الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ذكر ابن عباس

          ░24▒ (بابُ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻): سقطَ لفظ: <باب> وحدَه لأبي ذرٍّ، عبر بالذِّكر دون مناقب تفنناً، وقال العينيُّ: لأنه عقدَ له باباً في كتاب العلمِ، انتهى فتأمَّله.
          وابن عبَّاسٍ إذا أُطلِق ينصرفُ إلى عبد الله، وإلا فأولادُ العبَّاسِ عشرةٌ كما مرَّ، ووُلِد قبل الهجرة بثلاثِ سنين بالشَّعب قبلَ خروجِ بني هاشمٍ فيه، ويكنى بأبي العبَّاس بأكبرِ أولاده، وكان يقالُ لابن عبَّاس: حبر الأمة، والبحر؛ لكثرة علمهِ، ودَعا له رسولُ الله صلعم بالحكمةِ، وحنَّكهُ رسولُ الله صلعم بريقهِ الشَّريف حين ولد وسمَّاهُ: تُرجُمان القرآنِ، وكان طويلاً أبيضَ جسيماً صبيحَ الوجهِ، وكان من أعلمِ الصَّحابةِ بتفسيرِ القرآنِ حتَّى كان عمر يقدِّمهُ مع الأشياخِ وهو شابٌّ.
          قال مسروقٌ: كنتُ إذا رأيتُ ابن عبَّاسٍ قلت: أجملُ الناس فإذا تكلَّمَ قلت: أفصح الناس، وإذا تحدَّث قلت: أعلمُ الناس.
          وقال ابنُ مسعود: نعم، ترجمانُ القرآنِ ابن عباس.
          وعاشَ بعد ابنِ مسعودٍ نحو خمس وثلاثين سنة تشدُّ إليه الرِّحال، ويقصدُ من جميعِ الأقطار وقال فيه عُمر بن الخطاب: عبدُ الله بن عباس فتى الكُهُول له لسانٌ سؤول وقلبٌ عقولٌ.
          وقال طاوس: أدركتُ نحو خمسمائةٍ من الصَّحابة إذا ذكروا ابن عبَّاسٍ فخالفوهُ لم يزل يقرِّرُهم حتى ينتهوا إلى قوله.
          وقال عطاء: كان ناسٌ يأتون ابن عبَّاسٍ في الشعر والأنساب، وناسٌ يأتونَ لأيَّامِ العرب ووقائعها، وناسٌ يأتونَ للعلمِ والفقهِ فما منهم صنفٌ إلا يقبل عليهم بما شاؤوا.
          وقال عبيدُ الله بن عبد الله بن عتبة: ما رأيتُ أعلم من ابن عبَّاسٍ مما سبقهُ أعلم من حديث رسول الله صلعم، وبقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، ولا أفقه منه وأعلمَ بتفسيرِ القرآن وبالعربية والشِّعر والحساب والفرائض، وكان يجلسُ يوماً للتَّأوِيل ويوماً للفقه ويوماً للمغازي ويوماً للشعر ويوماً لأيام العرب، وما رأيتُ عالماً جلسَ إليه إلا خضعَ له ولا سألهُ إلا وجدَ عنده علماً.
          مات بالطَّائف سنة ثمان وستين، وهو ابنُ سبعين سنة، وصلَّى عليه محمَّد بن الحنفيَّة، وقال: اليوم مات ربَّانيُّ هذه الأمَّة، وعمِي في آخر عمرهِ، وكذا والده العبَّاس وجده عبدُ المطلب، وفي ذلك يقول:
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنِي نُورَهُمَا                     فَفِيْ فُؤَادِيْ وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُوْرُ
قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِيْ دَخَلٍ                     وَفِيْ فَمِيْ صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَشْهُورُ
          وممَّا وقعَ له ☺ ما رويناهُ كما ذكرهُ النَّووي عن ميمون بن مهران قال: شهدتُ جنازة ابن عبَّاس، فلما وُضِعَ ليُصلَّى عليه جاء طائرٌ أبيض، فوقعَ على أكفانهِ ودخل فيها فالتُمِس الطَّائر فلم يوجد، فلما سُوِّي عليه التراب سمعنا من نسمعُ صوتهُ ولا نَرى شخصهُ، يقرأ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30] وهو أحدُ المكثرين لروايةِ الحديث عن رسولِ الله صلعم، ومناقبه كثيرةٌ شهيرةٌ.