الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب مناقب فاطمة

          ░29▒ (باب مَنَاقِبِ فَاطِمَةَ ♦): ولأبي ذرٍّ: <عليها السلام> وسقطَ له لفظ: <باب> أي: بنتِ رسول الله صلعم من خديجةَ ♦، وأنَّ جميع أولادهِ عليه السلام منها، إلَّا إبراهيم فإنَّه من جاريتهِ ماريَّة القبطيَّة ♦، وقد وُلدت فاطمة في الإسلامِ سنة إحدى وأربعين من مولده عليه السلام، وقيل: قبل البعثة بسبعِ سنين وستَّة أشهر، وتزوَّجها عليٌّ ☺ بعد بدرٍ في السنة الثانية بعد وقعة أحدٍ، وولدت له الحسنَ والحسين ومحسِّناً _بكسر السين المهملة المشددة_ وزينب وأم كلثوم ورقيَّة، فماتت رقيَّة لم تبلغ ومات محسِّن صغيراً، ولم يتزوَّج عليٌّ ☺ غيرها، لكنَّه خطبَ بنتاً لأبي جهلٍ من غير عقدٍ ثم رجعَ عنها كما مرَّ.
          وكان سنُّها حين ابتنى بها خمسَ عشرة سنة ونصفاً وكان سنُّ عليٍّ يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، ولم يكن للنَّبي عليه السلام عقبٌ إلا من فاطمةَ من ولديها الحسن والحسين، وأكثرَ الله تعالى من هذا النَّسل المباركِ في الخافقين، وماتت سنة إحدى عشرة بعد النَّبي عليه السلام بستَّةِ أشهرٍ، وقيل: بل عاشتْ بعده ثمانية أشهر، وقيل: ثلاثة أشهر، وقيل: شهرٌ واحدٌ، ولها أربعٌ وعشرون سنة وقيل: ثلاثون سنة، وقيل: غير ذلك.
          وكانت وفاتها ليلة الثلاثاء لثلاث ليالٍ خلت من رمضان، وصلى عليها العبَّاس عمها، وقيل: أبو بكرٍ الصِّديق، وقال الكرمانيُّ: غسلها عليٌّ وصلى عليها ودفنها ليلاً بوصيَّتها، انتهى.
          وعبارةُ ((تهذيب)) النَّووي: وغسلها علي وأسماء بنت عُميس وصلَّى عليها علي، وقيل: العباس وأوصتْ أن تُدفَن ليلاً، ففعلَ ذلك بها ونزل في قبرها عليٌّ والعباس والفضْل بن العباس، ودفنتْ بالبقيع على الصَّحيح، وقيل: بالحجرةِ الشريفة في مكانٍ منفردٍ عنه عليه السلام وعن الشَّيخين، وقد زرناها في المكانين.
          وقال النَّووي: كنيتها أمُّ أبيها، روينا ذلك في ((تاريخ دمشق)) وذكرهُ خلائقُ من العلماء، والصَّحيحُ أنها أصغرُ بنات رسول الله صلعم سنًّا، وقيل: رقيَّةُ أصغرهنَّ، وقيل: أصغرهنَّ أم كثلوم، والصَّحيح الأول، انتهى.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم): مما وصله المصنِّف في علامات النُّبوة مطوَّلاً (فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ): وروى الحاكمُ بسندٍ جيِّدٍ من حديثِ حذيفة قال: أتى النَّبي صلعم ملكٌ، وقال: إنَّ فاطمةَ سيِّدةُ نساءِ أهل الجنة.
          وروى النَّسائي عن ابن عبَّاسٍ، عن النبي صلعم أنَّه قال: ((أفضلُ نساءِ أهلِ الجنَّةِ: / خديجَةُ بنتُ خويلدٍ، وفاطمةُ بنتُ محمَّدٍ)) والحديثُ صحيحٌ، وهو ظاهرٌ في أنَّ فاطمةَ وأمها أفضلُ نساءِ أهل الجنَّةِ، وظاهرهُ أفضليتهما على نحوِ مريم وآسية، وحديثُ الصَّحيح والحاكم يقتضي تفضيلَ فاطمةَ على الجميع حتى على أمِّها، لكن قال التَّقي السبكي: الذي نختارهُ وندينُ الله به أن فاطمةَ أفضلُ، ثم خديجة، ثم عائشة، ولم يخفَ عنا الخلاف في ذلك، ولكن إذا جاء نهرُ الله بطلَ نهرُ معقل.
          وقال في ((الفتح)): وتقدَّم آخر أحاديث الأنبياء ما وردَ في بعضِ طرقهِ أنَّ مريم عليها السلام مشاركةٌ لفاطمة في ذلك، وقال فيه أيضاً: وأقوى ما يستدلُّ به على تقديمِ فاطمة على غيرها من نساءِ عصرها ومن بعدهنُّ، ما ذُكِر من قوله صلعم: ((أنها سيدة نساءِ العالمين إلَّا مريم، وأنها رزئت بالنَّبي صلعم دون غيرها من بناتهِ، فإنهنَّ متنَ في حياته فكنَّ في صحيفته، ومات هو في حياتها فكانَ في صحيفتها)) قال: وكنت أقولُ ذلك استنباطاً إلى أن وجدتُه منصوصاً.
          قال أبو جعفرٍ الطَّبري في تفسير ((آل عمران)) من ((التفسير الكبير)) من طريقِ فاطمة بنت الحسين بن عليٍّ أن جدَّتها فاطمة قالتْ: دخلَ رسول الله صلعم يوماً وأنا عند عائشةَ فناجاني فبكيتُ، ثمَّ ناجاني فضحكتُ فسألتني عائشةُ عن ذلك فقلت: لقد علمتِ ما أخبركِ بسرِّ رسول الله صلعم فتركتني، فلمَّا توفِّي قالت: فقلت: ناجاني... فذكر الحديث في معارضة جبريلَ له بالقرآنِ مرَّتين وقال: ((أحسَبُ أنِّي ميِّتٌ في عَامِي هذَا، وأنَّهُ لم تُرْزَأ امرَأَةٌ من نسَاءِ المسلِمين مثل ما رُزِئتِ فلا تكوني دونَ امرَأَةٍ منهنَّ صبراً)) فبكيتُ، فقال: ((أنتِ سيِّدةُ نسَاءِ أَهلِ الجنَّةِ إلَّا مريمُ)) فضحكت، انتهى.
          قال في ((منحة الباري)): ولا يعارضهُ خبر النَّسائي، وذكرَ الحديث المارَّ عنه آنفاً؛ لأن خديجة وفاطمةَ وإن اشتركا في أفضليَّتهما على بقيَّة النساء، لا يقتضِي المساواة بينهما، فيصدقُ بأن فاطمةَ أفضلُ للحديث المذكور هنا.
          ثمَّ قال: والذي أختارهُ الآن أن الأفضليَّةَ محمولةٌ على أحوالٍ فعائشةُ أفضلهنَّ من حيث العلم، وخديجةُ من حيث تقدُّمها وإعانتها له صلعم في المهمَّات، وفاطمة من حيثُ القرابة، ومريم من حيثُ الاختلاف في نبوَّتها وذكرها في القرآنِ مع الأنبياءِ عليهم السلام، وعلى ذلك تنزلُ الأخبار الواردةُ في أفضليتهنَّ، انتهى.
          وقد تقدم الكلامُ على ذلك مبسوطاً أيضاً في بدءِ الوحي مع فوائدَ أخرى.