الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

          3650- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا): بالجمع لأبي ذرٍّ (إِسْحَاقُ): أي: ابن راهويه، قال: (حَدَّثَنَا): ولأبي ذرٍّ: <أخبرنا> (النَّضْرُ): بفتح النون وسكون الضاد المعجمة؛ أي: ابن شُميل _بالشين_ مصغراً قال: (أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ): أي: ابن الحجَّاج (عَنْ أَبِي جَمْرَةَ): بفتح الجيم وسكون الميم، هو: نصرُ بن عمران الضُّبعي، التابعي.
          (قال: سَمِعْتُ زَهْدَمَ): بفتح الزاي والدال المهملة بينهما هاء ساكنة (ابْنَ مُضَرِّبٍ): بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة فموحدة، الجَرمي _بفتح الجيم_ التابعي، قال: (سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ): بالتصغير (☺، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: خَيْرُ أُمَّتِي): أي: أفضلهم (قَرْنِي): بفتح القاف وسكون الراء خبر ((خير)) ولا حاجة لتقدير أهل مضاف إليه، كما قدره الشراح مع قولهم: إنه أهل زمان واحد متقاربٍ، اشتركوا في أمرٍ من الأمور، وإنما يحتاج إلى المضاف إذا فسَّرنا القرن بمدَّة من الزمان مخصوصٌ كمئة سنة، واختلف في تحديدها، قيل: عشرة أعوام إلى مئة وعشرين.
          قال في ((الفتح)): لكني لم أر من صرَّح بالسبعين ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائلٌ، ووقعَ في حديث عبد الله بن بُسْر عند مسلم ما يدلُّ على أن القرنَ مئة وهو المشهور، وقال صاحب ((المطالع)): القرنُ: أمَّة هلكتْ فلم يبق منهم أحدٌ، ولم يذكر صاحب ((المحكم)) الخمسين، / وذكر من عشرة إلى سبعين.
          وقال: هذا القدرُ المتوسِّط من اعتبار أهلِ كلِّ زمنِ، وهذا أعدلُ الأقوال، وبه صرَّح ابنُ الأعرابي وقال إنه: مأخوذٌ من الأقرانِ، ويمكن أن يحملَ عليه المختلف من الأقوال المتقدِّمة، والمراد بقَرْن النبي صلعم في هذا الحديث الصَّحابة ♥، وسبقَ في صفة النَّبي صلعم قول: ((وبعثتُ من خيرِ قرونِ بني آدم)).
          وفي رواية بريدة عند أحمد: ((خير هذه الأمَّة القرن الذي بُعثت فيهم، وقد ظهرَ أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصَّحابة مئة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليلٍ على الاختلاف في وفاةِ أبي الطُّفيل عامر بن واثلةَ اللَّيثي فإنه آخرُ من مات من الصَّحابة كما جزمَ به مسلم في ((صحيحه)) وكان موته سنة مئة، وقيل: سنة سبع ومئة، وقيل: سنة عشر ومئة، وهو موافقٌ لقوله صلعم قبل وفاتهِ بشهر على رأسِ مئة سنة: ((لا يبقَى على وجهِ الأرضِ ممَّن هو عليها اليوم أحدٌ)) وإن اعتبر ذلك من وفاتهِ عليه السلام فيكون مئة سنة أو سبعين أو سبعاً وتسعين، وأمَّا قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مئة كان نحو سبعين أو ثمانين.
          وأما الذين بعدَهم فإن اعتبر منها كان نحواً من خمسين فظهرَ بذلك أن مدَّة القرن مختلف باختلاف أعمارِ أهل كلِّ زمان، واتَّفق أن آخر من كان من أتباعِ التابعين ممن يقبلُ قوله: من عاش إلى حدود العشرين ومئتين، وفي هذا الوقت ظهرتِ البدعُ ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعتِ الفلاسفة رؤوسها، وامتحنَ أهلُ العلم ليقولوا بخلق القرآنِ، وتغيَّرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزلِ الأمر في نقصٍ إلى الآن، وظهر قوله صلعم: ((ثم يفشُوا الكذبُ ظهوراً بيِّناً حتى شملَ الأقوالَ والأفعالَ)) والله المستعانُ في سائر الأحوال.
          وقوله: (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ): فهم التابعون (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ): وهم أتباعُ التابعين، وهذا الحديث صريح في أن الصَّحابة أفضلُ من التابعين، وأن التابعين أفضلُ من تابعي التابعين، لكن هذه الأفضليَّة بالنسبة للمجموع أو الأفراد، وإلى الثاني نحى الجمهورُ، وإلى الأول ابنُ عبد البر، فقال: قد يكون فيمَن يأتي بعد الصَّحابة أفضل ممن كان في جملةِ الصَّحابة.
