نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًا إلا سلك

          3294- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المعروف بابن المدينيِّ، قال: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) قال: (حَدَّثَنَا أَبِي) هو: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ☺ / (عَنْ صَالِحٍ) هو: ابنُ كيسان (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلمٍ الزهريِّ، أنَّه قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ) أي: ابن الخطاب، وزيد هذا هو أخو عمر ☺ (أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) قتله الحجَّاج (أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَاهُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) أحدُ العشرة المبشرة ♥ .
          (قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ ☺ عَلَى النَّبِيِّ صلعم وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ) أي: يكلِّمن رسول الله صلعم (وَيَسْتَكْثِرْنَهُ) أي: يطلبن كثيراً من كلامه وجوابه، ويحتمل أن يكون من العطاء، ويؤيِّده: أنَّه ورد في رواية: ((أنَّهنَّ يردن النَّفقة)) (عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ) برفع أصواتهنَّ على أنه فاعل عالية؛ لاعتماده على ذي الحال، ويُحْمَلُ ذلك على أنَّه كان قبل النَّهي عن رفع الصوت، أو يُحْمَلُ على أنَّه لاجتماعهنَّ حصل لغطٌ من كلامهنَّ، أو يكون فيهنَّ من هي جهيرة الصَّوت، أو يُحْمَلُ على أنهنَّ لمَّا عَلِمْنَ عَفْوَه وصَفْحَه صلعم تَسمَّحْنَ في رفع الصوت.
          (فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ ☺ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ) أي: يتسارعن، والجملة حال من الضمير في قُمْنَ (فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلعم ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلعم يَضْحَكُ) والجملة الاسمية حالية (فَقَالَ عُمَرُ ☺: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) هذا ليس دعاء بكثرة الضَّحك حتى يعارضه قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} [التوبة:82]، بل المراد لازمه وهو السُّرور، أو الآية ليست عامة شاملة له صلعم كما قال الكرماني، إلَّا أنَّ فيه نظراً، والوجه هو الأوَّل.
          (قَالَ) صلعم : (عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَّتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، قَالَ عُمَرُ ☺: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ) بفتح الهاء، من الهيبة.
          (ثُمَّ قَالَ) أي: عمر ☺ (أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِي وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلعم ؟ قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلعم ) الأفظُّ والأغْلَظُ: يقتضي الشركة في أصل الفعل، / فيلزم أن يكون صلعم فظًّا وغليظاً، وقد نفى الله عنه ذلك بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
          فإمَّا أن يقال: أنَّه لا يلزم منه إلَّا نفس الفظاظة والغلظة، وهي عبارةٌ عن شدَّة الخلق وخشونة الجانب، وهو أعمُّ من أن يكون فظًّا غليظاً؛ لأنَّهما صفة مشبَّهة تدلُّ على الثُّبوت، والعام لا يستلزم الخاص، كذا قال الكِرماني، وفي النَّفس منه قَلَقٌ. ويمكن أن يقال: إنَّ الأفعل هنا ليس بمعنى الزيادة، بل هو من قبيل قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم:32].
          والأوجه أن يقال: إنَّه على المفاضلة، وأنَّ القدر الذي بينهما هو ما كان على الكفار والمنافقين، قال الله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، أو المراد: التَّغليظ في إجراء حدود الله وإقامتها، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، والله تعالى أعلم.
          (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكاً فَجّاً) بفتح الفاء وتشديد الجيم؛ أي: طريقاً واسعاً، وقيل: هو الطريق بين الجبلين (إِلَّا سَلَكَ فَجّاً غَيْرَ فَجِّكَ) قال القاضي عياض: يُحْتَمَل أنَّه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وأعوانه من عمر ☺، وأنَّه لا سبيل لهم عليه؛ أي: إنَّك إذا سلكْتَ في أمرٍ بمعروفٍ، أو نهي عن منكر تنفِّذه، ولا تتركه، فييأس الشَّيطان من أن يوسوس فيه، فتتركه وتسلك غيره.
          وليس المراد به: الطَّريق على الحقيقة؛ لأنَّ الله تعالى قال: {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فلا يصادفه إذاً في فجٍّ؛ لأنَّه لا يراه. قال الكرمانيُّ: فإن قلت: فيلزم منه أن يكون عمر ☺ أفضل من أيُّوب النبي ◙، إذ قال: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41].
          قلت: لا، إذ التركيب لا يدلُّ إلَّا على الزمان الماضي، وذلك أيضاً مخصوصٌ بحال الإسلام، فليس على ظاهره، وأيضاً هو مقيَّدٌ بحال سلوك الطريق، فجاز أن يلقاه في غير تلك الحالة. انتهى.
          وقال العينيُّ: الجواب الأخير موجَّهٌ ليس إلا.
          وفي الحديث: فضل لين الجانب والرفق. وفيه: فضل عمر ☺. وفيه: حلم النبي صلعم غاية ما يكون. وفيه: أنَّه لا ينبغي الدُّخول على أحدٍ إلَّا بالاستئذان.
          وقد أخرجهُ البخاري في فضل عمر ☺ أيضاً [خ¦3683]، / وأخرجهُ مسلمٌ في الفضائل، والنسائيُّ في المناقب، وفي ((اليوم والليلة))، وفي الإسناد أربعةٌ من التابعين، وهم صالح ومن بعده.