الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة

          3775- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ): أي: الحجبي البصري، وعبد في الموضعين مكبَّراً، وما وقعَ في رواية القابسي وعبدوس من تصغيرِ عبيد الله فخلافُ الصَّواب كما نبَّه عليه في ((الفتح)) فاعرفه.
          قال: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ): بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم؛ أي: ابن زيدٍ، قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ): بكسر الهاء (عَنْ أَبِيهِ): أي: عروةُ بن الزبير بن العوَّام (قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ): بفتح التحتية والفوقية والحاء المهملة والراء المشددة؛ أي: يقصدون (بِهَدَايَاهُمْ): أي: للنَّبي عليه السلام (يَوْمَ عَائِشَةَ): أي: لما يعلمون من مزيدِ محبَّةِ النبي عليه السلام لها.
          (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي): جمع: صاحبةٍ، وهي مؤنث، لكن لما كان جمع تكسيرٍ جاز ترك التاء من اجتمع، والمرادُ بهنَّ: زوجاتهُ عليه السلام / أمَّهات المؤمنين.
          (إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ): بفتحات، واسمها: هند، وهيَ من إحدى أمَّهات المؤمنين (فَقُلْنَ): أي: صواحبي لأمِّ سلمة، ولأبي ذرٍّ: <فقالوا> (يَا أُمَّ سَلَمَةَ، وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ وَإِنَّا): بتشديد النون للمتكلم ومعه غيره (نُرِيدُ الْخَيْرَ): بضم النون (كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ فمُرِي) بضم الميم وكسر الراء، أمرٌ مبني على حذف النون، والأصل: وأمري، فخفف بالنقل والحذف.
          (رَسُولَ اللَّهِ صلعم أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا): بضم التحتية أوله (إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ): بالدال المهملة والراء؛ أي: من بيوتِ نسائهِ (قَالَتْ): أي: عائشة (فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صلعم): أي: لمَّا دارَ إليها يوم نوبتها.
          (قَالَتْ): أي أمُّ سلمة (فَأَعْرَضَ): أي: النبي عليه السلام (عَنِّي): أي: عن كلامي المذكور ولم يلتفت إليه (فَلَمَّا عَادَ): أي: رسولُ الله (إِلَيَّ): بتشديد التحتية؛ أي: إلى بيتي ليومِ نوبتي (ذَكَرْتُ): بضم التاء (لَهُ ذَلكَ): أي: أعدتُ الكلام (فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ): أي: في المرة الثالثة التي عادَ إلى منزلي لأجل نوبَتي (ذَكَرْتُ): بضم الفوقية (لَهُ ذاك): ولأبي ذرٍّ: <ذلك> باللام.
          (فَقَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ): أي: الشَّأنُ والأمرُ (وَاللَّهِ): بالجر قسم (مَا نَزَلَ): أي: لم ينزل (عَلَيَّ): بتشديد الياء (الْوَحْيُ): فاعل: ((نزل))، وجملة: (وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا): حالية، واللِّحاف: بكسر اللام وبالحاء، ما يلتحفُ به؛ أي: يُغطَّى، وفي هذا الحديثِ والأمر المذكور مزيدُ شرفٍ لعائشةَ وفضلٌ لها وافتخار.
          وتقدَّم الكلام عليه مبسوطاً في الهبةِ، ووقع هناك ((فإنَّ الوحيَ لم يأتِني وأنَا في ثوبِ امرَأَةٍ إلَّا عائشَة)) قالتْ أمُّ سلمة: فقلت: أتوبُ إلى الله تعالى.
          وليس في هذا الحدثِ دليلٌ على فضلِ عائشةَ على خديجة لأمرين:
          أحدهما: احتمالُ أن لا يريد إدخالَ خديجةَ في هذا، بل أرادَ المخاطبةَ ومن أرسلنها.
          ثانيهما: على تقدير الدخول في الخاص، فلا يلزمُ من ثبوت خصوصيَّةِ شيءٍ من الفضَائل لها ثبوت الفضْلِ المطلقِ كحديث: ((أقرَؤُكم أُبيٌّ، وأفرضُكم زيدٌ)) الحديث كذا في ((الفتح))، وقال فيه: ومما يسألُ عنه: ما الحكمةُ في اختصاصِ عائشة بذلك؟ فقيل: لمكانِ أبيها، وأنَّه لم يكن يفارقُ النَّبي عليه السلام في أكثرِ أحوالهِ فسرى سرُّه لابنتهِ مع ما كان لها من مزيد حبِّه عليه السلام، وقيل: لأنها كانت تبالغُ في تنظيفِ ثيابها التي تنامُ مع النَّبي صلعم فيها والعلمُ عند الله تعالى، انتهى.
          ثمَّ قال: قال ابنُ التين: فيه أن الزَّوج لا يلزمهُ التَّسوية في النَّفقةِ، بل يفضل من شاءَ بعد أن يقومُ للأخرى بما يلزمهُ لها قال: ويمكنُ أن لا يكونَ فيه دليل لاحتمال أن يكونَ من خصائصِهِ، كما قيل: إن القسم لم يكنْ واجباً عليه، وإنما كان يتبرَّعُ به، انتهى.
          والمرجَّح عند الشافعية أنه / .
          وهذا الموضعُ آخرُ النصف الأول من صحيحِ الإمام البخاري كما نقله الكرماني عن المحقِّقين المعتنين بهذا الصَّحيح من الشيوخ المعتبرين، وابتداءُ النِّصف الثاني من مناقبِ الأنصارِ ♥ وعنا المولى الغفار.
          وكان ابتداءُ الشروعِ في هذا الشرح المبارك إن شاء الله من أول سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، وقد وصلنا إلى هذا الموضعِ أواخر سنة تسعة وخمسين ومائة وألف، فنسـألُ الله إكمالهُ والقبُول بجاهِ نبيِّنا محمَّد النَّبي الرَّسول صلعم وزاده فضْلاً وشرَفاً لديه.