          وقال: إن قوله عليه السلام: ((خيرُ القرونِ قرني)) الحديث ليس على عمومهِ بدليل أنَّ القرن يجمعُ بين الفاضل والمفضولِ، وأنَّ قرنه فيه جماعة من المنافقين وأهلِ الكبائر الذين أقام عليهم الحدود، وبدليل ما روى أبو أمامة أنه عليه السلام قال: ((طُوبى لمن رآني وآمنَ بي وطُوبى / سبعَ مرَّات لمن لم يرني وآمَن بي)) وما روى أبو داود الطَّيالسي في ((مسنده)).
          عن عمر ☺ قال: كنتُ جالساً عند النَّبي فقال: ((أتدرون أي الخلقِ أفضلُ إيماناً)) قلنا: الملائكة، قال: ((وحقَّ لهم بل غيرُهم)) قلنا: الأنبياء قال: ((وحقَّ لهم بل غيرُهم)) ثم قال صلعم: ((أفضلُ الخلقِ إيماناً قومٌ في أصلابِ الرجالِ يؤمنونَ بي ولم يروني، فهم أفضلُ الخلق إيماناً)) وما روى أحمدُ والدَّارمي بإسناد حسنٍ وصحَّحه الحاكم: قال أبو عُبيدة: يا رسول الله أهلُ أُحُد خير منَّا، أسلمنَا معك وجاهدْنَا معك، قال: ((قومٌ يكونون بعدَكُم يؤمنونَ بي ولم يَرَوني))، وما روي: ((للعامل منهم أجرُ خمسين منكم)).
          واحتجَّ أيضاً بما رواه الترمذيُّ، وقال: حسنٌ عن أنس بسند قويٍّ وصحَّحه ابن حبَّان من قوله عليه السلام: ((مثلُ أمَّتي مثلُ المطرِ لا يدرى أوَّله خيرٌ أم آخرُه)) وفيه أحاديث أخر تدلُّ لما قاله، فعليك بـ((الفتح)).
          وأُجيب: بأن الحقَّ ما عليه الجمهور لأنَّ الصُّحبة لا يعدلها شيءٌ، وبأن حديث الصَّحيح أرجحُ فهو مقدَّم على غيره مع أنَّ كلام ابن عبد البرِّ ليس على إطلاقهِ فقد صرَّح هو باستثناء أهل بدرٍ والحديبية.
          وقال في ((الفتح)): والذي يظهرُ أن من قاتل مع النَّبي أو في زمانهِ بأمره، أو أنفقَ شيئاً من ماله بسببهِ لا يعدلُه في الفضلِ أحدٌ بعدَه كائناً من كان، وأمَا من لم يقعْ له ذلك فهو محلُّ البحثِ، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] الآية.
          قَالَ: (عِمْرَانُ): أي: ابن حُصين، بالسَّند السابق (فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ): بفتحات؛ أي: النَّبي عليه السلام (بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ): ولأبي ذرٍّ: <مرَّتين> بدل: ((قرنين)) (أَوْ ثَلاَثًا): بالشَّك من الصَّحابي، وفي نسخة: ((أو ثلاثة)) ولمسلم عن عائشة: قال رجل: يا رسول الله، أي الناس خيرٌ قال: ((القَرن الذي أنا فيه ثمَّ الثاني ثمَّ الثالث)) من غير شكٍّ كأكثر طُرق الحديث.
          (ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ) بالكاف (قَوْمًا): بالنصب، وقال في ((الفتح)): ولبعضِهم: ((قوم)) بالرفع، قال: ويحتملُ أنه من النَّاسخ على طريقةِ من لا يكتب الألف في المنصوب، ووجهه العينيُّ على أنه فاعل فعل محذوفٍ تقديرُه: إن بعدكُم يجيء قوم. انتهى.
          وأقول: لعل رفعه على أنه مبتدأ مؤخَّر و((بعدكم)) خبر مقدَّم، واسم ((إن)) ضَمير الشأن والجملةُ خبر ((إن)). فتدبَّر.
          وجملة: (يَشْهَدُونَ): بفتح أوله (وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ): بالسين المهملة والبناء للمفعول صفة ((قوماً)) ومعنى الجملة الثانية أنهم يتحمَّلون الشهادة من غير تحميلٍ، والأقربُ أنهم يؤدُّونها من غير طلبٍ (وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ): أي: لخيانتهم الظَّاهرة.
          (وَيَنْذُرُونَ): بفتح أوله وضم الذال المعجمة، ولأبي ذرٍّ بكسرها (وَلاَ يَفُونَ): بالفاء من غير واو قبلها، ولأبي ذرٍّ: <يوفون> بواو؛ أي: بالنَّذر فلم يعملوا بقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] / (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ): بكسر السين المهملة؛ أي: بكثرة.