم)).
[4] في المطبوع: ((خلبها)).
[5] في (ز): ((عن شيءٍ منه نفسًا)).
[6] في (ز): ((للآخر)).
[7] قوله: ((وبه)) ليس في (ص).
[8] في (ز): ((نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا)).
[9] زاد في (ز): ((أنْ)).
[10] في (ز): ((وأنَّ)).
[11] في (ز): ((وهبه)).
[12] في (ز): ((وهي رواية)).
[13] في (ز): ((أن يهبها)).
[14] في (ز): ((سكناهما)).
[15] زاد في (ز): ((ذلك)).
[16] في المطبوع: ((يسكناها))، وفي (ز) صورتها: ((سكناهما)).
[17] في (ز): ((أو المرأة تفعل)).
[18] في (ز): ((يسكنها وإذا)).
[19] في (ز): ((يحوزه)).