الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لما بعث علي عمارًا والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم

          3772- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ): هو: بندارُ العبدي، قال: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ): أي: محمد بن جعفرٍ، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): أي: ابن الحجاج (عَنِ الْحَكَمِ): بفتحتين؛ أي: ابن عُتيبة (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ): هو: شقيق بن سلمة.
          (قَالَ: لَمَّا بَعَثَ): بفتحات (عَلِيٌّ): أي: ابنُ أبي طالب (عَمَّاراً): بفتح العين وتشديد الميم؛ أي: ابن ياسر (وَالحَسَنَ): بفتح الحاء والسين المهملتين؛ أي: ابن عليٍّ (إِلَى الْكُوفَةِ): أي: إلى أهلها (لِيَسْتفِزَّهُمْ): بكسر اللام للتعليل وفتح التحتية والفوقية بينهما سين مهملة وكسر الفاء وتشديد الزاي، وفي بعضِ الأصول: <ليستنفرهم> بنون ساكنة بعد الفوقية وبكسر الفاء وبالراء؛ أي: ليطلب خروجهم إلى نصرة عليٍّ في مقاتلةٍ كانت بينه وبين عائشةَ بالبصرة في وقعةِ الجمل التي قُتِل فيها خلقٌ كثيرٌ من الجانبين نحو ثلاثة عشر ألفاً أو أكثر، وقُتِل من أصحاب الجمل ثمانية آلاف، وقيل: سبعة عشر ألفاً ومن أصحاب عليٍّ ☺ نحو ألفٍ وقطع عليٌّ خطامَ الجمل الذي كانت عائشةُ راكبة له نحو ثمانين كفاً فلا حول ولا قوة إلا بالله / .
          وحصلت النصرة لعليٍّ فجهز مع عائشة جيشاً مع أخيها محمَّد وردَّها إلى المدينةِ آمنةً ومعها أخوها محمَّد تحقيقاً لما أخبر به عليه السلام، فقد روى البزَّار بسندٍ رجاله ثقاتٌ عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلعم قال لنسائه: ((أيَّتكُنَّ صاحِبَةُ الجمَلِ الأَدْبَبِ، تخرُجُ حتَّى تنبَحَهَا كِلابُ الحَوْأَبِ، يُقتَلُ عن يَمينِها وعَن شِمَالِها قَتْلَى كَثِيرةٌ، وتَنجُو بعدَما كادَتْ)).
          وروى أحمدُ والطَّبراني عن أبي رافعٍ أنَّ النَّبي صلعم قال لعليٍّ: ((سيكُونُ بينَكَ وبين عائشةَ أمرٌ)) قال: فأنا أشقاهُما يا رسول الله؟ قال: ((لا، ولكن إذَا كَانَ ذلك فاردُدْهَا إلى مَأمَنِها)) وروى نعيمُ بن حمَّادٍ في الفتن بسندٍ صحيحٍ عن طاوس: أنَّ رسولَ الله صلعم قال لنسائهِ: ((أيَّتكُنَّ تنبحَهَا كلابُ حوْأَب؟)) فضحكتْ عائشة متعجِّبةً فقال: ((انظُرِي لَا تكُونِي يا حُمَيرَاء)).
          والحَوْأَب: بفتح الحاء المهملة فواو ساكنة فهمزة مفتوحة فموحدة، اسم موضعٍ بالبصرةِ.
          والأَدْبَب: بفتح الهمزة وسكون الدال المهملة فموحدتين أولاهما مفتوحة؛ أي: كثير الشعر مطلقاً أو للوجه.
          وستأتي القصَّةُ إن شاء الله في الفتن مبسوطة.
          وقوله: (خَطَبَ عَمَّارٌ): أي: ابن ياسر؛ أي: بعدَ أن دخلَ هو والحسنُ بن عليٍّ مسجد الكوفةِ وصعدا المنبرَ ووقف الحسنُ في أعلاه وعمَّار بن ياسرٍ في أسفله (فَقَالَ): أي: عمَّار في خطبته (إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّهَا): أي: عائشة (زَوْجَتُهُ): أي: النَّبي صلعم (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ): لما في حديثٍ رواه ابن حبَّان عن عائشة أن النبي صلعم قال لها: ((أمَا ترضَينَ أن تَكُونِي زَوجَتِي في الدُّنيا والآخِرَة؟)) ولعلَّ عماراً كان سمعَ هذا الحديثَ من النبي صلعم.
          (وَلَكِنَّ اللَّهَ): اسم ((لكن)) المشددة (ابْتَلاَكُمْ): أي: أيَّتُها الأمة (لِتَتَّبِعُوهُ): بكسر لام التعليل وفتح الفوقية الأولى وسكون الثانية ويجوز تشديدها، وضمير ((لتتبعوه)) المنصوب عائدٌ إلى ((الله))، وقيل: إلى عليٍّ، المعلوم من المقام؛ أي: فلا تخرجوا عليه وأطيعوه.
          وقال في ((الفتح)): والذي يظهرُ أنَّه لله، والمرادُ باتباع الله اتِّباعُ حكمه الشَّرعيِّ في طاعةِ الإمام وعدمِ الخروجِ عليه، ولعلَّهُ أشارَ إلى قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فإنه أمرٌ حقيقيٌّ خوطبَ به أزواجُ النَّبي صلعم، ولهذا كانت أمُّ سلمة تقول: لا يحركني ظهرُ بعيرٍ حتى ألقَى النَّبيَّ صلعم، والعذرُ عن عائشةَ في ذلك أنها كانت متأوِّلةً هي وطلحة والزبير، وكان مرادهم إيقاعُ الإصلاحِ بين الناس، وأخذُ القصاصِ من قتلة عُثمان، وكان عليٌّ رأى على الاجتماع على الطَّاعةِ وطلب أولياء المقتول القصاصَ ممن يثبتُ عليه القتلُ بشروطه، انتهى.
          (وإِيَّاهَا): أي: عائشة أي: فتكونوا معها.
          وفي لفظٍ في غير الصَّحيح أن عماراً قال: إن أميرَ المؤمنينَ بعثنا إليكم يستنفِرُكم، فإن أُمَّنا قد سارتْ إلى البصرة، والله إني أقولُ لكم هذا، ووالله إنها لزوجةُ نبيِّكُم في الدنيا والآخرة، ولكنَّ اللهَ ابتلانا ليعلمَ إيَّاه نطيعُ أو إيَّاها، / ولم يذكر البخاريُّ ما قال الحسنُ، وقد جاء أنَّه قال: إنَّ أميرَ المؤمنين يقولُ: إني أذكر الله رجلاً رعى لله حقًّا إلا نفرَ، فإن كنتُ مظلوماً أعانني، وإن كنتُ ظالماً أخذَ منِّي، والله إن طلحة والزُّبير لأول من بايعاني ثمَّ نكثا، ولم أستأثر بمالٍ ولا بدَّلت حكماً، فخرجَ إليه اثنا عشر ألف رجل.