الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل عائشة

          ░30▒ (باب فَضْلِ عَائِشَةَ ♦): قيل: إنما قال البخاريُّ: ذكر معاوية ومناقب فاطمة وفضل عائشة؛ لأنه أرادَ بذكرِ لفظ الفضلِ مراعاة لفظِ الحديثِ، وأما الذِّكرُ فهو أعمُّ من المناقب، انتهى.
          وأقول: والمناقبُ أعمُّ من الفضل، فتأمَّل.
          وعائشةُ هي الصِّدِّيقة بنت أبي بكرٍ الصِّديق ☻ وهي بهمزة بعد الألف، قال النَّووي: وهذا هو المشهورُ ولم يذكر الأكثرونَ غيره، وقال ابنُ الأعرابي: أفصحُ اللغاتِ عائشة بالألف، وحكيت عيشة بلغة فصيحةٍ، وهي مأخوذةٌ من العيشِ، انتهى.
          وقولُ القسطلاني كشيخِ الإسلام في بدءِ الوحي: وعوام المحدِّثين يبدلون الهمزة ياء، انتهى.
          ظاهرهُ أن إبدال الهمزة / ياءً مع ثبوت الألف قبلها، فتأمَّل.
          وأمُّ عائشة: أمُّ رُوْمَان _بضم الراء وقد تفتح فواو ساكنة_ واسمها: زينب بنت عامر بن عُويمر بن عبد شمس، وهي أم شقيقها عبد الرحمن بن الصديق، أسلمتْ قبل الهجرةِ وأدركت الإفك خلافاً لمن توهم أنَّها ماتت قبله، ولما ماتت نزلَ رسول الله صلعم في قبرها واستغفرَ لها وقال: ((اللهمَّ لم يخفَ عليكَ مَا لَقِيتْ أمُّ رومَانٍ فيكَ وفي رسولِكَ)).
          وكان مولدُ عائشة ♦ في الإسلامِ قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها وعقدَ عليها رسولُ الله صلعم بمكة قبل الهجرةِ بسنتين، وقيل: بثلاث سنين ودخلَ عليها في المدينة بعد رجوعهِ من غزوة بدرٍ في شوال سنة اثنتين من الهجرة، وقيل: في الأولى وهي بنتُ تسع سنين، ومات النَّبي عليه السلام عنها ولها نحو ثمانية عشر سنة وعاشتْ بعده نحو خمسين سنة.
          قال في ((الفتح)): ولم تلد للنَّبي عليه السلام شيئاً على الصَّواب وسألته أن تكتني فقال: ((اكتَنِي بابنِ أختِكِ)) فاكتنت: أمَّ عبد الله، قال: وأخرج ابنُ حبَّان في ((صحيحه)) من حديثِ عائشةَ أنه كنَّاها بذلك لما أحضرَ إليه ابن الزبير ليحنِّكه فقال: ((هو عبدُ اللَّهِ وأنتِ أمُّ عبدِ الله)) قالت: فلم أزل أُكنَّى بها.
          وهي كما مرَّ أحدُ الصَّحابة المكثرين لأخذِ الحديثِ عن رسولِ الله صلعم وهم ستَّةٌ، بل سبعةٌ على ما قال الزَّين العراقي: فإنه زادَ أبا سعيدٍ الخُدري وهو سعدُ بن مالك، والمكثرُ من زاد حديثهُ على ألفٍ، وقد نظم الجميعَ بعضُهم، وأجاد فقال:
سَبْعٌ مِنَ الصَّحْبِ فَوقَ الأَلْفِ قدْ نَقَلُوا                     مِنَ الحَدِيثِ عَنِ المخْتَارِ خَيرِ مُضَرِ
          أبُو هُرَيرَةَ سَعْدٌ جَابِرٌ أَنسٌ صِدِّيقَةٌ وابْنُ عبَّاسٍ كَذَا ابْنُ عُمَرَ
          وأكثرُ الناسِ الأخذ عنها أحكاماً وغيرها حتى قيل: إن ربعَ الأحكام الشرعيَّةِ منقولةٌ عنها.
          قال عطاءُ بن أبي رباح: كانت عائشةُ أفقَه الناس وأعلمَ الناس وأحسنَ الناس رأياً في العامَّةِ، وقال عروةُ بن الزُّبير: ما رأيتُ أحداً أعلم بفقهٍ ولا طبٍّ ولا شعرٍ من عائشة.
          وقال الزهريُّ: لو جُمِع علمُ عائشةَ إلى علمِ جميع أزواجِ النَّبي صلعم وعلم جميع النِّساءِ كان علمُ عائشةَ أفضل.
          قال القسطلانيُّ: ومن خصَائصها أنها كانتْ أحبَّ أزواجهِ إليه، وبرَّأها الله تعالى ممَّا رماها به أهلُ الإفكِ، وأنزل في عذرها، وبراءتها وحياً يُتلى في محاريبِ المسلمين إلى يومِ الدِّين، والحمد لله رب العالمين، انتهى.
          وقلت في ذلك:
لَقَدْ نَزَّهَ اللهُ النَّبيَّ وَصَانَهُ                     عَنِ الشَّينِ فِي نَفْسٍ وعِرْضٍ وفِي حَرَم
وأَنْزَلَ فِي نَصِّ الكِتَابِ بَرَاءَةً                     لِصِدِّيقَةِ المخْتَارِ حَقًّا وَمَا كَتَم
فَوَيْلٌ لمَنْ قَدْ خَاضَ فِيْهَا وَلَمْ يَتُبْ                     وَوَيْلٌ لَهُ مِنْ بَارِئِ الخَلْقِ والنِّسَم
          تتمة: لم تدخل عائشةُ ولا غيرها من أزواجهِ عليه السلام دمشق الشام سوى أمُّ حبيبة، فإنها دخلتها لزيارةِ أخيها مُعاوية وماتتْ فيها، وقيل: الصَّحيح أنها ماتت / بالمدينةِ، وكذا بقيَّة أزواجه الطَّاهرات سوى خديجة ♦، فإنها بمكَّة بالمصلى، وعلى ضريحها عمارةٌ مشرقةٌ بالنور، وقد زُرتها في بعضِ العصُور وكذلك زرت ضريحَ الصِّدِّيقة وغيرها من أمَّهات المؤمنين المدفونات في البقيعِ غفر الله لنا ببركة نبينا الشَّفيع.
          ودُفِنت عائشة ليلاً بوصيَّةٍ منها بعد أن صلَّى عليها أبو هريرة، لكونه كان أميرَ المدينة، وقد بسطْنَا الكلامَ في ترجمتها في أوائل شرحِ هذا الصَّحيح.